الكتاتيب في أفغانستان ودورها في تحفيظ القرآن الكريم

القرآن الكريم هو كتاب رب العالمين, لكل العالمين, عرباً وعجماً, شرقاً وغرباً, فهو كتاب كل الأجناس وكل الألوان, وكل الأوطان, وكل الألسنة والطبقات, يقول الله _عز وجل_: "تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً" (الفرقان:1), وكان وعد ربنا حقاً إذ قال: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحجر:9), فلم يزل هذا الكتاب محفوظاً في الصدور متلوّاً بالألسنة, مكتوباً في المصاحف, متعبداً بتلاوته في المساجد وفي الكتاتيب والمنازل.

والقرآن الكريم هو أساس العلوم والحضارة عند المسلمين, فنجد أن المسلمين الأوائل قد أخذوا كل نافع ومفيد من العلوم وسخروها لخدمة دينهم, وكانوا مثالاً لغيرهم في شتى ميادين العلوم سواء الدينية أو الدنيوية, وقد كان للكتاتيب كبير الأثر في نشر العلوم المختلفة حتى العلوم التجريبية كالفلك والرياضيات, والطب وغيرها.

ما هي الكتاتيب ؟
الكتاتيب هي عبارة عن حلق منظمة في المساجد لتعليم القرآن الكريم, وتجويده, وحفظه, وتعليم القراءة والكتابة(1). وتلقين الأطفال الصغار المبادئ الأساسية لدين الإسلام الحنيف, وهي جزء من حياة الناس في أفغانستان ارتبطت بواقعهم الديني والثقافي, وتوجد في كل قرية من قرى أفغانستان, وهي من التقاليد العريقة للشعب الأفغاني المسلم منذ فجر الإسلام, وتحتل موقعاً خاصاً في قلوب المسلمين هناك, وهي من أعظم وأهم الوسائل التي من خلالها يظهر أثر ارتباط الجيل الجديد بالقرآن الكريم.

ما الغرض من إنشاء الكتاتيب؟
الغرض المباشر من إنشاء الكتاتيب هو تعليم القرآن الكريم, وتحفيظه, وتعليم الكتابة والقراءة, وربط الأجيال المسلمة بدينها, وترسيخ العقيدة القرآنية في نفوسها.
ولأن القرآن الكريم قد نزل ليبقى ولا سبيل إلى ذلك إلا إذا أودع في الصدور وكتب في الصحف والقراطيس, كان لا بد من محاربة الجهل والأمية ومقاومتها بترويج القراءة والكتابة, يقول ابن خلدون في مقدمته الشهيرة (2):
(اعلم أن تعليم الولدان شعار الدين, أخذ به أهل الملة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن وبعض متون الحديث... وصار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعد من المكان.. وسبب ذلك أن التعليم في الصغر أشد رسوخاً وهو أصل لما بعده لأن السابق الأول للقلوب كالأساس للملكات وعلى حسب الأساس وأساليبه يكون حال من ينبني عليه).

المرحلة الأولى من التعليم في الكتاتيب:
عندما يبلغ الصبي السادسة أو السابعة من عمره يتوجه إلى الكتاب ويلتحق بها, ويسجل اسمه في السجل الرسمي عند الملا أو خليفته, ويلزم بالخضوع للنظام التربوي السائد ويبدأ (الملا) بتعليمه بأيسر وأسهل كتاب وهو (قاعدة بغدادية) والكتاب يحتوي على المبادئ المهمة للغة العربية كحروف الهجاء، وأشكال الحروف وحركاتها، ويشتمل أيضاً على العشر السور الأواخر من جزء عمّ(3).
ويختار الملا إحدى الطريقتين المعمول بها في تدريسه وهما: التلقين, والتهجئة.
التلقين: يبدأ المدرس بتلقين التلميذ كلمة كلمة.
التهجئة: بمعنى أن يتهجى الطالب الكلمة حرفاً حرفاً, وعندما يشعر المدرس أن قراءة الطالب قد تحسنت ينقله إلى مستوى متقدم.
وعندما يختم التلميذ كتاب (قاعدة بغدادية) يقدر على معرفة الحروف وأشكالها ويكون قد اجتاز المرحلة التمهيدية فيبدأ بقراءة القرآن الكريم, ويتدرب على تلاوته, ويستمر على ذلك حتى يختمه, وهذه المرحلة تعتبر الثانية وفق النظام في الكتاتيب في أفغانستان.

