بعد 3 أعوام من العدوان:نتائج الاحتلال على الأمريكان .. كارثية

ثلاثة أعوام مضت منذ بدأت القوات الأمريكية إعتدائها الغاشم ، الواهى الذرائع على بلاد الرافدين ، مئات الآلاف من أطنان المتفجرات من كل نوع ، قصفت الإنسان والنبات والماشية والطرق ومواسير المياه والصرف وأعمدة الكهرباء والمساكن والمشافى والمدارس ، تحت عنوان " نشر الديموقراطية " و " محاربة الإرهاب " ؟؟!
آلاف المليارات من الدولارات أنفقت لتضخ فى مصانع السلاح الأمريكية من جيوب كل المقهورين فى العالم ، لتجهيز الآلة العسكرية الأمريكية أولا للعدوان .. ثم لدعم هذا العدوان أمام ما يلقاه من مقاومة باسلة ، ثم لتعويض الخسائر المتصاعدة فى العتاد والسلاح والجنود ، مليارات لو أنها أنفقت على كل مناطق المجاعات وكوارث الجفاف والفياضانات والزلازل لكفتها وزادت ، وربما لأعطت لأمريكا ما لا تحلم به من نفوذ فى قلوب وعقول البشر ، ولكنها فضلت أن تسير عكس الاتجاه ، وأن تقتات على لحوم البشر ، ودمائهم وبترولهم فماذا كانت النتائج ؟ وما هى النتائج المتوقعة لتداعيات الحرب الدائرة فى العراق على الإمبراطور الأمريكى ونخبته الحاكمة ؟! أسئلة لم تعد إجاباتها بعيدة عن التصور .. بالرغم من أن هناك من لا يزال يتعبد للصنم الأمريكى والغربى ـ والعياذ بالله ـ حتى بعد أن ثبت لكل ذى عينين أنه غير قادر على الدفاع عن نفسه .. وياللعجب !

أمريكا قبل العدوان ..
قبل أن تبدأ أمريكا عدوانها الغاشم على العراق ، كان الدب السوفييتى قد سقط متناثرا ، وكانت الساحة الدولية تشهد فراغا وهلامية نتيجة لهذا السقوط ، وأوروبا والصين لم تكونا مؤهلتين لشغل هذا الفراغ ، وبدا الانفراد الأمريكى فى غياب قطب مواجه أمرا حتميا ، وقد تحركت أمريكا سريعا لتثبيت وتأكيد هذه الحالة ، فبدأت ضرباتها الاستباقية فى أفغانستان ونجحت فى تأمين غطاء من الأمم المتحدة لعدوانها على أفغانستان ، كخطوة استراتيجية لتأمين احتكارها لبترول وغاز بحر قزوين ، ولحصار التقارب الأوروبى الروسى الذى تبدى فى صفقة الغاز التى عارضتها أمريكا بشدة ، ويقدر الاقتصاديون أن الاقتصاد الأمريكى كان ما يزال يقف على قمة اقتصادات العالم المتقدم فى ذلك الحين رغم تراجع معدلات النمو فيه ومشارفته على أزمة طاحنة ، فى العقد السابق على بداية غزو العراق .
وعلى مستوى النفوذ السياسى الأمريكى ، تسيد خطاب أحادية القطب الأدبيات السياسية فى العالم ، وتزايد المؤيدين لمنطق الخضوع للأمر الواقع ، بل ووصلت بعض الكتابات والتحليلات إلى أن تربع أمريكا على قمة العالم العسكرية والاقتصادية ليست واقعا فحسب ، بل تمثل خطا صاعدا يزيد الفارق فيه " الهوة التكنولوجية " بمعدلات لا يمكن جبرها .
وقد شجع هذا الوهم الإدارة الأمريكية اليمينية الحالية وسابقتها ، على إعلان بدء النظام العالمى الجديد ، ليس فى شقه الاقتصادى فقط ، ولكن على كافة المحاور السياسية والعسكرية والقانونية والثقافية .. بل والعقائدية ، وبدأت فى ممارسة هذه القواعد الجديدة على أرض الواقع ، فضربت عرض الحائط بكل ممانعة أو محاولة للمشاركة فى غنائم العراق حتى من الشركاء التقليديين ، وألغت دور منظمة القهر الغربى الدولية " الأمم المتحدة " ومجلس الأمن ، واستخدمت التهديد والوعيد مع الحلفاء فى العالم الغربى ، و" الأصدقاء " فى المنطقة العربية ، ومع هذا فقد استطاعت أن تجر الذيل البريطانى ومعه أغطية من عشرات الدول لتنشئ ما أسمته " قوات التحالف الدولى " من الدول الراغبة بمشاركات رمزية ، وفى البداية كان عدد الراغبين من أوروبا الشرقية وحدها 18 دولة أرسلت قوات تابعة لها إلى العراق . إضافة إلى اليابان وأسبانيا وإيطاليا وأستراليا .. إلخ .
