أبو حنيفة النعمان... السيرة العطرة والشخصية القدوة 1

النجاح طموح سامٍ يتمناه كل إنسان، ولذا فإن الله _تعالى_ وجه هذه الغريزة الإنسانية والفطرة البشرية لأن تكون ضمن إطارها الصحيح.
وتجد ذلك جليا في دعاء عباد الرحمن الذين نالوا رضاه _تعالى_ ومن ثم النعيم الدائم في جنان الخلد، ومن دعائهم: "وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً" (الفرقان: من الآية74).
وإمامة المتقين لا تكون إلا لمن نال قدراً كبيراً من التقوى والعلم، ولكن العلم لا يستطاع براحة الجسد، بل لا بد من بذل الجهد العظيم والوقت الكثير لتحصيل ذلك العلم. .

فإن العلم بالوحيين من إرادة الله الخير للعبد كما في قوله _تعالى_: "يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً" (البقرة: من الآية269)، وكما في قول رسول الله _صلى الله عليه وسلم_:" من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين". أخرجه البخاري ومسلم من حديث معاوية.

والعلم بالشرع طريق إلى الجنة كما في قول رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضىً لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر" رواه أبو داود والترمذي وحسنه الأرناؤؤط، وحيث إن أصحاب المذاهب المتبوعة قد وصلوا إلى درجة عليا من الإمامة في الدين، فقد بدأت بأولهم زمنا وأكثرهم أتباعا وهو الإمام أبو حنيفة رحمه الله _تعالى_.

نبذة عن التعريف بالإمام:
هو الإمام الجليل أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطى , ولد رحمه الله سنة 80 هـ , كان أبو حنيفة _رحمه الله_ خزازاً يبيع الخز والأقمشة , وعن أبي يوسف قال: كان أبو حنيفة ربعة من أحسن الناس صورة وأبلغهم نطقا وأعذبهم نغمة وأبينهم عما في نفسه.

ويعد أبو حنيفة من صغار التابعين الذين يشملهم حديث ابن مسعود _رضي الله عنه_ أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم"رواه البخاري ومسلم.
وقد روى عن خلق كثير منهم: عطاء بن أبي رباح وهو أكبر شيخ له وأفضلهم على ما قال وعن الشعبي وعن جبلة بن سحيم وعدي بن ثابت وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج وعمرو بن دينار وأبي سفيان طلحة بن نافع ونافع مولى ابن عمر وقتادة وقيس بن مسلم وعون بن عبد الله بن عتبة والقاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود وآخرين

أما أكبر شيوخه في الفقه فهو هو حماد بن أبي سليمان، لدرجة أن الذهبي قال عن حماد: وبه تفقه، مما يدل على أنه لازمه ملازمة كبيرة بحيث عرف به. وسبب الملازمة الطويلة لحماد قصة ذكرها من ترجم له، فقد رووا عن أبي حنيفة أنه قال: قدمت البصرة فظننت أني لا أسأل عن شيء إلا أجبت فيه فسألوني عن أشياء لم يكن عندي فيها جواب فجعلت علي نفسي ألا أفارق حماداً حتى يموت فصحبته ثماني عشرة سنة.

منزلته العلمية:
الثناء على أبي حنيفة في فقهه وتدينه وورعه وصدقه مبثوث في كتب الجرح والتعديل، قال محمد بن سعد العوفي سمعت يحيى بن معين يقول كان أبو حنيفة ثقة لا يحدث بالحديث إلا بما يحفظه ولا يحدث بما لا يحفظ.

