أسس السياسة الشرعية (5) الاستحسان / 1

الطريق الثانية : الاستـحســان
ومن أهم أسس السياسة الشرعية أيضا : الاستـحســان .
والاستحسان في اللغة : عدُّ الشيءِ حسناً ؛ قاله في القاموس ؛ والحَسَنُ : ضد القبيح ، وهو : عبارة عن كلِّ مُبْهِجٍ مرغوبٍ فيه .
وأمَّا في اصطلاح الأصوليين فقد عُرِّف الاستحسان بتعاريف عدَّة وفسِّر بتفاسير مختلفةٍ ، يوهم اختلافها الاختلاف في
صحة الاستدلال بالاستحسان ؛ غير أنها عند التأمل والتحقيق ، لا تُسَلَّمُ سبباً لما تُوهِمُهُ ؛ حيث يتضح أنَّ النزاع المُتَنَاقل فيها ، لا يعدو كونه لفظياً ، أدَّى إليه عدمُ تحرير المحلّ ، أو فهمه على غير ما قُصد به ، كما نبَّه إليه و نصَّ عليه غيرُ واحد من العلماء (1) ؛ يُجَلِّي ذلك تحرير المسألة ؛ وذلك أنَّ كلام العلماء في الاستحسان لا يكاد يخرج عن معنيين :
الأول : الاستحسان بمعنى : ما يستحسنه الإنسان بعقله ، أو تشتهيه نفسُه ، من غير مستند شرعي معتبر ؛ وهذا باطلُُ بالإجماع (1)

والثـاني : الاستحسان الأصولي ، المبنيُّ على مستند من الشرع معتبرٍ ؛ فهذا الذي يعنيه العلماءُ عند التعليل به .
وقد نصَّ غيرُ واحد من العلماءِ على أنَّ هذا مما لا ينكره أحد .
و من أجود ما عرف به الاستحسان الأصولي ، أنَّه : العدول بحكم المسألة عن حكم نظائرها ؛ لدليلٍ شرعيٍّ خاصٍّ بتلك المسألة .
وعرَّفه شيخنا يعقوب الباحسين مبينا حكمته ، بأنَّه : " العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه ، لوجه يقتضي التخفيف ، ويكشف عن وجود حرج عند إلحاق تلك الجزئية بنظائرها في الحكم " (3) .

ومن هنا يتضح أن الاستحسان هو في حقيقة الأمر استثناء بوجه شرعيٍّ .
فالعدول ، هو : الاستثناء . والوجه المقتضي ، هو : الدليل الأقوى .
فالاستحسان ، يعني الاستثناء من أصل المنع غالباً ؛ فيقضي بالإباحة ، أو من الواجب يرفعه أو يرخِّص فيه (4) ؛ كلُّ ذلك بناءً على المستند الأقوى ؛ لا على الرأي المجرَّد ، ولا على أمر خفيٍّ لا يمكن التعبير عنه ؛ " لأنّ المجتهد ليس له الاستناد إلى مجرَّد عقله في تحسين شيءٍ ، وما لم يعبِّر عنه لا يمكن الحكم له بالقبول حتَّى يظهر" (5) ؛ والمستند الأقوى ينتظم أوجهاً متعدِّدة ، حرص الأصوليون على إبرازها ؛ دفعاً لتوهم قيام الاستحسان على غير مستند شرعي ؛ حيث يُعَدِّدُون هذه الأوجه ، ويُنَوِّعُون الاستحسان بالنَّظر إليها .

فإذا عرضت للمجتهد مسألة تندرج تحت قاعدة عامَّة أو يتناولها أصلٌ كليٌّ ، و وجد المجتهد دليلاً خاصَّاً يقتضي استثناء هذه الجزئية من الأصل الكلي ، والعدول بها عن الحكم الثابت لنظائرها إلى حكم آخر ؛ للدليل الخاص الذي ظهر له ؛ فإنَّ هذا العدول الاستثنائي يعبَّر عنه بـ " الاستحسان " ، والدليل الذي اقتضاه هو : وجه الاستحسان ، والحكم الثابت به هو : الحكم المستحسن ، أي : الثابت على خلاف القياس ، والقياس هنا يراد به الأصل الكلي أو القاعدة العامَّة
(6)
ومن أمثلتهِ : الاستحسانُ بقاعدة الضرورة ، ويتحقق هذا النوع في كل جزئية يكون الأخذ بها وفق الأصل العام أو القواعد المقررة أو القياس أمرا متعذِّراً ، أو ممكناً لكنه يلحق بالمكلَّف مشقة وعسراً شديدين ؛ فيعدل بها عن مثل ما يحكم به في نظائرها استحساناً ؛ رفعاً لهذا الحرج ، ودفعاً لهذه الضرورة ؛ والضرورة هي : هي الحالة التي تطرأ على الإنسان بحيث لو لم تراع لجُزِم أو خِيْفَ أن تضيع مصالحه الضرورية ؛ التي لابد منها في حفظ الأمور الخمسة . ذكره شيخنا يعقوب الباحسين .