كانت هذه هى صورة أمريكا قبل الحرب ، وبعد عقد ونصف من الحصار لإضعاف العراق وتحطيم بنيته الأساسية إلى أبعد حد ، ووصل الأمر إلى سقوط العديد من رموز النخب العلمانية العربية فى اليأس من المقاومة لقوة البطش الأمريكى حد العمالة ، وظهر فى هذا البلد وذاك من يراهن على الدبابة الأمريكية مخلّصا من استبداد النظم صراحة ودون خجل ، وتراجعت أوروبا فى لهجتها راضية بدور " الكومبارس " بعد عرض فيلم الحشد العسكرى الكبير فى الخليج .. ولعبت دول المنطقة دورها صاغرة .. وكما طلب منها .. فماذا كانت نتائج العدوان ؟!

صورة أمريكا فى مستهل العام الرابع للعدوان ..
لم يلبث الاستعراض الذى أخرجه " هوليوودى " بممثلين من البشمرجة ينتهى بمشهد سقوط تمثال صدام ، حتى بدأت أعمال المقاومة وعملياتها تتخذ منحنى صاعدا بزاوية شبه عمودية وبسرعة الصاروخ ، ودأبت قوات الاحتلال فى البداية على إرجاع سبب الانفجارات التى يشاهدها الناس والمراسلون الذين حشدهم الأمريكيون أنفسهم إلى ما أسموه " النيران الصديقة " ، ومع تزايد النيران أرجعوها " لفلول الصداميين " ، وعندما لم يبق على أرض العراق شبرا واحدا يستطيعون هم أو عملاؤهم السير فيه خارج المنطقة الخضراء بل وداخلها ، وبدأت أكياس موتاهم تلون المشهد الأمريكى باللون الأسود ، وفشلت كل محاولات إخفاء الأعداد المتزايدة للقتلى والجرحى ـ تشير بعض التقديرات المحايدة إلى رقم يتجاوز السبعة آلاف قتيل وما يزيد على الثلاثين ألف جريح ـ واهتزت صورة الإمبراطور الجديد ، وبدأت لغة الخطاب السياسى الأوروبى تكتسب خشونة غابت عنها منذ عقود ، وعادت إلى الذاكرة الدولية الغربية مصطلحات منسية ، عن القانون الدولى ، والأمم المتحدة ، ومجلس الأمن ، وتراجعت العنجهية الأمريكية خطوات وبدأت تحث دول الغرب للمشاركة وتقدم تنازلات فى ملفات إقليمية لفرنسا وألمانيا والصين وروسيا ، للحصول على غطاء من مجلس الأمن ، وإلى قوى داخلية كانوا يعاملون قادتها معاملة الخدم ، وظهرت أدوار كانت ملغاة لجامعة الدول العربية والدول الرئيسية فى المنطقة ، وتفجرت فضائح الجرائم الأمريكية العسكرية والاقتصادية والإنسانية فى العراق سواء التى ارتكبت فى الحصار أو فى العدوان العسكرى والاحتلال ، وتفجرت معها المظاهرات فى كل بلدان العالم تطالب بوقف هذه الجريمة ومحاكمة مرتكبيها ـ يذكر أن العدوان على العراق هو العدوان الوحيد فى التاريخ الذى بدأت الشعوب احتجاجاتها عليه قبل أن يبدأ ـ وبضغط المقاومة فى الداخل وتحركات الشعوب فى الخارج بدأ الاستعراض العسكرى لجنود الدول التى شاركت فى العدوان يتحول إلى سمفونية وداع ، وكان مئات الجنود من المجر ومولدافيا فى طليعة العائدين من حيث أتوا . وفى ديسمبر 2005 سحبت بلغاريا جنودها وخفضت أوكرانيا عدد فرقتها وكانت قد شاركت فى البداية ب1650 جندى . غالبية الدول الأوروبية الشرقية الأخرى إما خفضت عدد جنودها بصورة ملحوظة أو تحتفظ بفرقة رمزية لا يزيد عدد أفرادها عن 120 جنديا . باستثناء بولندا التى كانت منذ بداية الأزمة العراقية الأكثر حماسا لمساندة الولايات المتحدة والحصول على مقعد بين الدول الكبيرة والفوز بنفوذ سياسى والحصول على معونات اقتصادية وعسكرية ، خاصة وأن بولندا تصبو منذ وقت لتمنح الأمريكيين قواعد عسكرية فى أراضيها إذا قرروا سحب قواعدهم من ألمانيا . وكانت هذه القضية قد اكتسبت أهمية حين عارض المستشار السابق جيرهارد شرودر حرب العراق وهدد الأمريكيون بإغلاق قواعدهم ، ولم ينتظر الرأى العالمى طويلا لكى يكتشف أن ألمانيا قامت بدور خفى فى العدوان على العراق من خلال المخابرات الألمانية التى زرعت عميلين فى بغداد وثالث فى مكتب القائد العسكرى لقوات الاحتلال الجنرال تومى