وقال صالح بن محمد سمعت يحيى بن معين يقول كان أبو حنيفة ثقة في الحديث وروى أحمد بن محمد بن القاسم بن محرز عن ابن معين كان أبو حنيفة لا بأس به وقال مرة هو عندنا من أهل الصدق ولم يتهم بالكذب ولقد ضربه ابن هبيرة على القضاء فأبى أن يكون قاضيا , وذكره ابن حبان في معرفة الثقات , إلا أنه لا بد من التنبيه إلى أن أبا حنيفة لم يكن من المتخصصين في رواية الحديث مع جلالته، ولذا طعن عليه جمع من أهل الحديث لوجود الخطأ في رواياته..

أما في الفقه: فقد قال الذهبي: وأما الفقه والتدقيق في الرأي وغوامضه فإليه المنتهى والناس عليه عيال في ذلك. قال ضرار بن صرد سئل يزيد بن هارون أيما أفقه الثوري أو أبو حنيفة فقال أبو حنيفة أفقه وسفيان أحفظ للحديث. وفي ترجمته من تهذيب الكمال عن روح بن عبادة قال: كنت عند بن جريج سنة خمسين يعني ومئة وأتاه موت أبي حنيفة فاسترجع وتوجع وقال: أي علم ذهب؟

وأما في العقيدة: فلم يغفل الإمام أبو حنيفة جانب العقيدة، فقد كان له مع المبتدعة صولات وجولات، فله مناظرات معهم تدل على فهم سلفي وبعد عن البدع في الجملة.
روى الخطيب بسنده، عن يحيى بن نصر، قال: كان أبو حنيفة يفضل أبا بكر وعمر، ويحب علياً وعثمان، وكان يؤمن بالأقدار، ولا يتكلم في القدر، وكان يمسح على الخفين، وكان من أعلم الناس في زمانه وأتقاهم.
وعن أبي يوسف، عن أبي حنيفة، أنه قال: من قال: القرآن مخلوق فهو مبتدع، فلا يقولن أحدٌ بقوله، ولا يصلين أحدٌ خلفه.

وأما تعظيمه للنصوص: فقد كان أبو حنيفة من أشد المعظمين للنصوص، وقد جعل منهجه ولمن تبعه أن يقدم النص على كل قول، فقد روى نوح الجامع عن أبي حنيفة أنه قال ما جاء عن الرسول _صلى الله عليه وسلم_ فعلى الرأس والعين وما جاء عن الصحابة اخترنا وما كان من غير ذلك فهم رجال ونحن رجال.
وقال وكيع: سمعت أبا حنيفة يقول: البول في المسجد أحسن من بعض القياس.
وقال أبو يوسف: قال أبو حنيفة: لا ينبغي للرجل أن يحدث إلا بما يحفظه من وقت ما سمعه.

طلابه:
وللإمام أبي حنيفة طلاب ملازمون، أخذوا عنه الفقه وطريقة الاستنباط، كما أن له طلاباً أخذوا عنه الرواية، فممن تفقه عليه زفر بن الهذيل وداود الطائي والقاضي أبو يوسف ومحمد بن الحسن وأسد بن عمرو والحسن بن زياد اللؤلؤي ونوح الجامع وأبو مطيع البلخي وغيرهم كثير جداً.

مكانته في نظر معاصريه:
ولأبي حنيفة _رحمه الله_ تأثير كبير فيمن عاصره، ونجد ذلك منثورا في طيات كلامهم عنه، فنجد عبد الله بن المبارك يقول: لولا أن الله أعانني بأبي حنيفة وسفيان كنت كسائر الناس. وعنه قال: ما رأيت رجلا أوقر في مجلسه ولا أحسن سمتا وحلما من أبي حنيفة. وقال أيضاً كما في (تهذيب الكمال): أفقه الناس أبو حنيفة ثم قال: ما رأيت في الفقه مثله
وقال أبو نعيم: كان أبو حنيفة صاحب غوص في المسائل.
وقال عبدالله بن داود الحربي ينبغي للناس أن يدعوا في صلاتهم لأبي حنيفة لحفظه الفقه والسنة عليهم وقال سفيان الثوري وابن المبارك كان أبو حنيفة أفقه أهل الأرض في زمانه، وقال أبو نعيم: كان صاحب غوص في المسائل وقال مكي بن إبراهيم: كان أعلم أهل الأرض.

