داء الحضارة "الترف"

أضع بين أيديكم هذه الإحصاءات المؤلمة، وللأمانة فبعضها قديم قبل عدة سنوات وبعضها حديث عهد، وبعضها موثق من جهات معتبرة، والأخر من الصحف والمجلات، تقول هذه الإحصاءات: "إنه من 55 إلى 60 % من نسائنا هنا بدينات، وإنه من45% إلى 50% من رجالنا هم سمان".

وتتحدث هذه الإحصاءات بألم عن أن نساءنا استهلكن في عام واحد أكثر من 548طنا من أحمر الشفاه، وأكثر من 39طنا من طلاء الأظافر، وأكثر من 31 طن من مزيلات الطلاء، وأكثر من220 طنا من مسحوق تجميل العيون، وأكثر من345 طنا من مواد صبغة الشعر، وتعلمنا أنه أنفق في بلادنا من 1200 - 1500 مليون ريال على العطور في حول واحد، وتحكي بذهول وغرابة أن 80% من شعبنا يرتادون مطاعم الوجبات السريعة، ولستم بحاجة للتذكير، بالمستقبل الصحي المخيف لمرتادي هذه المطاعم، وتنطق هذه الإحصاءات بحسرة وألم لتخبرنا بأن 4مليون سائح من بني قومنا ساحوا في الأرض، خارج الوطن في سنة واحدة، وأنفقوا أكثر من 35 مليار ريال، وتنبهنا هذه الأرقام بأن معدل ما يقضيه الفرد منا، أمام شاشة التلفزيون أسبوعيا، أكثر من 26ساعة.

وأن الطعام الفائض عن حاجتنا في مدينة جدة وحدها، والقابل للأكل، والذي يأخذ طريقه، إما إلى أن يتحول إلى دهون متراكمة في أجسامنا، وإما إلى صناديق النفايات، يكفي لإطعام الصوماليين، الذين يموتون جوعاً، وتطرق هذه الإحصاءات أجراس الخطر، لتنذرنا بأن نسبة المصابين بمرض السكري والذين تجاوزت أعمارهم الخمس والأربعين بلغت 45% و20% لعامة الشعب، أي أن هذا المرض والذي هو مرتع خصب لكثير من الأمراض وصل إلى مرحلة أطلاق صفارات الإنذار لأنه أصبح وباء يهدد حياتنا، فإلى الله المشتكى وهو المستعان.

كل هذه الإحصاءات تشير، إلى آفة عظيمة، ومصيبة عميمة، وعاقبة وخيمة، ألا وهي الترف والإسراف، الترف الذي هو مجاوزة الحد في الأخذ من ملذات وشهوات هذه الدنيا، الترف الذي يتردى بصاحبه من حيث يحسب انه يرتقي، فيحيله مدللا الجسم، مائع الإرادة، رخو الهمة، لين العزيمة، همه الأول والأخير، التزود من متع الدنيا، والتكثر من زهرتها، الترف الذي قد تجده في صورة من يأكل حتى يفقد لذة الأكل، فيصاب بالسمنة وتوابعها من الأمراض، ولذة الأكل لا يدركها إلا من ذاق ألم الجوع، وقد تجده في صورة من يكتسي بأغلى الثياب وأثمنها وأجملها حتى يمل، وقد تجده في صورة من يركب المراكب الفارهة ويتكثر منها حتى يكل، وقد تجده في صورة من يتباهى بسكنى البيوت الفارهة والدور الفخمة ويتوسع في اقتنائها، فبيت للصيف وآخر للشتاء، وبيت للنزهة وأخر للفسحة وهكذا، وقد كان يكفيه منها الشيء القليل.

وقد تجد الترف في صورة من يهتم بمنظره، ومظهره، فيريق ماله على عتبة الموضة، ويرهق نفسه طلبا للوسامة، حتى إنه لينفق جل دخله على زينته "وبرستيجه" كما يقولون، وقد يطل عليك بصورة الاستدانة من البنوك والشراء بالتقسيط، والقروض الشخصية أصبحت بالمليارات حتى أصبح ما يقارب من ثلث شعبنا مديناً للبنوك، وقد تجده في صورة حمى الشراء أو" النهم الاستهلاكي" الذي أصيب به الكثير منا و الإدمان على الشراء لا يقل خطراً ودماراً نفسياً عن خطر الإدمان على الكحول.

وقد يظهر لك الترف في صورة تبديد الثروات، واستهلاك الموارد، وتنضيب الطاقات، ليصبح المجتمع مجتمعا استهلاكي بذخيا إتكاليا، غير منتج، سرعان ما تتلاشى موارده، وتنضب ثرواته، وقد يطل عليك الترف في صورة أناس سلموا عقولهم غنيمة باردة لوسائل الدعاية والإعلان، فأصبحت تنتهك حرمات جيوبهم، وتهتك أستار أخلاقهم عبر غمسهم في مستنقع الشراء المحموم والاستهلاك المجنون.