فرانكس . وفى القريب سوف يمثل شرودر ووزير الخارجية فى الحكومة الألمانية السابقة أمام لجنة تحقيق برلمانية بألمانيا للإدلاء بأقوالهما حول اتهام الحكومة السابقة بدعم الأمريكيين . وتبقى رومانيا وجيورجيا حيث لكل منهما 850 جندى مازالوا فى العراق . وكانت هذه البلدان تسعى بصورة محددة للحصول على عضوية حلف شمال الأطلسى ثمنا لمشاركتها فى جريمة الاعتداء على العراق . وسقط أزنار فى أسبانيا وسحب ساباتينى الذى خلفه القوات الأسبانية من العراق ، وأعلن بلير أن عام يمثل مدة مناسبة لسحب القوات الإنجليزية ـ الحليف الرئيسى للأمريكيين ـ والحبل على الجرار كما يقولون ، فحتى بولندا التى سعت لاحتلال مكان ألمانيا فى حالة إغلاق القواعد الأمريكية فيها يتوقع أن تسحب قواتها ( 1500 جندى ) بنهاية عام 2006 .
على مستوى القوى السياسية التى تبنت بنفسية الهزيمة إتباع الحل الأمريكى ، تقلصت هذه القوى ولم يعد واقفا فى هذا الخندق إلا العملاء السافرون ، وتصاعد النفوذ السياسى لنهج المقاومة فى المنطقة ، وانعكس ذلك على الانتخابات التشريعية الفلسطينية ، والمصرية والأردنية ، وبالأساس على النفوذ السياسى والفكرى للمقاومة فى داخل العراق ، وتعكس زيارة رايس وسترو الأخيرة لدفع الفرقاء فى صفوف العملاء إلى الإسراع بتكوين الغطاء المطلوب لخروج المحتل من أزمته ، مدى تصاعد نفوذ المقاومة ووقدرتها على إحباط كل محاولات العدو لتسوية أزمته ، ويتوقع المراقبون أن أية انتخابات حرة تجرى فى أى بلد عربى أو إسلامى سوف تأتى بالإسلاميين إلى الحكم ، فى تعبير صريح للهزيمة السياسية لأهداف العدوان على العراق .
انهارت المكانة الدولية والعالمية السياسية والعسكرية والاقتصادية لأمريكا إذن ، وبدأت العديد من القوى الدولية تضمن خطابها السياسى مصطلح تعدد الأقطاب ، فهل أنجزت أمريكا أهدافا داخلية من العدوان ؟؟

أمريكا من الداخل
التقديرات التى بدات أمريكا عدوانها على أساسها .. سواء التقديرات العسكرية أو السياسية أو الاقتصادية .. جديرة بأن تدخل موسوعة " جينيس " للأرقام القياسية ، باعتبارها أبعد حسابات تقديرية عن الواقع فى التاريخ ، فمن الناحية العسكرية .. أقر قادة العدو الأمريكى بأن حسم الأمور عسكريا مع المقاومة ، أمر غير وارد ، وأن المقاومة تشتد وتتصاعد ، وصرح الزعماء السياسيين حتى من الجمهوريين " جون مورثا " عضو الكونجرس بأن " الجيش لن يستطيع أن يحقق فى العراق أكثر مما حقق ، وعليه الآن أن يعود إلى الوطن ، وقد طالب الديموقراطيين بوش بوضع جدول زمنى للانسحاب ، وصرح بيل كلينتون الرئيس السابق " أن الحرب على العراق كانت خطأ فادحا " ، السيناتور بول هاتريك ينطق بالهزيمة واليأس من مواجهة المقاومة يقول " الأفكار لا تموت ، وأنت لا يمكنك قتل الأفكار بقتل الأشخاص ، وما نخوضه فى العراق هى حرب على الأفكار " ، بينما كانت التقديرات الأولية لأركان الحرب الأمريكيون تؤكد أن هزيمة العراق وتثبيت أوضاع " ملائمة " فيها لن تستغرق ما يزيد على العام ونصف ، وقد بلغ اليأس الأمريكى حد تكليف لجنة على أعلى مستوى ، اجتمعت برؤوس المتعاونين مع الاحتلال لإبلاغهم بأن صبر أمريكا قد نفذ ، وفي ثاني زيارة لوفد أمريكي رفيع المستوى خلال أقل من أسبوع، حمل عضوا مجلس الشيوخ جون ماكين ورسل فينجولد ، نفس الرسالة لعملاء العراق ،وقال ماكين في مؤتمر صحفي، عقب لقائه بجلال طالباني و إيراهيم الجعفري، "نحتاج بصورة ماسة للغاية لتشكيل حكومة وحدة وطنية بأقصى سرعة.. الجميع يدرك أن الاستطلاعات تعكس تراجع دعم الشارع الأمريكي" ، حسب الأسوشيتد برس . وأعرب ماكين عن مخاوفه من أن الفشل في العراق لن يخلف فوضى في العراق فحسب ، بل " ستمتد إلى كل دول الجوار " .