ومثّل له بعض أهل الأصول بقولهم : الأصل أنَّ المرأة كُلَّها عورة ؛ لكن أبيح للطبيب النظر إلى ما تدعو الضرورة إلى النَّظر إليه منها ، وذلك استحساناً ؛ لأجل الضرورة ؛ فيكون أرفق بالنَّاس .

قال السرخسي : " الحرج مدفوع بالنَّص ، وفي موضع الضَّرورة يتحقّق معنى الحرج لو أُخِذَ فيه بالقياس ؛ فكان متروكاً بالنَّص " (7) ، وقوله بالنص ، أي : النصوص الواردة في رفع الحرج عموماً .

وهذا أمر متقرِّر عند العلماء ، بل هو من مزايا الشريعة الإسلامية الظاهرة .
قال عزّ الدين ابن عبد السلام _رحمه الله_ في قواعد الأحكام : " اعلم أنَّ الله شرع لعباده السعي في تحصيل مصالح عاجلة و آجلة تجمع كل قاعدة منها علَّة واحدة ، ثم استثنى منها ما في ملابسته مشقَّة شديدة أو مفسدة تربى على تلك المصالح ؛ وكذلك شرع لهم السعي في درءِ مفاسد في الدَّارين أو في إحداهما تجمع كلّ قاعدة منها علَّة واحدة ، ثم استثنى منها ما في اجتنابه مشقَّة شديدة أو مصلحة تربى على تلك المفاسد ؛ وكلّ ذلك رحمة بعباده ونظر لهم ورفق بهم . ويعبَّر عن ذلك كلِّه بما خالف القياس ، وذلك جارٍ في العبادات و المعاوضات وسائر التصرُّفات " (8) .

فالاستحسان في حقيقته : منع إدراج بعض الفروع فيما يظنُّ اندراجها فيه من الكليات والقواعد العامّة ؛ لدلالة تترجّح
عند الموازنة بين الأدلة مع اعتبار مقاصد الشرع وعلله وجوداً وعدماً ؛ وهي علامة فقه الفقيه ، لذلك وصفه الإمام مالك بأنه تسعة أعشار العلم ؛ لخفائه على من لم يتأنَّ من الفقهاء ، ولأثره في بيان أحكام المسائل التطبيقية ، من حيث هو نتيجة من نتائج الاجتهاد في تحقيق المناط فيها .

وفي الحكمة من هذا الطريق الاستدلالي يقول الأستاذ محمد فتحي الدريني : " نظرية الاستحسان شرعت ؛ لدرء التعسف في الاجتهاد عن طريق الاستثناء ، والاستحسان ضرب من النظر في المآل ، جرياً على سنن الشارع في اعتبار المسببات عند تشريع الأسباب " .
وإلى بقية بحث هذه المسألة في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى .

----------------------
(1) منهم : ابن السمعاني في : قواطع الأدلة ، والإسمندي في : بذل النظر ، وابن الهمام في : التحرير ، مع شرحه ، لأميرباد شاه ، وأبو العباس ابن تيمية في : المسوَّدة ، لآل تيمية ، وابن عبد الشكور في : مسلم الثبوت ، مع شرحه : فواتح الرحموت ، لابن نظام الدين الأنصاري ، والزركشي في : البحر المحيط ، و الشاطبي في : الاعتصام ، و الشوكاني في : إرشاد الفحول .
(2) ينظر مثلاً : إحكام الأصول في أحكام الفصول ، لأبي الوليد الباجي : 688-689 ؛ وقواطع الأدلة ، لابن السمعاني :4/214 ؛ والمستصفى ، للغزّالي :1/410 ؛ والمصادر السابقة .
(3) رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، لشيخنا يعقوب الباحسين : 288 ،293 . وقد أفاد الناحية الموضوعيَّة من بيان السرخسي لها في : المبسوط : 10/ 145.
وقد أفرد شيخنا حفظه الله كتابا في الاستحسان استقرأ فيه ما علل بالاستحسان استقراء فريدا ، كعادته في مؤلفاته ، وهو تحت الطبع .
(4) ينظر : المناهج الأصوليَّة في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي ، د. محمد فتحي الدريني : 486 .
(5) مذكرة في أصول الفقه ، للشيخ / محمد الأمين الشنقيطي : 200 .
(6) تنبيه مهم : القياس في استعمالات العلماء في مواضع الاستحسان تشمل القياس الأصولي ، والقواعد العامَّة المأخوذة من مجموع الأدلة الواردة في نوع واحد ، أو ما يقتضيه الدليل العام ؛ خلافاً لما قد يتبادر من ظواهر عبارات بعضهم ؛ فإذا قيل القياس في هذه المسألة كذا ، والاستحسان فيها كذا فلا يتعين أنَّ المراد به القياس الأصولي ؛ بل قد يكون بمعنى مقتضى القاعدة ، أو الدليل العام الوارد في هذا النَّوع ، أو القياس الأصولي ( المعنى الخاص ) ، وفي كلٍّ أُخرجت الصورة المستحسنة من عموم ما يُشبهها لمقتضٍ آخر .
(7) أصول السرخسي : 2/ 203 .