ولما انتقد بعض المثبطين القاسم بن معن في جلوسه مع صغار الطلبة بين يدي أبي حنيفة، بطريقة استفزازية، نجد الرد المليء بالحب والإعجاب بهذا العالم المربي، فقد قيل للقاسم بن معن ترضى أن تكون من غلمان أبي حنيفة قال ما جلس الناس إلى أحد أنفع من مجالسة أبي حنيفة وقال له القاسم تعال معي إليه فلما جاء إليه لزمه وقال ما رأيت مثل هذا.

وقال مكي بن إبراهيم كان أعلم أهل زمانه وما رأيت في الكوفيين أورع منه.
وقيل لمالك: هل رأيت أبا حنيفة؟ قال: نعم، رأيت رجلا لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهباً لقام بحجته.
وروى حيان بن موسى المروزي قال: سئل ابن المبارك، مالك أفقه أو أبو حنيفة قال: أبو حنيفة.
وقال الشافعي: الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة.

علاقته بالحكام:
ابتلي أبو حنيفة بالسلطة السياسية في وقته فقد جربوا معه فتنة المال وفتنة السجن فلم يهتز أو يتأثر، قال عبد الله بن المبارك: ما رأيت أحداً أورع من أبي حنيفة وقد جرب بالسياط والأموال.
وفد كان لأبي حنيفة مصادمات مع الولاة، فقد كان يرفض الأوامر الخاصة كتوليته القضاء، وقد روي من غير وجه أن الإمام أباحنيفة ضرب غير مرة على أن يلي القضاء فلم يجب، فقد كان ابن هبيرة قد أراده على القضاء في الكوفة أيام مروان الجعدي فأبى وضربه مئة سوط وعشرة أسواط كل يوم عشرة وأصر على الامتناع فخلى سبيله، وكان الإمام أحمد إذا ذكر ذلك ترحم عليه.

وعن مغيث بن بديل قال دعا المنصور أبا حنيفة إلى القضاء فامتنع فقال: أترغب عما نحن فيه فقال: لا أصلح، قال: كذبت. قال: فقد حكم أمير المؤمنين علي أني لا أصلح فإن كنت كاذباً فلا أصلح وإن كنت صادقاً فقد أخبرتكم أني لا أصلح فحبسه.

محفزات للاستمرار:
من توفيق الله _تعالى_ أن تهيأت له أسباب لطلب العلم والاستمرار فيه، فمن تلك الأسباب:
فقد وفقه الله _تعالى_ للتعلم على يد حماد الفقيه وملازمته السنوات الطوال.
ومن ذلك استغناؤه بالتجارة عن الحاجة للولاة ومنتهم، قال الذهبي عنه: كان لا يقبل جوائز السلطان بل يتجر ويتكسب, وفي شذرات الذهب: وكان لا يقبل جوائز الدولة بل ينفق ويؤثر من كسبه له دار كبيرة لعمل الخز وعنده صناع وأجراء رحمه الله _تعالى_. وهذا يدل على أنه لم تشغله التجارة عن العلم، بل يشرف على عملهم ويستعين بالثقات في إدارة تجارته.

وفي الرؤى مبشرات للمؤمنين، فقد جاء عنه أنه قال: رأيت رؤيا أفزعتني رأيت كأني أنبش قبر النبي _صلى الله عليه وسلم_ فأتيت البصرة فأمرت رجلا يسأل محمد بن سيرين فسأله فقال: هذا رجل ينبش أخبار رسول الله _صلى الله عليه وسلم_.

وفيما استعرضنا في الحلقة الأولى السيرة العطرة للإمام أبي حنيفة، نتابع في الحلقة القادمة بإذن الله مظاهرة القدوة في شخصيته الثرية...