إقتصاديا كانت تقديرات التكاليف المتوقعة للعدوان ـ تكاليف العدو فقط بالطبع ـ تنحصر فى مبلغ 200 مليار دولار ، وهو حسب التوقعات الأمريكية قبل العدوان سيدر عائدا ضخما على كافة المحاور وأولها الاقتصادى ، صحيفة جارديان نشرت تقريرا عن تكلفة العدوان على العراق , نسبت فيه لجوزيف ستيجليتز الأستاذ في جامعة كولومبيا والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2001 ، ولخبيرة الميزانيات في جامعة هارفرد ليندا بيلمز قولهما إن التكلفة الحقيقية للحرب على العراق ستصل ما بين تريليون وتريليوني دولار أي عشرة أضعاف التقديرات السابقة . وذكرت الصحيفة أن هذه الدراسة التي شملت مجالات واسعة مقارنة بالتقديرات السابقة تأخذ في الحسبان تكاليف الإعاقة الجسدية الدائمة والعناية الطبية للجنود الذين تضرروا بسبب الصراع , فضلا عن وقع الحرب على الاقتصاد الأميركي . ونقلت الصحيفة عن ستيجليتز قوله "تقديراتنا محافظة للغاية , وربما تكون التكلفة الحقيقية لهذه الحرب أكبر بكثير , كما تجدر الإشارة إلى أن هذه التقديرات لا تشمل تكلفة الصراع بالنسبة لبريطانيا ولا بالنسبة للعراق" .
أما الحالة المعنوية لجنود الاحتلال فحدث ولا حرج ، وحتى بوش المكابر قال الاثنين الماضى في كلمة أمام "نادي كليفلاند" إن " الولايات المتحدة ستغادر العراق ، ولكننا سنغادر من موقع قوة ، وليس ضعف " ، وبصرف النظر عن ادعاءات القوة لبوش فإن التقارير الموثوقة تقرر ، أن 80% من العائدين من العراق يعانون من مشاكل نفسية وهى ضعف النسبة التى نتجت عن حرب فيتنام ، وأن نسب القتلى والإصابات بين المارينز هى الأعلى منذ الحرب العالمية الثانية فالفرقة العائدة إلى أوهايو تزيد نسبة القتلى والمصابين فيها عن 50% .
إن المنحنى الهابط للإمبراطور الأمريكى آخذ فى الانحدار بقوة نتيجة الصمود العراقى ، وقد فتحت على المعتدين أبواب السعير فى غير مكان .. كوريا .. إيران .. أمريكا الجنوبية ، كما فتحت أبواب الأطماع لدى القوى الدولية الكبرى للمشاركة بنصيب متزايد فى سايكس بيكو الجديدية ، وهو ما يضيق حيز المناورة الأمريكية مع العملاء المتعاونين فى الدول المقهورة .. لقد أسقطت المقاومة النموذج الأمريكى من الطرح السياسى العالمى ، لتضع وللمرة الأولى فى التاريخ الحديث بصمة عربية وإسلامية على سجلات تقرير مستقبل البشرية ، وتفتح الباب واسعا على عالم متعدد الأقطاب .. وما يزال الصراع أمام أمتنا طويلا وشاقا ، وحسبنا من هذه المرحلة أننا قد أصبحنا بفضل المجاهدين رقما لا يمكن إهماله فى المعادلات العالمية ، وأن الرقم الأمريكى يخف فى الميزان فى اتجاه حالة من التوازن الضرورى لاستمرار التدافع ، بل لاستمرار الحياة على الأرض .. بعد إرادة الله عز وجل .