نحو معالجة صحيحة لأخطاء المتعلم 1

يواجه المعلم في كثير من الأحيان خطأ بعض المتعلمين في الموقف التعليمي، على الرغم من بذل هذا المعلم للكثير من الجهد والوقت في إيصال مفهوم ما من منهج الدراسة، وفي هذه الحالة نجد أنواعاً متعددة ومتنوعة من ردود أفعال المعلمين ومواقفهم تجاه أخطاء التلاميذ.
يغلب على كثير من المعلمين مواجهة خطأ المتعلم بالعقاب السريع، فما يكاد بعض التلاميذ ينطق بالخطأ حتى يجد رنّة شديدة لصفعة المعلم على وجهه، أو حرارة العصا على بدنه، وقد يكون العقاب مخففاً فتنهال عليه كلمات السب والتنكيل أو التوبيخ أمام زملائه.
وعلى سبيل المثال جاء في دراسة ميدانية للدكتورة حصة محمد صادق من كلية التربية في جامعة قطر أن أكثر المراحل التي يُستخدم فيها العقاب هي المرحلة الابتدائية، ثم الثانوية، ثم الإعدادية. وأن أكثر الأسباب التي تدعو إلى استخدام العقاب في مدارس البنات هي الخطأ في إجابة أو عدم معرفة السؤال، ثم الإهمال في أداء الواجب، ثم انخفاض مستوى التحصيل.
وفي استبانة قامت بها في مختلف المراحل التعليمية في مناطق مختلفة، حول سؤال عن أنجح طرائق عقاب الطلاب في اعتقاد المعلم، شارك فيه 106 معلمين، وبأسئلة مغايرة نوعاً ما، شارك 134 طالباً من المرحلتين المتوسطة والثانوية حتى يمكن الاعتماد على فهمهم للأسئلة؛ تبين أن 26 % من المعلمين يفضلون الضرب بالعصا أولاً، تلاه خصم درجات أعمال السنة بنسبة 23 % ، واستدعاء ولي الأمر بنسبة 18 % ، ثم يأتي الطرد من الفصل الفصل الذي اختاره 11% من الطلاب، فيما يؤمن بأثر التشهير بالطالب داخل المدرسة نحو 9% منهم. أما البقية ونسبتهم 12% فقد اختاروا وسائل عقاب أخرى، من أبرزها إفهام الطالب خطأه أمام زملائه، والتوبيخ الشفهي.
وفي سؤال عن تعرض المعلمين أنفسهم للضرب حينما كانوا طلبة، كانت النتيجة مفزعة إذ عوقب 88 % من المعلمين بالضرب أيام الطفولة، فيما البقية لم يتعرضوا له ربما لتفوقهم أو لحسن حظهم أحياناً!
هذا الأسلوب أو هذه المعاملة المبنية على اتخاذ العقاب وسيلة أولى ومفضلة لمواجهة خطأ المتعلم، أسلوب غير صحيح، وينتج عنه كثير من الآثار السيئة، بيّـنها العلماء قديماً، وحذر منها كثير من الباحثين المعاصرين.
ومن هذه الآثار السيئة آثار تصيب المتعلم، حيث ذكر عديد من علماء المسلمين والباحثين أن الإسراف في أسلوب العقاب قد يؤدي إلى تحطيم وازع التعليم لدى المتعلم، وقتل نشاطه الذاتي في التعلم. وهناك آثار سيئة تصيب العلاقة بين المعلم والتلميذ، إذ يفقد المعلم باستعمال العنف ثقة التلميذ، ويخسر محبته، وقد تتحول نظرة التلميذ له إلى نظرة كره دائم يسد طريق الفهم، ويقطع أوصال القدوة، ومع زيادة العنف قد ينظر المتعلم لمعلمه العنيف نظرة سخرية وازدراء.
