الإبـــداع .. . العملــة النــادرة

يعترف الباحثون اليوم بصعوبة الوقوف على تعريف موحد للإبداع، ولعل أول أوجه هذه الصعوبة تكمن في درجة التعقيد التي ينطوي عليها الإبداع، مما دفع "ماكينون" للاعتراف بأن الإبداع لا يمكن وصفه بتعريف محدد على اعتبار أنه ظاهرة متكاملة ذات وجوه متعددة. إلا أن معظم الباحثين يذهبون إلى عدّه " ضربا مفارقا من ضروب الذكاء " ، إذ يتطلب الإبداع في أبسط أشكاله نوعا من تجاوز المألوف.
فإذا كان الذكاء يعرف بأنه القدرة على حل المشكلات، فإن الإبداع يتجاوز هذه القدرة إلى قدرة أخرى ترقى إلى استبصار طرق ومناهج جديدة في إيجاد الحلول على نحو غير معروف من قبل. كما وضع البعض شروطا أخرى للتفكير الإبداعي، ومنها أن يتضمن هذا التفكير قدرا كبيرا من الدافعية والحماس لتحقيق الأهداف، وإيمانا عميقا بجدواها العملية.
من جهة أخرى، فإن الإبداع لا يقتصر فقط على مجال واحد من مجالات التفكير، بل يتعداه أيضا إلى مجالات أخرى كثيرة ، إذ يتميز المبدعون عادة برهافة الحس، والقدرة على الإدراك العميق لكل ما يدور من حولهم.
مواطن الإبداع ..
وقد اشتغل الباحثون بمشاربهم المختلفة وعقائدهم المتباينة منذ القدم بمحاولة الكشف عن مواطن الإبداع والعوامل المكونة له، وتباينت وجهات النظر إلى حد كبير، فذهب فريق منهم إلى ربط الإبداع بالوراثة، كما فعل أفلاطون عندما قسم المجتمع إلى طبقات تتوارث أدوارها بين الحكماء والمحاربين والعمال والعبيد، وإن كان قد سعى لحل مشكلة بروز بعض الحالات الإبداعية في الطبقات الدنيا بعدّها طفرات شاذة تجب إعادتها إلى زمرة الأطفال الموهوبين الذين أوكل إلى الحكماء مسؤولية إعدادهم في "الجمهورية". ، كما تشير الدراسات الحديثة إلى ربط الذكاء بعوامل أخرى ومنها التركيب الداخلي للدماغ بدلا من الحجم والوزن. من جهة أخرى، وكرد فعل على هذه النظرية المجحفة برزت دراسات أخرى تعطي البيئة دورا جوهريا في تحديد القدرات الإبداعية لدى الطفل، إلى الحد الذي جعل البعض يعدّها العامل الوحيد المكون للذكاء،
فقد أعلن "واتسون" أن التربية والبيئة الثقافية هما المؤثران الوحيدان في قدرة المرء على الإبداع، ويمثل لذلك بقوله: "أعطني اثني عشر طفلا سليما ومعافى مع ظروف بيئية مناسبة لأؤكد لك أنهم قادرون بمحض إرادتهم على تحقيق طموحهم، وستجد فيهم الطبيب والمحامي والفنان والتاجر والقائد وحتى اللص والمتسول، وذلك بغض النظر عن ميولهم واستعداداتهم الفطرية أو مورثاتهم"
الإبداع والعمر..
ويكاد يكون من الشائع كثيرا بين الناس اليوم الاعتقاد بأن الإبداع يبدأ في المراحل المبكرة من الحياة، وأن الأشخاص المبدعين يُخلقون وفي فطرتهم مواهب الإبداع الكامنة، مما يجعلهم يؤمنون بأن الشخص الذي لا تتفتق مواهبه في الصغر فإن قطار النجاح والتميز قد فاته، مما يؤدي لإحباط الكثيرين ومنعهم حتى من مجرد الحلم بتحقيق طموحهم، وقد تزداد خطورة هذا الاعتقاد إذا ما تسربل بثوب العلم. إن شيوع هذا الاعتقاد خطير جدا، ويمكن اعتباره مسئولا عن هدر الكثير من الطاقات التي كان من الممكن استغلالها والإفادة منها على المستويين الفردي والجماعي، فعلى الرغم من أننا لا ننكر دور الموهبة الفطرية في إبداع الفرد، إلا أن الحقائق العلمية تؤكد أن احتمال ظهور المواهب في سن متأخرة لا يقل عن ظهورها في سن الطفولة، بل إن الكثير من الباحثين المعاصرين يجزمون بأن المواهب لا توجد بالفطرة، بل تعود بالأصل للتدريب والتعليم، فهي قابلة للإنشاء والبناء في حال توفر الظروف الملائمة والرغبة الكافية، وقد أشار "أوزبورن" إلى ذلك بتأكيده على أن البحث العلمي قد أثبت بأن الاستعدادات المبدعة يمكن أن يتم تكوينها تماما كما يتم تطويرها، إذ تتجه الأنظار حاليا نحو تكوين هذه الاستعدادات بدلا من الكشف عنها
إزاء ذلك، وفي محاولة للجمع بين مختلف وجهات النظر التي تترواح بين أثر المورثات وبين دور البيئة والتربية يشير "ألكساندرو روشكا " إلى أن الاهتمام بدور البيئة والتربية لا يعني تجاهل دور المورثات على الإطلاق، إذ تؤكد الدراسات وجود الكثير من الحالات الإبداعية لدى الأطفال في سن مبكرة جدا وقبل بداية ظهور أي تأثير للبيئة من حولهم، ولكنه لم يثبُت حتى الآن القول بوجود جينات وراثية مسئولة عن كل استعداد فطري يمكن اكتشافه.

