درس نبوي في التوحيد
12 ربيع الأول 1427

الحمد لله المتوحد بالجلال بكمال الجمال تعظيماً وتكبيراً، المتفرد بتصريف الأحوال على التفصيل والإجمال تقديراً وتدبيراً، لا إله بحق إلاه نزل الفرقان بذلك ليكون للعالمين نذيراً.

وصلى الله وسلم على خير الموحدين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد: فإن دروس الأنبياء في التوحيد كثيرة، فما من رسول إلاّ وقد دعا إلى التوحيد وحذر من الشرك، كما قال الله _تعالى_: "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ" [النحل:36].

والوقوف مع بعض دروس أولئك يحتاج إلى سفر عظيم، فالكلام فيه يطول، والحاجة إلى بحثه والكتابة فيه مطولةً ماسة، ولعل ما لايدرك جله لايترك كله، ولهذا أقف هنا مع درس واحد ألقاه الكريم بن الكريم بن الكريم في أحد السجون –التي غصت في الماضي ولا تزال في دول البغي والعدوان تغص بالموحدين- إنه درس يوسف عليه السلام لصاحبي السجن، ولطوله الظاهر -عند أهل التأمل والتدبر- أشرع فيه عرضاً من منتصفه، وأقف مع قوله: "وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ" [يوسف:38]، وفي هذه الآية يبدو أن يوسف –عليه السلام- ذكر آباءه لفائدة، إذ ربما يعرف السجينان طرفاً من أخبارهما؛ لأن إبراهيم _عليه السلام_ أشهر من علم على رأسه نار، وقد كانت له مواقف مذكورة مع حاكم مصر، ويبدو أن القوم كانوا يزعمون أنهم على شيء من دين إبراهيم ودلائل هذا في سورة يوسف كثيرة.

والشاهد أنه ذكر لهم أن أئمة الهدى الذين سماهم ما كان لأحد منهم أن يشرك بالله من شيء، وقوله: (ما كان لنا) صيغة جحود تقتضي مبالغة انتفاء الوصف عن الموصوف، فأصل الكلام أن يقال ما كنا نشرك بالله، فلما أراد المبالغة في نفي الشرك نفى المصدر (أن نشرك) أي ما كان لنا الإشراك، وعبر بالمصدر لدلالته على الجنس مجرداً عن زمن بخلاف الفعل، ثم التعبير بالمصدر اقتضى إدخال لام الاستحقاق على متعلقه، فأدخل لام الاستحقاق ونفى الجنس عنهم بنفي الاستحقاق، وهذا من بديع الكلام البليغ، فالمعنى ما كان من حقنا الإشراك، فترك ما ليس بحق ألزم من ترك أمر قد يكون من حق التارك، فلو قال قائل ما كنت أفعل كذا، قد يقال: ليس ذلك لعدم استحقاقه الفعل لكن لكرم أخلاقه أو غير ذلك، أما إن قال ما كان لي أن أفعل كذا، فهذا يقضي بأنه ليس من حقه أن يفعل كذا، فلا يحق لهم فعله.

ثم مع هذا التأكيد قال: (من شيء) فأدخل من على المفعول ليحقق العموم، فكأنه يقول ما كان لنا أن نشرك بالله نبياً مرسلاً، ولا ملكاً مقرباً، ولا كوكباً معظماً، ولانجماً متوهجاً، ولا كل ما يصح عليه إطلاق لفظ الشيء غير الله، وكل ذلك جار على عادة الأنبياء في تعظيم الأمر بالتوحيد، والنهي عن الشرك، بخلاف من تنكب سبيلهم، فتراه ثاني عطفه يظن أنه قد حقق التوحيد، فإذا أمر آمر به أو نهى عن ضده، فلا يظن أبداً أن الكلام متوجه إليه، أو أنه مقصود مخاطب به، بل ربما رأى الدعوة إليه والتذكير به من الفضول إذ الناس مسلمون، وإذا حسن حاله ظن أن المخاطبين به إنما هم أناس في بلد غير بلده، أو أن الكلام قصر على الذين يدعون الموتى ويطوفون بالقبور وينذرون لها ويحجون، فأعيذك أيها القارئ وأعوذ بالله أن تكون تلك حالي أو حالك، أو هذا ظني وظنك، بل أنت أنت المراد، أنت أنت المخاطب بتحقيق التوحيد واجتناب الشرك، ولي في ما أقول لنفسي العظة والعبرة.

فلتكن لنا في الأنبياء والمرسلين قدوة، فهذا يوسف يقول ما يقول، معظماً أمر التوحيد عنده وعند آبائه، ولنقف مع أحدهم بل سيدهم إبراهيم –عليه السلام- لنفهم ما بال يوسف يعظم أمر التوحيد عندهم، ولنر هل تجاوز في ذلك الصِّديقُ؟ قال أبوه عليه السلام كما أخبر الله _تعالى_ عنه: "...وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ" [إبراهيم:35]، فيا سبحان الله! إمام الموحدين، وقدوة المحققين، مجادل الصابئين الفلاسفة، مبطل مذاهبهم الزائفة، بالحجج البينة الدامغة، ناصب أدلة التوحيد ورافع أعلامها، وخافض رايات الشرك الجازم ببواتر الحجج هامها، من برأه الله فقال مؤكداً: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" [النحل:120]، وفي غير آية وما كان من المشركين، المبرأ من الشرك على ألسنة النبيين، هذا الإمام _صلى الله عليه وسلم_ مع كل ذلك يقول: "... وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ..."[إبراهيم:36].

تأمل هذا المشهد، ترى نبي الله يقف على مشارف مكة يشير إليها إشارة القريب "رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام"، ترك لتوه بنيه بواد غير ذي زرع(1)، ولك أن تتوهم حاله وما يعتمل في قلبه، أي تعلق بالله قام فيه، وأي إشفاق على بنيه يختلج في نفسه، أتُرى الداعي في ذلك المقام يدعو بغير ألزم الدعاء وأحراه به، لنفسه ولمن خلف؟ ثم تأمل بم دعا عليه السلام ولمن دعا! دعا الله أن يجنبه عبادة الأصنام وبنيه –أتدري من هم بنوه! قال الله _تعالى_: "وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ..." [العنكبوت:27]، فليت شعري ماذا يقول أولئك الذين إذا ذكر الله وحده نفروا، وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون، ماذا يقولون لو أن واعظاً وعظهم بما دعا به إبراهيم _عليه السلام_.

فاللهم رحماك وإياك نسأل أن ترزقنا تحقيق التوحيد، والخوف من الشرك والحذر، وأن تجنبنا وبنيننا أن نعبد الأصنام، ربنا إنهن أضللن كثيراً من أصحاب العقول، في الهند والسند، والشرق والغرب، بل وفي بعض ديار المسلمين، فلك الحمد على الهداية، ونسألك الثبات حتى نلقاك على التوحيد -أرجى ما به نلقاك.

_______________
(1) يدل على ذلك سياق الآيات بعدُ إذ قال: "رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ" [إبراهيم: 36-37]، أما قوله: "عند بيتك المحرم" فيعني موضعه أو أثره المندرس وقد بناه آدم _عليه السلام_ أولاً.