وبإطلالة سريعة على آراء عدد من علماء المسلمين قديماً في قضية الإسراف في عقاب المتعلمين، نرى تحذيراتهم واضحة من الآثار السيئة التي تتركها العقوبة في نفس المتعلم، والتي تضر بالعملية التعليمية عموماً، يقول ابن خلدون: "إن من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين.. سطا به القهر، وضيق على النفس في انبساطها، وذهبت بنشاطها، ودعا إلى الكسل، وحمل على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر.. وعلّمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقاً، وفسدت معاني الإنسانية التي له ... فينبغي للمعلم في متعلمه، والوالد في ولده ألا يستبدّا عليهما في التأديب".
وإذا كان ابن خلدون حذّر من الإسراف في الضرب وانبساط الأيدي على المتعلم، فقد حذّر الغزالي من الآثار السيئة لاستعمال الإهانة عقوبة للمتعلم، ونصح المعلم باستعمال التعريض في تنبيه المتعلم مبيناً الفوائد التعليمية لذلك؛ فقال فيما يلزم المعلمين من وظائف الأدب: " الوظيفة الأولى: الشفقة على المتعلمين، وأن يجريهم مجرى بنيه... الوظيفة الرابعة: وهي من دقائق صناعة التعليم؛ أن يزجر المتعلم عن سوء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن ولا يصرح، وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ، فإن التصريح يهتك حجاب الهيئة، ويورث الجرأة على الهجوم بالخلاف، ويهيج الحرص على الإصرار... ولأن التعريض أيضاً يميل النفوس الفاضلة والأذهان الذكية إلى استنباط معانيه، فيفيد فرح التفطن لمعناه رغبة في العلم به، ليعلم أن ذلك مما لا يعزب عن فطنته".
ويرى القابسي أن الشدة الزائدة على المتعلم والعبوس له دوماً تؤدي إلى فساد نظرة المتعلم للمعلم فقال: "كونه عبوساً أبداً من الفظاظة الممقوتة، ويستأنس الصبيان بها فيجرؤن عليه، ولكنه إذا استعملها عند اسئهالهم الأدب؛ صارت دلالة على وقوع الأدب بهم فلم يأنسوا إليها".
وقد تكون نتيجة الإسراف والعنف في عقاب التلاميذ وخيمة، إذا سبب عنف المعلم أذى بدنياً أو نفسياً؛ يجعل المعلم نفسه عرضة للعقوبة الشرعية، يقول الدكتور أحمد فؤاد الأهواني في تعليقه على كتاب القابسي: "ومسؤولية المعلم ظاهرة أيضاً في العقوبات التي يوقعها على الصبيان إذا خرجت على الحدود الشرعية، فهو مسؤول عن الألفاظ القبيحة التي تصدر عنه في ساعة الغضب، ويجب عليه الاستغفار عنها والاستعاذة منها. وإذا تعدى المعلم في ضربه: (فهذا إنما يقع من المعلم الجافي الجاهل)، ... ومسؤولية المعلم شديدة إذا أدى الضرب إلى إلحاق الضرر بالصبي، وقد نظر الفقهاء في مثل هذه الأحوال ووضعوا العقوبة التي تُفرض على المعلم في كل حالة منها".
ولخطر العقاب المدرسي من حيث آثاره السيئة إذا لم يُستعمل استعمالاً صحيحاً، ولأهميته في الوقت نفسه ودوره في تقويم التلاميذ وتأديبهم في بعض الحالات؛ وصفه الإمام الغزالي بأنه (من دقائق صناعة التعليم)، ولهذا لا ينبغي للمعلم استعماله إلا عن دراية بقواعده ومراتبه. ولا نريد هنا الدخول في مناقشة العقاب المدرسي وآثاره المضرة إذا استُعمل في غير موضعه أو وقته أو تجاوز به المعلم قواعده، وإنما نريد أن نخطو خطوة نحو رؤية صحيحة تتيح لنا معالجة أخطاء المتعلم معالجة تحقق الهدف التعليمي دون الإضرار بالمتعلم.