الإبداع والتربية
وعليه فإن العملية التربوية الصحيحة تكون قادرة على الكشف عن الاستعدادات الخاصة لدى الطفل بسرعة كبيرة، تماما كما تقوم بإنشائها وتكوينها في حال وجود الرغبة النفسية تجاهها. ويمكن القول بأن الجمع بين كل من العوامل الفطرية والرغبة النفسية المزاجية والظروف التربوية والاجتماعية السليمة، يؤدي في النهاية إلى إنجازات باهرة على أعلى المستويات
وهكذا، فإننا حتى في حال تسليمنا بأن المواهب تُخلق فطريا لدى الإنسان، فإنه من الصعب التسليم بحتمية ظهورها في السنوات الأولى من العمر، لاحتمال وجود الكثير من العوائق الاجتماعية، مما يجعل من الممكن اكتشافها في سن متأخرة، كما تدل حوادث كثيرة وشهيرة، ونذكر منها تفجر موهبة الشعر عند النابغة الذبياني في سن الأربعين مما دفع قومه لتسميته بالنابغة، ثم تسليمه راية التحكيم في سوق عكاظ للحكم على فطاحل الشعراء في الجاهلية، كما نذكر كثيرا من العلماء الكبار الذين درسوا العلوم في سن متأخرة وبرعوا فيها , وكثير من المفكرين والأطباء والشعراء
أما علاقة السن بذروة النتاج الإبداعي، فقد اهتم بها "جورج بيرد" عندما قام في أواخر القرن التاسع عشر بدراسة ما يربو على ألف سيرة شخصية للمشاهير، فوجد أن معظم نتاجهم الإبداعي قد ظهر في الفترة الواقعة ما بين سن الثلاثين والخامسة والأربعين، كما استنتج بيرد أن الإبداع يرتبط بعاملين أساسيين هما الحماس والخبرة، وأثبت أن الحماس يبدأ في السنوات الأولى للشباب، ويخفت مع تقدم العمر، أما الخبرة فتتكون بشكل تراكمي مع التقدم في السن، وقد وجد أن التوازن المثالي بين هذين العاملين يحدث فيما بين الثامنة والثلاثين والأربعين، وأن العمل الناتج في الفترة السابقة لهذا السن يكون أكثر جدة وطرافة، بينما يميل الناتج الإبداعي فيما بعده للرتابة والنضج .