حفلة ختم القرآن الكريم:
وعندما يختم التلميذ أو التلميذة القرآن الكريم يقيم والده احتفالاً بهذه المناسبة المباركة يحضرها الأهل والجيران والأصدقاء ويعرف هذا الحفل (حفلة ختم القرآن), ويقدمون للضيوف الحلويات وفي المقابل يحضر الضيوف أنواعاً من الهدايا تكريماً للطالب وأهله ويجد الإنسان الفرح والسرور قد ملأ الآفاق فسبحان من حبّبَ كتابه, الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, إلى عباده.

المرحلة الثالثة:
ثم يدخل التلميذ هذه المرحلة حيث يبدأ بقراءة الكتب عند شيخ الكتاب حسب التسلسل المطبق في الكتاتيب, فبعد القرآن الكريم يتدرج في قراءة كتاب (بنج كنج) أي الكنوز الخمسة, ويليه ديوان الحافظ الشيرازي, وكلستان سعدي, وبوستان، وهي كتب شعرية باللغة الفارسية مطعمة بالمعاني الإيمانية, والمصطلحات العربية, وتحتوي على معظم الأحكام الأولية في التوحيد, والفقه, وتحمل في طياتها الأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة, فمن جانب يتقن الطالب لغته وبالتالي يقدر على القراءة والكتابة, ومن جانب أخر يتربى على أخلاق حسنة, ويكون على بصيرة بأمور دينه ودنياه.

المرحلة الرابعة, وتسمى المرحلة العليا, أو مرحلة المقررات العربية:
وتبدأ من كتاب خلاصة الكيداني (في الفقه), والأربعون النووية, وكتاب شروط الصلاة, والقدوري العربي, ومنية المصلي وغنية المبتدئ, وكنز الدقائق, وإلى جانب هذه الكتب يأخذ الطالب قسطاً كبيراً من الصرف والنحو من الكتب الآتية:
صرف بهائي (الصرف الغالي), وميزان الصرف, وهداية النحو, ونحومير, وشرح مئة عامل, وغيرها, فيتناول الطالب هذه الكتب عند شيخه حسب الترتيب والتسلسل, وإضافة إليها يعطى للطالب الواجب الشوفي يومياً قبل الانصراف بما تقتضيه كل مرحلة, فيلقن التلميذ أركان الإيمان والإسلام, والأدعية المأثورة, ويلزم بمعرفة الآداب الاجتماعية, وبحسن التعامل مع من حوله سواء في الأسرة أو في المدرسة أو الأماكن الأخرى (4).

وعند اقتراب موعد الانصراف من هذا اليوم يقومون بتنفيذ خطوة يهدفون من ورائها التحصين العقدي والثقافي للطلاب وغرس المفاهيم الإسلامية المهمة في أذهانهم, ويختارون طريقة السؤال والجواب بحيث كل تلميذ يتقدم بدوره ويقف أمام المدرسين وزملائهم الطلاب فيدور الحوار التالي(5):
المدرس: من ربك؟
التلميذ: ربي الله.
المدرس: من نبيك؟
التلميذ: نبيي محمد _ صلى الله عليه وسلم _.
المدرس: ماذا قدَّمت لله؟
التلميذ: نفذت ما أمرني به وانتهيت عما نهاني عنه.
المدرس: ما هي أوامر الله؟
التلميذ: النطق بالشهادتين والعمل بمقتضاهما, وإقامة الصلاة, وإيتاء الزكاة, وصيام رمضان, وحج البيت الحرام.
المدرس: ما هي نواهيه؟
التلميذ: ألا يكذب المسلم ولا يظلم...
المدرس: إلى أي أمة تنتمي؟
التلميذ: إلى أمة محمد _صلى الله عليه وسلم_.
المدرس: من أي ملة أنت؟
التلميذ: من ملة أبينا إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين.
المدرس: تُحبٌّ من؟
التلميذ: يجيب بلغته الشعرية الفارسية: (دوست دارم جار بارنبي را).
(أبو بكر وعمر وعثمان وعلي را), أي أحب الخلفاء الأربعة: أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً.
المدرس: أنت مسلم أم والدك؟
التلميذ: والدي مسلم, وأنا مسلم.
المدرس: أنا أشك في إسلامك؟
التلميذ: عندي شاهد يشهد على إسلامي.
المدرس: من يشهد على إسلامك؟
التلميذ: لساني.
المدرس: ماذا ينطق لسانك؟
التلميذ: لا إله إلا الله, محمد رسول الله, وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
المدرس: متى أسلمت؟
التلميذ: من يوم الميثاق حين قيل لنا "ألست بربكم قالوا بلى".
المدرس: ماذا تقول حين دخولك البيت؟
التلميذ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ثم يردد التلاميذ بصوت واحد:
غفر الله لأساتذتنا والصلاة والسلام على رسولنا الكريم.

