الاتجاهات المنحرفة في التفسير(4 – 4)

الاتجاه السادس: الاتجاه المنحرف في تفسير الخوارج:
نشأت الخوارج -كما هو معروف- بعد قضية التحكيم، ثم دبّ الخلاف بين الخوارج فتفرقوا أحزاباً، أشهرها الأزارقة، والنجدات، والصفرية، والإباضية، ولكن كل فرق الخوارج تجمع على مبدأين اثنين: أحدهما: تكفير عثمان وعلي ومعاوية والحكمين وأصحاب الجمل وكل من رضي بتحكيم الحكمين. ثانيهما: وجوب الخروج على السلطان الجائر. وهناك مبدأ ثالث يقول به أكثر الخوارج: وهو التكفير بارتكاب الكبائر.

وأدى تعدد فرق الخوارج ومذاهبهم وآرائهم إلى أن تبحث كل فرقة منهم عن أسس من القرآن الكريم تبني عليها مبادئها وتعاليمها، فكانت كل فرقة تنظر إلى القرآن من خلال عقيدتها، فما رأته في جانبها – ولو ادعاء- تمسكت به واعتمدت عليه، وما رأته في غير صالحها حاولت التخلص منه بصرفه وتأويله بحيث لا يبقى متعارضاً مع آرائها وتعاليمها.

والذي يقرأ ما يُنقل عن الخوارج من أفكار التفسير يرى أن المذهب قد سيطر على أفهامهم، فمثلاً نرى أكثر الخوارج يجمعون على أن مرتكب الكبيرة كافر ومخلد في النار، ومن أدلتهم على ذلك قوله _تعالى_: "هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" [التغابن: 2]، قالوا وهذا يقتضي أن من لا يكون مؤمناً فهو كافر، والفاسق ليس بمؤمن فوجب أن يكون كافراً. ولكن لا يسع الذي يعرف سياق هذه الآيات ويعرف الآيات والأحاديث الواردة في حق مرتكبي الكبائر وعصاة المؤمنين؛ إلا أن يحكم بأن الخوارج لا يكلفون أنفسهم عناء البحث عن أهداف القرآن وأسراره بل يقفون عند حرفية ألفاظه، وينظرون إلى الآيات نظرة سطحية، وربما كانت الآية لا تنطبق على ما يقصدون إليه، ولا تتصل بالموضوع الذي يستدلون بها عليه.

ولم يكن للخوارج من الإنتاج التفسيري مثل ما كان للمعتزلة والشيعة وغيرهما من الفرق، وكل ما وصل إلينا من تفسير الخوارج الأول لم يزد عن بعض أفهام لهم لبعض آيات القرآن الكريم، تضمنها جدلهم واشتملت عليها مناظراتهم، ولسنا نعرف من فرق الخوراج فرقة باقية إلى اليوم غير فرقة الإباضية، وهم أتباع عبد الله بن إباض، وهم أعدل فرق الخوارج وأقربها إلى تعاليم أهل السنة، ولسنا نعرف لغير هذه الفرقة مصنفات في التفسير، والذي وقع لنا من تفاسيرهم شيء قليل، من أهمها تفسير هود بن محكم الهواري من القرن الثالث، وهو موجود ومتداول بين الإباضية في بلاد المغرب، وهو يقع في أربع مجلدات، وتفسير (هميان الزاد) وتفسير (تيسير التفسير) كلاهما للشيخ محمد بن يوسف إطفيش من أهل القرن الحاضر(1).


الاتجاه السابع: الاتجاه المنحرف في تفسير الصوفية:
لم يعرف لفظ التصوف ولم تطلق كلمة الصوفية إلا في منتصف القرن الثاني الهجري، وفي هذا القرن تولدت بعض الأبحاث الصوفية، وظهرت تعاليم القوم ونظرياتهم التي تواضعوا عليها، وأخذت تتزايد.

ولقد كان لبعض المتصوفة صلات قوية بالفلاسفة واهتمام بالنظريات الفلسفية، ومن هنا كان للمتصوفة في تصوفهم اتجاهان: اتجاه نظري يقوم على البحث والدراسة، واتجاه عملي يقوم على التقشف والزهد والتفاني.

وكان للمتصوفة كغيرهم دراسات في القرآن الكريم، عليها طابع التصوف بنوعيه السابقين، وليس من السهل أن يجد الصوفي في القرآن ما يتفق صراحة مع تعاليمه، ولا ما يتمشى بوضوح مع نظرياته التي يقول بها، إذ أن القرآن عربي جاء لهداية الناس لا لإثبات نظرية من النظريات ربما كانت مستحدثة وبعيدة عن روح الدين وبداهة العقل. غير أن الصوفي حرصاً منه على أن تسلم له تعاليمه ونظرياته يحاول أن يجد في القرآن ما يشهد له أو يستند إليه، فتراه من أجل هذا يتعسف في فهمه للآيات القرآنية، ويشرحها شرحاً يخرج بها عن ظاهرها الذي يؤيده الشرع وتشهد له اللغة (2).

