منبع التربية

فاتحة:
قال _تعالى_: "لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ"
انظر: ويزكيهم..
وقال _تعالى_: "كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ"
انظر: ويزكيكم..
ودعا أبوانا إبراهيم وإسماعيل –عليهما السلام- ربهما فقالا: "رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ"
انظر : ويزكيهم..
إذن: التزكية من أخص غايات البعثة..

بين التربية والتزكية:
والتربية والتزكية تشتركان كثيراً في المعنى اللغوي والاصطلاحي، فالزاي والكاف والحرف المعتل ( ز ك ى) أصل يدل على النماء والزيادة والطهارة.. ومنه الزكاة لزيادة المال، وزكا الزرع نما..
والتربية كذلك يتجاذبها أصلان؛ أحدهما: الراء والباء والحرف المعتل ( ر ب ى)، وهو أصل يدل على النماء والزيادة، ومنه الربوة وهي المكان المرتفع، والربا، وهي: الزيادة المخصوصة، والربو وهو علو النَفَس.. والثاني:الراء والباء بالتضعيف(ر ب ب)، وهو أصل يدل على إصلاح الشيء والقيام عليه وضم الشيء إلى الشيء، ومنه رب البيت للقائم عليه، والربيبة الحاضنة، وهي أيضاً ابنة الزوجة...، ومعاني التربية تدور بين هذين الأصلين.
وهذان المعنيان –التزكية والتربية- يتداخلان.. والمعنى الاصطلاحي للتربية قريب جداً من معنى التزكية، بل هو جزء منه وإن كانت التزكية أشرف لفظاً ومعنى، وربما كان من الفرق بينهما أن التزكية متضمنة للتطهير، والتربية قد تتضمن وقد لا تتضمن، وأن التزكية أشمل لمعاني الإيمان والعلم النافع والعمل الصالح، والتربية أقرب إلى إصلاح السلوك، والتزكية تكون من الخارج ومن الداخل، والتربية أقرب إلى كونها من الخارج.. وفروق أخرى اجتهادية..

الشريعة جاءت بأحسن التزكية والتربية..
بعث الرسول _صلى الله عليه وسلم_ يتلو علينا الآيات ويعلمنا الكتاب ويعلمنا الحكمة ويزكينا..
فالنبي _صلى الله عليه وسلم_ كما بعث ليعلم أمور التوحيد وصفة الصلاة فقد علم أصول التربية وقواعدها ومعاقدها، ولا شك أن النصوص في التربية أكثر من النصوص في الزكاة الصوم..! وهذا مهم جداً لتقرير قواعد تربوية مهمة جداً..
فإن المؤمن إذا عرف وفرة النصوص في التربية أورثه ذلك السعي إلى معرفتها وتعلمها والتفكر فيها وإلباسها واقعه التربوي الذي هو فيه.
أضف إلى ذلك كما قلنا إن التربية مبسوطة في الشريعة أحسن بسط، وأكثره اختصاراً، وأصدقه، وأوفاه.. فهذه أربع ميزات لن تجدها في غير نصوص الشريعة التربوية.

"مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ":
و"شيء" نكرة جاءت في سياق النفي فتعم كل شيء، ومنها بلا شك أمور التربية، ودخلت عليها "من" فتمحَّضت للعموم.. والمقصود بالكتاب هنا: القرآن على أحد وجهي التفسير، ويشهد له قوله _تعالى_: "وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ"، ونحو هذا ما جاء عن أبي الطفيل عن أبي ذر قال: " تركنا رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وما طائر يطير بجناحيه إلا عندنا منه علم" رواه ابن حبان.
ومحال أن يجيء الشرع بتفصيل سنن الأكل والشرب ودخول الخلاء ويغفل ما جاءت الرسل لأجله؛ وهو تزكية الناس وتربيتهم! روى مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد عن سلمان أنه قيل له:قد علمكم نبيكم _صلى الله عليه وسلم_ كل شيء حتى الخِراءة! فقال:أجل؛ لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم!
والمقصود أن الشريعة كما جاءت بتفصيل ما دون التربية فأولى أن تجيء الشريعة بأصول التربية وفصولها، ولا يشذ من مهمات التربية شيء إلا وفي الشرع بيانه من جهة الشمول أو جهة الإلحاق.

الشرع جاء بأصول التربية.. من التفسير والتغيير:
فالتربية لها مرتكزان:
الأول: تفسير المتربي وما يدخل في ذلك من التحليل النفسي بفروعه..
الثاني: تغيير المتربي، وما يتبع ذلك من قواعد التربية وأساليبها..،
فإن وجدت في كلام المُحْدَثين تطويلاً وتعقيداً وتخليطاً؛ فالشريعة جاءت بهذين بأحسن اختصار، وأوضح بيان، وبيقينٍ لا يختلجه شك وبحقائق لا يلحقها غلط..
واستقصاء الأمثلة يطول، فمن الأصل الأول –تفسير المتربي-: الصفات المتتابعة عن الإنسان في القرآن: (فرح، فخور، ظلوماً، جهولاً، هلوعاً، جزوعاً، منوعاً...) وغير ذلك من الأسماء المشتقة أو الأفعال الكاشفة، وهذا مما لا يحصى في القرآن فضلاً عن السنة، ومن الأصل الثاني –تغيير المتربي-:نصوص الأخلاق والزهد والتعليم وحوادث السيرة، وهذا مما لا يحصر.. إذا أضفت إلى هذا أن الشرع جاء من العليم الذي يعلم كل شيء، والقدير الذي يقدر على كل شيء.. انفتح لك باب من التربية لا يأتي بعشر عشر معشاره الجاهلون..:
"هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ".

أي دين ذلك الدين الذي  

صهر الأنفسَ حتى لم تعد
 

باسمه أمسى يسوس الأرضَ من
 

ويجوب البحرَ من لم يره
 

ناشراً من فوقه أعلامَهُ