الملا وبي بي آتون؟
الملا في اللغة الأفغانية هو شيخ العلم في التدريس, وبي بي آتون شيخة العلم في تدريس الجزء الخاص بالبنات, وكتاتيب البنات لها وجود متميز, خصوصاً في المناطق الشمالية والغربية من أفغانستان.
ونعود إلى الملا وهو الشخصية المميزة في الكتاتيب لا يستطيع أحد من التلاميذ أن يناقشه أو يخالف له أمراً, بل يأمر التلاميذ جميعاً أن يمتثلوا لأمره ودورهم الوحيد هو التلقي.
ومن الطبيعي أن يشترط في الملا أن يكون مؤهلاً تأهيلاً أعلى وفهماً أعمق لحقائق الدين وتفسير القرآن الكريم, والمعرفة التامة بالحديث النبوي الشريف, وأن يكون على بصيرة من الفقه بالأحكام.

المراقبة الجدية:
لا يقتصر دور الملا على القيام بمهمة التحفيظ والتدريس فحسب بل يتعدى إلى ما هو أهم من ذلك هو المراقبة العملية للطلاب ليتأكد أنهم يعملن بما تعلموا, ويتميزون عن غيرهم في جملة تصرفاتهم وسلوكهم سواء في أروقة الكتاتيب أو خارجها و إلا سوف يتعرضون للمساءلة من قبل الملا, كل ذلك من أجل الحفاظ على سمعة الكتاتيب الطيبة (6).

التأديب:
في العادة يجمع الملا بين الترغيب والترهيب في تعامله مع تلاميذه وهو ذو مهارة في التمييز بين من ينتبه للدرس ومن لا ينتبه فيطبق قاعدة (العصا لمن عصا) ويرى الملا أن التأديب لا بد منه كي يتعود الطلاب على النظام, إذ التلميذ في هذه السن المبكرة يستهويه اللهو ويستقطبه اللعب فإذا لم يجد ما يصرفه إلى الجد ويلوي عنانه نحو آثر ما هو أميل فيه وأرغب, فالضرب الخفيف للأطفال في الكتاتيب هو إحدى وسائل التأديب والتهذيب باتفاق الملا وأولياء أمور التلاميذ في أفغانستان (7).

ما هو دور الحفاظ؟
هو فصل خاص من فصول الكتاتيب مهمته تعليم القرآن الكريم, تلاوة وتجويداً, يجلب الطلبة الراغبين في حفظ القرآن الكريم فيحفظهم ويقرئهم ويعطيهم شيئاً من مهمات الدين في العقيدة والأحكام طبقاً للمنهج المقرر في الكتاتيب.

________________
(1) المعجم الوسيط 2/775
(2) مقدمة ابن خلدون ص537
(3) تاريخ التربية والتعليم في أفغانستان لعرفان ص106
(4) تاريخ التربية والتعليم ص112
(5) تاريخ التربية والتعليم ص175
(6) تاريخ التربية والتعليم ص197
(7) تاريخ التربية والتعليم ص219