وقد يظهر لك الترف في صورة من لا يهتم إلا بتوافه الأمور من متاع الدنيا من تسوق ولعب وترفيه ومسامرة ونزهة وزيارة، ونوم، ولهو، فتضيع الأوقات، وتهدر الأموال، وتجتمع هذه الصور كلها في صورة واحدة وهي الأخذ من كل مباح يتجاوز الحدود، وينسي الآخرة، ويطغي النفس، ويسفل بالهمة، حتى يصبح الإنسان عبدا لشهوته وهواه وممن قال عنهم الله: "واتَّبَعَ الَذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وكانُوا مُجْرِمِينَ" وقال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميلة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش".

الترف ذكره الله في كتابه في ثمان مواطن، كلها مواطن ذم وتحذير، حيث يقول جل جلاله "وإذَا أَرَدْنَا أن نُّهْلِك قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً" [الإسراء:16]، و يقول تقدست أسمائه: "حَتَّى إذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إذَا هُمْ يَجأرُونَ" [المؤمنون:64]، ويذم تعالت صفاته "وكذَلِك مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِك فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ".

ولا بد من الإشارة والتنبيه والتنويه: إلى أن ما يكون ترفاً من رجل قد لا يكون ترفاً من آخر، حيث كان السلف يفرقون بين الرجل الغني والرجل الفقير، فيقبلون من الغني من التوسع ما لا يقبلونه من الفقير؛ عن عبد الله بن حميد قال: مر جدي على عمر ابن الخطاب وعليه بردة فقال: بكم ابتعت بردك هذا؟ قال: بستين درهماً، قال: كم مالك؟ قال: ألف درهم، قال: فقام إليه بالدرة فجعل يضربه ويقول: رأس مالك ألف درهم وتبتاع ثوباً بستين درهما؟!، فكيف لو راء عمر من يشترون السيارات الفارهة والملابس الفخمة ويسافرون إلى كل عام وهم مدينون، وفي حين كان عمر يصنع ذلك بهذا الرجل كان عبدالرحمن بن عوف يلبس البُرد أو الحلة تساوي خمسمئة أو أربعمئة، ولكنه كان يلبسها حتى تبلى دون كبر أو خيلاء وهو الذي انفق شطر ماله في سبيل الله.

أما أسباب الترف فهي عديدة منها طول الأمل ونسيان الموت، ومنها حب التقليد وضغوط العادات، ومنها حب الشهوات، ومنها كثرة المال والنعم أدامها الله علينا، ومنها التربية الخاطئة والمتساهلة مع الأبناء والنساء وغيرها، ولكني سأقف وقفة مستعجل مع سبب منها لأهميته وخطورته، ألا وهو الإعلام، هذه القوة الجبارة في صنعها، المدمرة في أثرها، الفتاكة في فعلها، الناعمة في ملمسها، تصنع في البشر من التغير مالا يصنعه جيش عرمرم، ومالا يفعله أفواج من الدعاة، ، أنها القوة التي تطرب بعذوبة صوتها وحسن أدائها، وطراوة ألفاظها الأسماع، وتسحر ببهرجها وبجمال من فيها وبروعة تقنيتها الأبصار، وتستحل ببيان منطقها وقوة حجتها ونفاذ سطوتها العقول، وما هو بحسن بيانها ولكنه فساد ذوقنا، وما هو بسحر جمالها ولكنه ضعف نفوسنا، وما هو بقوة حجتها ولكنه سخافة عقولنا.

قبل 50 سنة أي في عام 1957 قام احد المختصين في غسل عقول الناس بواسطة الدعاية والإعلان، قام بعمل تجربة على الجمهور في إحدى صالات عرض الأفلام، عبر مراقبة الانطباع الذي يتركه عرض ومضات سريعة لعلب من المشروبات الغازية خلال مشاهد متفرقة لأحد الأفلام السينمائية، وبشكل هامشي دون أن يشعر المشاهدون بأنهم قد انتبهوا للأمر، وكانت النتيجة أن مبيعات دار السينما أثناء العرض قد ازدادت بشكل ملحوظ، مما دفع به للاستنتاج بأن "الدعاية الباطنية" تشكل أسلوباً فعالاً للإقناع الذي لا يشعر به المتلقي حتى يفكر في مقاومته، أي أنهم يطمحون إلى تغيير أفكارنا وقيمنا ومبادئنا دون أن نشعر ودون أي مقاومة منا، هذا قبل 50 سنة، فيا ترى إلى أي مرحلة وصلوا الآن، بل أن منظري الاقتصاد يقولون إذا كان لديك مئة ألف دولار لإقامة مشروع ما اجعل 60 ألف دولار للدعاية و40الف دولار للمشروع، أتعلمون أن 4 شركات أمريكية فقط أنفقت على دعايتها 9 مليارات دولار في عام واحد