إذن فقد أصبح من الممكن القول بأن الإبداع يبدأ في التكون منذ السنوات الأولى من عمر الطفل، إذ يملك الإنسان عادة الاستعدادات الأولية لمواهبه التي تحتاج إلى التدريب والتطوير كي تؤتي ثمارها وإلا ذهبت أدراج الرياح. وفي الوقت نفسه فإنه من الخطأ القول بأن الإبداع محكوم بالسنوات الأولى من العمر، إذ لا يبعد أن تبقى كوامن الإبداع دفينة إلى سن متأخرة وهي تنتظر فرصة ظهورها.

ويتناقل التربويون اليوم مقولة مفادها أن نسبة المبدعين الموهوبين من الأطفال في المرحلة الواقعة بين سن الولادة والسنة الخامسة من أعمارهم تبلغ حوالي 90% ، وأن هذه النسبة تنخفض إلى 10% في سن السابعة، ثم تنحدر إلى 2% فقط في سن الثامنة. ولا شك في أن هذه الأرقام تعطي مؤشرا يدعو للأسى في بلادنا التي تفتقر إلى أهم مكونات الحضارة في العصر الحديث، ألا وهي رأس المال البشري
الموهوبون والتكيف الاجتماعي ..
علاوة على ذلك، فإن الباحثين قد وجدوا أن الموهوبين من أصحاب الذكاء الكبير يعانون منذ الصغر من شعور دائم بالقلق والعزلة، ويميلون غالبا إلى الانطواء على الذات وإشباع نهمهم في القراءة والمهارات اليدوية، وقد يبدون تعنتا في الانصياع للأوامر من كبار السن ، لشعورهم بالاستقلال والتميز، كما أن التجاوزات اللاأخلاقية ومظاهر الانحلال وضعف الضمائر التي تصادفهم في المجتمع قد تطغى على قدرتهم على الصمت، مما يزيد من شعورهم بالغربة والرغبة في الانطواء.
وينصح المختصون في هذه الحالة بضرورة توخي الحذر في رعاية هؤلاء لأطفال، وتأمين الوسط الاجتماعي المناسب لمواهبهم .

الإبداع والمدرسة..
يخطئ الكثير من الآباء والأمهات في ربطهم بين النجاح المدرسي والإبداع، إذ كثيرا ما يفشل الأطفال الموهوبون دراسيا. ويذكر لنا التاريخ حالات كثيرة من فشل المشاهير في دراستهم، فمن العلماء نجد أديسون وأينشتاين وباستور ونيوتن، كما نجد من رجال الأدب تولستوي وبالزاك وزولا وغيرهم
إن دراسة هذه الظاهرة ليست بالأمر السهل على الإطلاق، إذ يتوجب علينا أولا دراسة كافة جوانب العملية التعليمية قبل الحكم على فشلها، فقد يعزى سبب الفشل الدراسي للطفل المبدع إلى الظروف المعيشية القاسية التي يعيشها، وقد يعود أيضا إلى سوء وضع المدرسة والمدرسين، كما يحتمل في حالات كثيرة أن يكون اهتمام الطفل الموهوب أو المبدع منصبا على مجالات أخرى لا تعطيها المدرسة الاهتمام الكافي، إذ يمكن أن ينبغ الطفل في مجالات نادرة كالرسم والشعر، في الوقت الذي يركز فيه النظام التعليمي على المواد العلمية البحتة، مما يعني ضياع هذه الموهبة وإلزام الطفل بحفظ كم هائل من المعلومات دون أن تعود عليه بالنفع في حياته العملية
علاوة على ذلك، يتمتع الطفل الموهوب غالبا بحس مرهف وحاجة كبيرة للرعاية، إذ يعتقد "تورنس" أن السبب الأول في انطفاء هؤلاء الأطفال المبدعين يعود إلى قلة اهتمام مدرسيهم بهم ومعاملتهم بشكل أقرب إلى الاضطهاد، وقد يزداد الأمر سوءا عندما يكون المدرسون على جهل تام بحاجات أولئك الأطفال وتطلعاتهم، كما يحدث غالبا في مدارس الدول النامية التي لا تهتم كثيرا بتأهيل معلميها من الناحية التربوية، مما يدفع هؤلاء المدرسين للنظر إلى تميز تلاميذهم المبدعين على أنه شذوذ يحتاج إلى إصلاح أكثر منه إلى الرعاية والاحتفاء!

نظرة الإسلام للإبداع

( اللجنة التربوية بموقع المسلم )

أحببنا أن نلحق هذا المقال ببعض الوقفات الهامة فيما يخص موضوع الإبداع حتى نبين النظرة الإسلامية للإبداع والمبدعين ..
فالإسلام حرص حرصا كبيرا على تنمية المواهب والاهتمام بأصحاب القدرات المميزة , فيروي الإمام مسلم أن عمر بن الخطاب قد اصطحب ابنه عبد الله بن عمر لمجلس النبي _صلى الله عليه وسلم_ , ولما جلسوا سألهم النبي : إن من الشجر مالا يسقط ورقه وهي كمثل المؤمن ؟ فسكت كل الأصحاب _رضي الله عنهم_ فقال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ : هي النخلة , فلما عاد عمر وولده قال ابنه عبد الله: يا أبت لقد كنت أعلم أنها النخلة , فقال عمر: لو كنت قلتها يا عبد الله لو أن لي بها حمر النعم ..
وكان لعبد الله بن عباس وهو لا يزال غلاما صحبة طويلة مع رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وحدث عنه كثيرا من أحاديثه , بل قد ثبت في الصحيحين دعاء رسول الله له بالحكمة كما في قوله " اللهم علمه الحكمة " والحكمة هي السنة وفقه الكتاب ووضع كل شيء موضعه , وقد قبل المحدثون تحديث محمود بن الربيع في حديث في صحيح البخاري بقوله " عقلت عن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ مجة مجها في وجهي وأنا ابن خمس سنين " , كما كان لابن عباس مجلسا بين أصحاب عمر بن الخطاب وهو ما يزال غلاما ..
وقد قدر رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قيمة القدرات الخاصة في الصحابي لجليل أسامة بن زيد إذ ولاه قيادة جيش المسلمين وهو لا يزال دون الثامنة عشر وهي مسئولية كبيرة وتبعة عظيمة تدل على مدى سعة ورحابة المنهج الإسلامي وتقبله لذوي القدرات المميزة , وغير ذلك كثير جدا من النماذج التي لا يتسع المجال لحصرها
وينظر الإسلام للإبداع من عدة محاور مترابطة هي :
أولا : أن الإبداع والذكاء والمواهب المختلفة قد تكون موروثة وقد لا تكون فربما كان الأب فاقدا للموهبة ويخرج ولده متصفا بها , وربما اكتسبها الإنسان في سعيه طوال حياته , فالمكتسب منها أكثر كثيرا من الفطري
ثانيا : أن العلم والفهم والمواهب هي محض نعمة من الله سبحانه يرزقه من يشاء فقد كان النبي يدعو لبعض أصحابه بالحكمة – كما سبق – وقد كان شيخ الإسلام في جوف الليل يدعو ويقول : يا معلم آدم وإبراهيم علمني اللهم وفهمني ..وقد كان الشافعي يقول إذا أغلقت أمامي أبواب مسألة استعنت بدعاء الله فما تلبث أن تنفتح أبوابها ..
ثالثا : أن الإسلام يوجب أن يستخدم المسلم موهبته وإبداعه لمصلحة دينه وأمته كما يستخدمها في تطوير نفسه وتصحيح مساره
رابعا : أن الإسلام لا يعتبر الإبداع المنقوص , فلا يمكن أن يكون المرء مبدعا وهو في ذات الوقت عاصيا خبيثا بعيدا عن ربه بل يدعو لبناء الشخصية الإبداعية المؤمنة التي تهدف للنافع الصالح .
خامسا : يحذر الإسلام أصحاب المواهب الخاصة والذكاء من أن يتعالوا به على الناس أو يتكبروا به على أقرانهم أو يسيؤا به في الأدب مع الكبير , بل أمر بأن يتواضع الإنسان كلما ازداد خيرا وازداد علماً .