وإذا ما ذهبنا نستعرض ما للقوم من تفسير صوفي نظري وما لهم من تفسير إشاري فيضي؛ وجدنا هذا أو ذاك اتجاهاً منحرفاً عن النهج القويم لتفسير القرآن الحكيم.

أولاً: التفسير الصوفي النظري:
وهو يخرج بالقرآن في الغالب عن هدفه الذي يرمي إليه، فيأبى الصوفي إلا أن يحول القرآن عن هدفه وقصده إلى ما يقصده هو، وغرض الصوفي بهذا كله أن يروج لتصوفه على حساب القرآن، وأن يقيم نظرياته وآراءه على أساس من كتاب الله تعالى، وبهذا الصنيع يكون الصوفي قد خدم فلسفته ونظرياته التصوفية، ولم يقدم للقرآن شيئاً إلا هذا التأويل الذي كله شر على الدين.

ونستطيع أن نعتبر محيي الدين ابن عربي شيخ هذه الطريقة في التفسير، وإن كان له من التفسير الإشاري ما يجعله في عداد المفسرين الإشاريين إن لم يكن شيخهم أيضاً، وله كتب يُشك في نسبتها إليه كالتفسير المشهور باسمه، وكتب تُنسب إليه حقيقة كالفتوحات المكية والفصوص، وهو يطبق كثيراً من الآيات القرآنية على نظرياته الصوفية الفلسفية، فهو صاحب عقيدة وحدة الوجود، والتي يعني بها أنه ليس هناك في الوجود إلا وجود واحد كل العالم مظاهر له ومجال له، فيزعم أن الله هو الموجود بحق وكل ما عداه ظواهر وأوهام، ولا توصف بالوجود إلا بضرب من التوسع والخيال –تعالى الله عما قال ابن عربي وأمثاله-، وهذا مثال لتفسيرات ابن عربي النظرية الصوفية التي يطبق فيها ضلالات وحدة الوجود: ففي تفسيره لقوله _تعالى_: "وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ" [البقرة: 163] قال ما نصه: "إن الله _تعالى_ خاطب في هذه الآية المسلمين والذين عبدوا غير الله قربة إلى الله، فما عبدوا إلا الله، فلما قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى فأكدوا ذكر العلة؛ فقال الله لنا: إن إلهكم والإله الذي يطلب المشرك القربة إليه بعبادة هذا الذي أشرك به واحد، كأنكم ما اختلفتم في أحديته..." (الفتوحات ج4 ص 160).

إن التفسير الصوفي النظري – نقرر هذا في صراحة واطمئنان- يخرج بالقرآن في الغالب عن هدفه الذي يرمي إليه، ورأيي الذي أدين الله به: أن مثل هذا التفسير القائم على نظرية وحدة الوجود ما كان لنا أن نقبله مهما كان قائله، كذلك ليس لنا أن نقبل التفسير الذي أُسس على نظريات الفلاسفة الذين بحثوا في الطبيعة وما وراء الطبيعة، والذي جرى عليه ابن عربي وغيره من المتصوفة في تفسيرهم لبعض الآيات القرآنية. (التفسير والمفسرون، ج2 ص 337).

ثانياً: التفسير الصوفي الإشاري الفيضي:
أما الاتجاه الإشاري أو الفيضي، فللقوم فيه جولات وشطحات، وهو تأويل آيات القرآن الكريم على خلاف ما يظهر منها بمقتضى إشارات خفية تظهر لأرباب السلوك، ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة.
والفرق بينه وبين التفسير الصوفي النظري؛ أن النظري ينبني على مقدمات علمية تنقدح في ذهن الصوفي أولاً ثم ينزل القرآن عليها بعد ذلك، أما الإشاري فلا يرتكز على مقدمات علمية، بل يرتكز على رياضة روحية يأخذ بها الصوفي نفسه حتى تنكشف له فيها من سجف العبارات هذه الإشارات القدسية. كما أن التفسير الصوفي النظري يرى صاحبه أنه كل ما تحتمله الآية من معان وليس وراءها معنى آخر، أما الإشاري فيرى أن هناك معنى آخر تحتمله الآية ويراد منها أولاً وقبل كل شيء وهو المعنى الظاهر.

وإذا ما بحثنا عن مستند لهذا الاتجاه الإشاري في التفسير؛ وجدنا مستندهم الأول والأهم ما يُنسب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من أن للقرآن ظاهراً وباطناً، وعلماء الرسم -في زعمهم- هم الذين يفهمون الظاهر فقط، أما الباطن فلا يدركه إلا من صفت نفسه. ولا نريد أن نناقش القوم في صحة ما ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن للقرآن ظاهراً وباطناً، ولكن نناقشهم في معنى الظاهر والباطن، فهل الظاهر ما يظهر للنص القرآني بادي الرأي، والباطن ألغاز وأحاجي ومعميات لا يفهما إلا هم؟! لا، فالقرآن فوق هذا؛ لأن الله _تعالى_ يقول: "وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ" [القمر: 17]، وقال: "قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ" [المائدة: 15]، وقال: "وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ" [البقرة: 99].

