ما خاب من استشار
1 شعبان 1426



الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:

ننتقل لمشهد آخر من مشاهد قصة يوسف _عليه السلام_، ونقف مع قوله _تعالى_: "فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً". كلمة استيأسوا تدل على أن مواقف يوسف _عليه السلام_ كانت مواقف حازمة. هذا النبي، هذا العزيز، هذا الكريم الرقيق اللطيف، لا يفرط في جنب الله أبداً. بهذا تُملك القلوب.

"خَلَصُوا نَجِيّاً" وهذا دليل على أن النجوى مشروعة إذا كانت لمصلحة ولا تضر بالصالح العام . تناجوا لينظروا ما هم فاعلون. فتحدث كبيرهم، وهو أكبرهم سناً أو رئيسهم أو أعقلهم، وربما يكون هو الذي قال لهم من قبل: "لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ" (يوسف: من الآية10)، كل هذا محتمل، وقد يكون فعلاً هو أكبرهم سناً وأعقلهم وهو رئيسهم، ويجوز أن يكون المقصود بكبيرهم أنه صاحب الأمر والنهي فيهم، وهو الأقرب، المهم أن له شأناً، وكلمته مسموعة ورأيه مسدد، وقبل أن نقول: ماذا قال نقف مع فائدة وهي أهمية التشاور.

الشورى سبب من أسباب السداد، ولذلك قال الشاعر:


شاور سواك إذا نابتك نائبة يوماً وإن كنت من أهل المشورات


سليمان _عليه السلام_ يسمع من نملة، ومن هدهد. هدهد يقول لسليمان الذي جمع الله له بين الملك والنبوة:"أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ" (النمل: من الآية22)، هل قطع سليمان رأسه؟ لا، وإنما قال: أثبت، أعطني برهاناً على ما تقول، وإلا ستعاقب، فالمسألة ليس دعوى لكنه لم يردّه ابتداءً، فما الذي حدث؟ ثبت أن ما قاله الهدهد صحيح، فعلاً ثبت أنه أحاط بما لم يحط به سليمان _عليه السلام_، ووجد مملكة لم يعلمها سليمان، فلما أخذ سليمان _عليه السلام_ برأي الهدهد كان سبباً .
لنجاة مملكة ولدخولها في دين الله، وفي ملك سليمان "وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" (النمل: من الآية44).

بلقيس ملكة سبأ لما جاءتها رسالة سليمان وهي كافرة في ذلك الوقت وأسلمت بعد ذلك كما في سورة النمل، ماذا فعلت؟ هل استبدت بالرأي مع أنها كافرة؟ كلا، بل "قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ" (النمل:32) فهي وإن لم تأخذ برأيهم لكنها تشاورت معهم، فسلمت مملكتها، بل أعظم من ذلك دخلت في دين الله، وأسلمت "مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" (النمل: من الآية44).

الله _جل وعلا_ يقول لمحمد – صلى الله عليه وسلم – وهو الذي لا يتصرف إلا بوحي؛ يقول له: "وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر" (آل عمران: من الآية159)، ويقول: "وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ" (الشورى: من الآية38).

وإخوة يوسف _عليه السلام_ كأن الشورى سجية بينهم وطبيعة حتى أصبحوا يألفونها في كل شيء. تشاوروا عندما أرادوا أن يأخذوا يوسف، وتشاوروا في قصة بنيامين، بل حتى قريش كانت تفعل ذلك في دار الندوة.

فما بال بعض الدعاة يتجافون عن هذا الأمر؟ ما بال كثير من الحكام لا يمارسون الشورى الحقيقية؟ نعم كل البلاد الإسلامية فيها برلمانات، ومجلس أمة ومجلس شعب ومجلس شورى، لكن هل تمارس الشورى الحقيقية؟ الحكام وأعضاء مجالس الشعب يعرفون قبل غيرهم هل تمارس الشورى الحقيقية أم لا؟ نخلص من هذا إلى أن الشورى من سير العقلاء سواء كانوا من المسلمين أو من الكفار؛ لأن الشورى توصل إلى الحقائق.

عقلية فرعون "مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ" (غافر: من الآية29) أدت إلى هلاك فرعون، ودمار ملكه، وبعده عن الهدي النبوي والشريعة الإلهية .عدم قبول الرأي الآخر _أنا لا أقصد بالرأي الآخر الرأي المخالف للشرع كما يستخدم الآن_ ربما كان سبباً في الهلاك، فالذين يرفضون الشورى يسيئون إلى أنفسهم وإلى أهلهم وإلى بلادهم.

مارسوا الشورى يا أحبتي في بيوتكم، لا تتصوروا أن الشورى لا تمارس إلا على مستوى الحكام أو على مستوى الدول أو الوزارات، بل حتى في بيتك شاور زوجك وأبناءك، اسمع من غيرك فإن وجدت خيراً فالتزمه ، وإن لم تجد فالأمر بيدك.

نسأل الله التوفيق لما يحب ويرضى، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.