ولكن قبل ذلك تجدر الإشارة إلى جانب مهم يتعلق بهذه القضية، وهو أن الرؤية الشائعة لدى كثير من المعلمين لمعاملة خطأ المتعلم لا تفرق بين الخطأ في الموقف التعليمي وغيره من الأخطاء، فالضرب أو السب عندهم هو أسلوب لمواجهة عدم انضباط المتعلم أو سوء خلقه وسلوكه؛ كما هو نفسه أسلوب مواجهة أخطاء المتعلم في الموقف التعليمي.
إن أخطاء المتعلمين في المدارس مختلفة ومتنوعة مما يوجب علينا التفريق بينها، فنفرق بين الأخطاء التي تقع من التلاميذ في الحياة المدرسية وتخل بالنظام والضوابط، كنظافة المدرسة، والانضباط في الفصل، وبين الأخطاء التي يقع فيها بعض التلاميذ في العلاقات المدرسية الاجتماعية، بين التلميذ وزملائه، وبينه وبين المدرس، وبينه وبين سائر العاملين في البيئة الدراسية. وهناك نوع آخر لا بد أن نعالجه كنوع مستقل من الأخطاء، وهو أخطاء التلميذ أو المتعلم في العملية التعليمية.
وما دمنا سنفرّق بين هذه الأنواع، فلا بد أن يختلف منهج العلاج الذي سنتبعه في معاملة كل نوع، ولا يصح في رأيي أن نخلط بين تلك الأنواع في التحليل أو في منهج العلاج. وهذا التفريق بين العقوبة في أخطاء المتعلم في التعليم، والعقوبة في أخطائه في الأخلاق والأدب، نبـّه عليه محمد بن سحنون في رسالته آداب المعلمين؛ حيث ذكر أن المعلم "لا يجاوز بالأدب ثلاثاً [أي ثلاث ضربات بالدِّرة] إلا أن يأذن الأب في أكثر من ذلك إذا آذى أحداً، ويؤدبهم على اللعب والبطالة، ولا يجاوز بالأدب عشرة، وأما على قراءة القرآن فلا يجاوز أدبه ثلاثاً".
وقد أكد القابسي هذا التفريق بين أنواع الخطأ حيث قال: "وإذا استأهل الضرب؛ فاعلم أن الضرب من واحدة إلى ثلاث، فليستعمل اجتهاده لئلا يزيد في رتبه فوق استئهالها، وهذا هو أدبه إذا فرّط فتثاقل عن الإقبال على المعلم؛ فتباطأ في حفظه، أو أكثر الخطأ في حزبه... فنبه مرة بعد مرة فأكثر التغافل ولم يغن فيه العذل والتقريع بالكلام الذي فيه التواعد من غير شتم ولا سب عرض... فإن اكتسب الصبي جرماً من أذى، ولعب، وهروب من الكتاب، وإدمان البطالة؛ فينبغي للمعلم أن يستشير أباه، ووصيه إن كان يتيماً، ويعلمه إذا كان يستأهل الأدب فوق الثلاث، فتكون الزيادة على ما يوجبه التقصير في التعليم عن إذن من القائم بأمر هذا الصبي، ثم يزاد على الثلاث ما بينه وبين العشر إذا كان الصبي يطيق ذلك".
وكما بحث العلماء مسألة الفرق بين خطأ وآخر في نوع العقوبة وحجمها ووقتها وما يلزم فيه إذن ولي أمر التلميذ؛ بحثوا أيضاً مسائل أخر تبين لنا كيف كانوا يفرقون بين أنواع الخطأ حتى إن كانت متساوية في ترتب العقوبة عليها، مثل هل يجوز للمعلم الضرب فيما يتعلق بنفسه، كأن أساء الولد خلقه عليه بنحو شتم أو سرقة لماله؟ وهل يضرب على الحفظ كما يضرب على غيره؟ وهل يعاقب المعلم التلميذ المخطئ بظنه واجتهاده، مثل ضرب التلميذ لزميله، أو لا بد من المعاينة أو البينة الشرعية؟ - يتبع -