ومهما يكن من شيء فإن ظاهر القرآن -وهو المنزل بلسان عربي مبين- هو المفهوم المجرد، وباطنه هو مراد الله تعالى وغرضه الذي يقصد إليه من وراء الألفاظ والتراكيب، هذا هو خير ما يقال في معنى الظاهر والباطن. وقد اشترط العلماء لصحة المعنى الباطن شرطين: الأول أن يصح على مقتضى الظاهر المقرر في لسان العرب بحيث يجري على المقاصد العربية، والثاني أن يكون له شاهد -نصاً أو ظاهراً- في محل آخر يشهد لصحته من غير معارض.
إذا عرفنا هذا ثم ذهبنا نستعرض على ضوئه أقوال القوم في معاني القرآن الباطنة؛ وجدنا كثيراً منها من قبيل الباطن الصحيح، ووجدنا كثيراً منها أيضاً من قبيل الباطن الفاسد المرفوض. فمن الأفهام الباطنة، والتي يمكن أن تكون من الصحيح المقبول: ما قاله سهل التستري في تفسيره لقوله _تعالى_: "فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ" [البقرة: 22] قال: "أنداداً" أي: أضداداً، فأكبر الأضداد النفس الأمارة بالسوء، المنطلقة إلى حظوظها ومناها بغير هدى من الله) انتهى من (تفسير القرآن لسهل التستري، ص 14).

وتفسيره هذا مشكل من حيث الظاهر؛ لأن سياق الآية وما يحف بها من قرائن يدل على أن الأنداد مراد بها كل ما يعبد من دون الله سواء أكان صنماً أم غير صنم، أما الأنفس فلم تكن معبودة لهم، ومع هذا فيمكن أن يكون لهذا التفسير وجه صحيح، وبيان ذلك أن سهل لم يرد أن يفسر الآية، بل أتى بما هو ند في الاعتبار الشرعي، والنفس الأمارة هذا شأنها. وهناك ما يشهد لذلك، وهو أن عمر بن الخطاب _رضي الله عنه_ قال لبعض من توسع في الدنيا من أهل الإيمان: أين تذهب بكم هذه الآية: "أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا" [الأحقاف: 20]، وكان هو يعد نفسه بها مع أن الآية نزلت في حق الكفار لقوله _تعالى_ فيها: "وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ" [الأحقاف: 20]، فعمر _رضي الله عنه_ أخذ من معنى الآية معنى أجرى الآية فيه وإن لم تنزل فيه، خوفاً من أن يكون التوسع في المباحات سبباًًً في الحرمان من نعيم الآخرة.

أما التفسيرات الباطنة المرفوضة فهناك أقوال في التفسير الصوفي الإشاري يقف أمامها العقل حائراً وعاجزاً عن تلمس محمل لها تُحمل عليه، فمن ذلك تفسير سهل التستري قوله _تعالى_: "وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ..." [النساء: 36] بقوله: "... وأما باطنها: فالجار ذي القربى هو القلب، والجار الجنب هو الطبيعة، والصاحب بالجنب هو العقل المقتدي بالشريعة، وابن السبيل هو الجوارح المطيعة لله" (تفسير القرآن العظيم للتستري، ص 41، 45).

وأهم كتب التفسير الإشاري: (تفسير القرآن العظيم) لأبي محمد سهل بن عبد الله التستري المتوفى سنة 273 هـ، وقد طعن بعض العلماء في هذا التفسير، فقد صنفه السيوطي ضمن مَن صنف في التفسير من المبتدعة، وقال: "إنما أوردته في هذا القسم لأن تفسيره غير محمود" (انظر طبقات المفسرين ص 31)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وما ينقل في حقائق السلمي عن جعفر الصادق عامته كذب على جعفر كما قد كذب عليه في غير ذلك" (منهاج السنة، ج 4، ص 155). وتفسير (حقائق التفسير) لأبي عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي، المتوفى سن 412هـ، وتفسير (عرائس البيان في حقائق القرآن) لأبي محمد روزبهان بن أبي النصر الشيرازي الصوفي، المتوفى سنة 666هـ.

*****
هذا آخر ما تيسر عرضه من كتاب (الاتجاهات المنحرفة في تفسير القرآن دوافعها ودفعها)، للدكتور محمد حسين الذهبي، مع بعض الإضافات المهمة من كتابه (التفسير والمفسرون)، وعلى من يرد المزيد فليراجعهما، و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

___________________________
1. انظر التفسير والمفسرون، ج 2، ص 288 – 303.
2. انظر المرجع السابق، ج2 ص 327.