وما اجتاحت الثقافة الأمريكية العالم من شرقه إلى غربه، إلى عبر الإعلام وبتحديد عبر مواخير هوليوود، التي تصبحنا وتمسينا، بجنود لا قبل لنا بها، إذا لم نتمسك بديننا، وعبر شركاتها الأخطبوطية، التي تصدر لنا كل شيء وأي شيء حتى الغتر والأشمغة والطواقي، وعبر الثروة المعلوماتية الهائلة التي هي "وياللكارثة " أساس العلم والتقنية، ومن المعلوم أن أمريكا تمتلك اليوم 56% من بنوك المعلومات في العالم، بينما تعود نسبة 27% منها إلى دول الاتحاد الأوربي، و12% إلى اليابان، فيما تبقى نسبة 1% فقط لدول العالم النامي مجتمعة، فكم نصيبنا من هذا الواحد من المئة يا ترى، كل هذه الطوام، جعلت الكثير منا، مادة تمتص خيرها الشركات الكبرى، ووعاء تلقي فيه قاذوراتها المادية والفكرية، حتى باتت رموز الثقافة الأمريكية "الجينز" والتيشيرت "والروك" "والماكد ونلز" "والكوكاكولا" و"الفانكي" دليل على الرقي والتقدم لدى السذج منا، ونحن لا نلومهم ولكن نلوم أنفسنا الضعيفة التي صارت تبحث عن السعادة، عبر العب من ملذات الدنيا ولا سعادة، وتجري وراء سراب اللذة عبر الانغماس في الشهوات، ولا لذة، وتفتش عن الطمأنينة والسكينة والأمان عبر تكديس الأموال والتكثر من الدنيا، ولا أمان ولا طمأنينة ولا سكينة، أرئيتم إخوتي من يشرب من ماء البحر شربا ويعب منه عبا، هل يرتوي.

مر النبي _صلى الله عليه وسلم_ بالسوق، فوجد جدي أسك ميت، فتناوله، فأخذ بأذنه، ثم قال: "أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: أتحبون أنه لكم؟ قالوا: والله لو كان حيًا، كان عيبًا فيه أنه أسك، فكيف وهو ميت! فقال: فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم" قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء". قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه، وأشار -بالسبابة- في اليم فلينظر بم يرجع"

علينا أن ننظر إلى ملذات الدنيا وشهواتها على أنها وسيلة زائلة تقرب إلى الدار الآخرة لا أنها غاية في ذاتها وهدف يطمح إلى تحقيقه والتشبث به، قال عثمان ابن عفان _رضي الله عنه_ في آخر خطبة له: أن الله إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكموها لتركنوا إليها، أن الدنيا تفنى والآخرة تبقى، لا تبطركم الفانية، ولا تشغلكم عن الباقية، آثروا ما يبقى على ما يفنى فإن الدنيا منقطعة وإن المصير إلى الله _عز وجل_.

علينا أن نربي أنفسنا على عدم تحقيق كل مانشتهيه مع قدرتنا على شرائه واقتنائه قال رجل لابن عمر _رضي الله عنه_: ألا أجيئك بجوارش، قال: وأي شيء هو؟ قال: شيء يهضم الطعام إذا أكلته، قال: ما شبعت منذ أربعة أشهر، وليس ذاك أني لا أقدر عليه، ولكن أدركت أقواماً يجوعون أكثر مما يشبعون.

علينا التوسط في الأنفاق على أنفسنا وأهلينا وألا نأخذ من الدنيا إلا بقدر الحاجة؛ والرسول صلى الله عليه وسلم قد حذّ نا من أن يأخذ أحدنا ما يزيد عن حاجته فقال: " فراش للرجل وفراش لامرأته وفراش للضيف وفراش للشيطان ".

ويقول فيما زاد عن حاجة الإنسان في الدواب - المركوب -: " تكون إبل للشياطين، وبيوت للشياطين، فأما إبل الشياطين فقد رأيتها يخرج أحدكم بخبيثات معه قد أسمنها فلا يعلو بعيراً منها، ويمر بأخيه قد انقطع به فلا يحمله، وأما بيوت الشياطين فلم أرها "

قال سفيان رحمه الله: كانوا يكرهون الشهرتين: الثياب الجياد التي يشتهر فيها ويرفع الناس فيها أبصارهم، والثياب الرديئة التي يُحتقر فيها ويُستَذَل دينه.

علينا مغالبة شهوة التباهي في اقتناء الكماليات الثمينة، والتفاخر بالمظاهر البراقة، والحرص على المكانة الزائفة، بلغ عمر بن عبد العزيز الخليفة الزاهد يومًا أن ابنًا له اشترى خاتمًا بألف درهم، فكتب إليه (بلغني أنك اشتريت فصًا بألف درهم، فإذا أتاك كتابي فبع الخاتم، وأشبع به ألف بطن، واتخذ خاتمًا بدرهمين، واجعل فصه حديدًا صينيًا، واكتب عليه: رحم الله امرءًا عرف قدر نفسه).

علينا بالاقتصاد في أمورنا الحياتية فقد ورد أن الاقتصاد في حال الغنى فضلا عن حال الفقر من أسباب النجاة، فقد ثبت في الحديث: "ثلاث منجيات: القصد في الفقر والغنى..." قال ميمون بن مهران: "اقتصادك في المعيشة يلقي عنك نصف المؤونة".

علينا أن نتذكر قول الله _عز وجل_ في جميع أحوالنا: "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكمْ وَتَكاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلَادِ كمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ".