أدب الحوار

اسم الكتاب: أدب الحوار.
المؤلف: سلمان بن فهد العودة.
الطبعة: الأولى، 1424هـ.
الناشر: مكتبة الرشد.

موضوع أدب الحوار مع الآخرين كبير وخطير، فالخلاف بين الناس أمر طبعي مشهور، وللخلاف في أمور الدين والشرع أسباب كثيرة، منها:
1- أن دلالة بعض النصوص الشرعية ظنية، وليست قطعية فتحمل أكثر من اجتهاد في تجديد معناها.
2- اختلاف العقول والأفهام، وتفاوت المدارك.
3- تفاوت العلم؛ فهذا عالم، وهذا أعلم، وهذا أقل.. قال _تعالى_: "وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ" (يوسف: من الآية76).
4- عدم بلوغ الدليل فيقول العالم القول ولو بلغة الدليل في المسألة لما قال به.
5- الهوى والتعصب لقول، أو مذهب، أو رأي، أو شيخ.
كانت هذه الكلمات من مقدمة مؤلف هذه الرسالة المهمة الشيخ سلمان بن فهد العودة – جزاه الله خيراً – وقد بيّن المؤلف مسالك الناس في حل الخلاف وذكر منها الحرب أو الحوار، وفي هذه الرسالة سيتحدث المؤلف عن الحوار، سواء مع الكافر بهدف دعوته إلى الإسلام أو مع المسلم، وذلك من خلال المباحث التالية:

المبحث الأول: الحوار أقوى من البندقية
إن الحوار يكون – أحياناً – أقوى من الأسلحة العسكرية كلها؛ لأنه يعتمد على القناعات الداخلية الذاتية؛ بل ربما أفلح الحوار فيما لا تفلح فيه الحروب الطاحنة.
وفيما يلي حادثتان تاريخيتان قديمتان تدلان على ذلك، وكلا الحادثتين تتعلق بطائفة من الخوارج، ومن المعروف في تاريخ الإسلام أن الخوارج من أكثر الناس ضراوة وقوة، وشجاعة وبسالة في الحروب، مما جعل الناس يرهبونهم.
حتى نساء الخوارج، كن يبدين من ضروب البسالة والشجاعة في الحروب ما تدهش العقول له:
فلننظر كيف فعل بهم الحوار؟!
ذكر الشيخ – حفظه الله – موقف الصحابي الجليل ابن عباس مع الخوارج في زمن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه – فليراجع، وسنذكر هنا الموقف الثاني للخوارج مع الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز – رحمه الله – وقد كتب إليهم ينكر خروجهم، ويقول لهم: "أنتم قليل أذلة"، فردّوا عليه، وقالوا: أما قولك: إنا قليل أذلة، فإن الله _تعالى_ يقول لأصحاب نبيه _صلى الله عليه وسلم_: "وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" (الأنفال:26)، فردوا عليه بذلك.
فوجَّه إليهم عمر بن عبد العزيز فقيهاً اسمه: عون بن عبد الله، وهو أخو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة _رضي الله عنهم ورحمهم أجمعين_.
فقال لهم عون بن عبد الله: إنكم كنتم تطلبون حاكماً في مثل عدالة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- فلمّا جاءكم هذا الحاكم كنتم أنتم أول من نفر عنه وحاربه.
قالوا: صدقت، ولكنه لم يتبرأ ممن قبله ولم يلعنهم، فلم يلعن علي بن أبي طالب، ولا معاوية، ولا بني أمية؛ لذا فنحن نحاربه – وهذا هو مذهب الخوارج-.
قالوا: ما لعنّاه قط!
قال: أيسعكم أن تتركوا لعن وزير فرعون الطاغية، والمنفذ لأوامره، والذي بنى صرحه بأمره، ولا يسعكم أن تتركوا لعن أهل قبلتكم، إن كانوا أخطؤوا في شيء، أو عملوا بغير الحق؟!!
فسكتوا ورجع منهم طائفة كبيرة.
والشاهد هنا كما يقول السكوني في (عيون المناظرات): "فكانت حجة عمر أبلغ من قتالهم بالسيف".
وهكذا يتبين أن الحجة القوية، والحوار الهادئ المقنع الرزين من صاحب عقل وفهم وعلم يفعل في كثير من الأحيان ما لا تفعله السيوف ولا المدافع والطائرات.

المبحث الثاني: أهمية الحوار
في هذا المبحث بيّن الشيخ – وفّقه الله – أن أهمية الحوار تبرز في جانبين أحدهما: دعوة الناس إلى الإسلام والسنة بحيث تعقد محاورات مع غير المسلمين أو مع مبتدعين منحرفين لدعوتهم للإسلام والسنة والقرآن الكريم حافل بنماذج من الحوارات بين الأنبياء وأقوامهم فيظهر إذن أن الهدف الأول من الحوار هو دعوة الكفار إلى الإسلام أو دعوة الضالين من المبتدعة إلى السنة.
أما الجانب الثاني الذي يبين أهمية الحوار هو كما ذكر الشيخ – وفقه الله – فصل الخلاف في الأمور الاجتهادية التي لا نص صريح فيها ولا إجماع فيتحاور المختلفان للوصول إلى اليقين والحق في هذه المسألة الاجتهادية.

المبحث الثالث: قواعد الحوار وأصوله
ذكر الشيخ – حفظه الله – في هذا المبحث ضرورة أن يتلقى المسلم – وخاصة الداعية إلى الله – أسس الحوار وأصوله، وأن الحوار أصبح فناً وعلماً لا بد للداعية أن يتعلمه، ومن ثم ذكر الشيخ ثلاث قواعد للحوار هي كالتالي إجمالاً:
1- تحديد موضوع الحوار.
2- مناقشة الأصل قبل الفروع.
3- الاتفاق على أصل يرجع إليه.

المبحث الرابع: صفات المُحاور
تحدث الشيخ – وفقه الله – في هذا المبحث المهم عن الصفات التي ينبغي على المُحاوِر مراعاتها والاتصاف بها، وهي:
1- جودة الإلقاء وحسن العرض وسلاسة العبارة.
2- حسن التصور، والمقصود به ألا تكون الأفكار عند المتحدث مشوشة أو متداخلة أو متضاربة.
3- ترتيب الأفكار، وربط بعضها ببعض، وهذا مما يثبت حجة المحاور ويقويها.
4- العلم.
5- الفهم مع العلم.
6- الإخلاص، والتجرد في طلب الحق.
7- التواضع.

المبحث الخامس: آفات في الحوار
في هذا المبحث تطرّق الشيخ إلى العيوب والأخطاء الظاهرة في كثير من الحوارات بين المسلمين، وهي كما يلي:
1- رفع الصوت.
2- أخذ زمام الحديث بالقوة.
3- تهويل مقالة الطرف الآخر كأن يصف قول الآخر بالكفر أو الفسق أو البدعة أو مصادمة النص دون أن يثبت ذلك بالدليل الواضح.
4- الاعتداء في وصف الطرف الآخر بحيث تصفه بما لا يليق من الأوصاف كأن تقول: هذا جاهل سخيف حقير متسرع أو أنه ليس أهلاً لهذا الأمر أو تتهمه بسوء النية وخبث المقصد وغير ذلك مما لا دليل عليه.

المبحث السادس: آداب الحوار الصحيح
وهذا المبحث من أهم مباحث هذه الرسالة القيّمة، فقد جمع فيه الشيخ – حفظه الله – آداب الحوار الصحيح الذي لا بد من التحلي بها لكل محاور يريد الخير والنفع، وهي كالتالي:
1 - حسن المقصد:
فليس المقصود من الحوار العلو في الأرض، ولا الفساد، ولا الانتصار للنفس، ولكن المقصود الوصول إلى الحق.
والله _تعالى_ يعلم من قلب المحاور ما إن كان يهدف إلى ذلك أم يهدف إلى الانتصار، والتحدث في المجالس أنه أفحم خصمه بالحجة.
فعلى المسلم أن يطلب الحق بحسن نية، وألا يكون هدفه وهو يسمع كلام خصمه أن يرد عليه متى سكت؛ بل هدفه الوصول إلى الحقيقة، ولهذا كان الإمام الشافعي – رحمه الله – يقول: "ما ناظرت أحداً قط إلا أحببت أن يوفق ويُسدَّد ويعان، ويكون عليه رعاية من الله وحفظ، وما ناظرت أحداً إلا ولم أبال بيَّن الله الحق على لساني أو لسانه".
وهذه – والله – أخلاق أتباع الأنبياء؛ لأنه يبتغي إحقاق الحق لا إسقاط الخصم.
2 – التواضع بالقول والفعل.
3 – الإصغاء وحسن الاستماع:
الإصغاء إلى الآخرين فن قَلَّ من يجيده، فأكثرنا يجيد الحديث أكثر من الاستماع، والله _سبحانه وتعالى_ جعل لك لساناً واحداً، وجعل لك أذنين حتى تسمع أكثر مما تتكلم، فلا بد أن تستمع جيداً، وأن تستوعب جيداً ما يقوله الآخرون.
ووضع أذنك للمحدِّث، وحملقة عينيك بوجهه، وتأملك لما قال، يمكن أن يكون دليلاً على قوتك، وقدرتك على الحوار، وإذا وجدت ملاحظات، فيمكن أن تسجلها في ورقة لتتحدث فيها بعدما ينتهي من حديثه.
وهكذا كان الرسول _صلى الله عليه وسلم_ فربما تحدّث معه بعض المشركين بكلام لا يستحق أن يُسمع، فيصغي النبي _صلى الله عليه وسلم_ حتى إذا انتهى هذا الرجل وفرغ من كلامه، قال له _صلى الله عليه وسلم: "أَوَقَد فرغت يا أبا الوليد؟" قال: نعم. فتكلَّم النبي _صلى الله عليه وسلم_ بشيء من القرآن.
4 – الإنصاف:
وهو أن تكون الحقيقة ضالتك المنشودة، تبحث عنها في كل مكان، وفي كل عقل.
فلتستخلص الحق من خصمك، ولو من بين ركام الباطل الكثير الذي ربما جاء به.
إن الاعتراف بالحق وإعلانه – أيضاً – لا ينقص من قيمة الإنسان، فكونك تقول في مناظرة أو محاورة أو محاضرة: أنا أخطأت في كذا، هذا لا يعيبك؛ بل هذا يرفع منزلتك عند الناس، ويدل على شجاعتك وقوتك، وثقتك بنفسك.
5 – البدء بمواضع الاتفاق والإجماع والمسلَّمات:
فمن المصلحة ألا تبدأ الحوار بقضية مختلف فيها، بل ابدأ بموضوع متفق عليه، أو بقاعدة كلية مسلَّمة أو بدهية، وتدرج منها إلا ما يشبهها أو يقاربها، ثم إلى مواضع الخلاف.
فممّا يذكر عن سقراط – وهو أحد حكماء اليونان- أنه كان يبدأ مع خصمه بنقاط الاتفاق بينهما، ويسأله أسئلة لا يملك الخصم أن يجيبه عليها إلا بنعم، ويظل ينقله إلى الجواب تلو الآخر، حتى يرى المناظر أنه أصبح يُقر بفكرة كان يرفضها من قبل.
6 – ترك التعصب لغير الحق:
فلو حاورت إنساناً، فتناول معهداً تعمل فيه، أو مقالة كتبتها، أو كتاباً ألَّفته، أو محاضرة ألقيتها، أو تناول جهة – تُحسب أنت عليها – بالانتقاص والسب وتتبع الأخطاء، فإياك أن تتعصب لهذا الشيء الذي تنتمي وتنتسب إليه، ثم تبادر بالرد، وتقوم بتقديم كشف بالإيجابيات والحسنات في مقابل الكشف الذي قدمه هو بالأخطاء والسلبيات لا بل عليك بالأمور التالية:
أولاً: دع زمام الحديث بيده حتى ينتهي – كما اتفقنا قبل قليل-.
ثانياً: اعترف بصوابه فيما أصاب فيه، والحق ضالة المؤمن – كما سبق-.
ثالثاً: إذا انتهى فانقد الخطأ بطريقة علمية، بعيدة عن العواطف.
وما أعز وأصعب وأندر أن يتخلص الإنسان من التعصب – أي لون من ألوان التعصب، فإن الحزبيات قد أثَّرت في المسلمين تأثيراً كبيراً جداً.
7 – احترام الطرف الآخر:
فنحن مأمورون أن نُنزل الناس منازلهم، وألا نبخس الناس أشياءهم،
فيا أخي المسلم الداعية، ليس النجاح في الحوار والمناظرة مرهوناً بإسقاطك لشخصية الطرف الآخر الذي تناظره، ولا إسقاطك لشخصيته يعني أنك نجحت في المناظرة؛ بل ربما يرتد الأمر عليك، ويكون هذا دليلاً على إفلاسك وعجزك، وأنك لا تملك الحجة، فاشتغلت بالمتكلِّم عن الكلام.
ولهذا قال النبي _صلى الله عليه وسلم_: "ليس المؤمن بالطعَّان، ولا اللعَّان، ولا الفاحش، ولا البذيء".
8 – الموضوعية:
الموضوعية تعني: رعاية الموضوع، وعدم الخروج عنه.
فمن الموضوعية: عدم الهروب من الموضوع الأساسي إلى غيره.
كذلك من الموضوعية: عدم إدخال موضوع في آخر.
كذلك من الموضوعية: عدم النيل من التحدث باتهامه في نيته أو الكلام على شخصه، فبعض الناس يقول: من هذا الإنسان؟ ما هدفه؟ ما تاريخه؟ من وراءه؟ ما درجته من العلم؟ ما قدره؟
كذلك ليس من الموضوعية: الاشتغال بالأيمان المغلظة، والله _سبحانه وتعالى_ ذمَّ الذين يكثرون من اليمين، قال _تعالى_: "وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ" (القلم:10- 13).
وفرقٌ بين أن تكون مقتنعاً قناعة مطلقة بأنه هو الحق، فتحلف على ذلك، فإذا حلفتَ أنت عرفتُ أنك تعتقد أنه هو الحق، ولكن لا يلزم أن يكون هو الحق، فقد تراه حقاً وتحلف عليه، والواقع أن الحق بخلافه.
كذلك من الموضوعية: تجنب الكذب في الحديث، فإن المناظر قد يكذب أحياناً، فهذا ليس من الموضوعية في شيء، وإذا لم يكتشفه الخصم حال المناقشة فسيكتشفه فيما بعد، ويبين أنك كنت كاذباً فيما ادعيت.
ومثل الكذب وأخوه بتر النصوص، وهو أن تنقل نصاً طويلاً، فتجتزئ الكلام الذي يصلح لك، ويدل على ما تريد، وتترك الباقي، فهذا ليس من الأمانة؛ بل عليك أن تنقل الكلام كاملاً حتى يشاركك الناس فيما استنتجته، فإما أن يقرُّوك، وإما أن يخالفوك في الفهم،
كما أن من الموضوعية: إذا لم تعرف مسألة ما أن تقول: لا أدري، وإذا ترك العالم لا أدري، أصيبت مقاتله، كما كان السلف يقولون: ويجب على العالم أن يعلم تلاميذه وطلابه قول: "لا أدري"؛ حتى يلجؤوا إليها فيما لا يعلمون.
ومن الموضوعية: التوثيق العلمي، يعني إذا استدللت فلا تستدل بشائعات أو ظنون أو أوهام استقرت في عقلك أو في عقل من أمامك من الناس، بل استدل بالنصوص، والأدلة الواضحة، والبراهين الثابتة، والإحصاءات الدقيقة.
9 – عدم الإلزام بما لا يلزم أو المؤاخذة باللازم:
فإذا خالف إنسان أحد العلماء في قول، تأتي فتقول له: يا أخي، أنت خالفت فلاناً العالم، وهذا يلزم منه أنك ترى نفسك أعلم منه.
وهذا غير صحيح، فلا يلزم من قوله وخلافه للعالم الفلاني ذلك، فقد يخالفه في هذه المسألة باجتهاده، وهو يعرف أن هذا العالم أعلم منه في كل المسائل، لكن هذه المسألة لا يسعه أن يقلده فيها، كما لا يلزم من مخالفته له أن يخطِّئه أو يضلِّله.
والإلزام – بأن تلزم إنساناً بمقتضى كلامه – من المشكلات؛ لأن اللازم يصلح في كلام الله _تعالى_، فتقول: الآية يلزم منها كذا، واللازم يعد دليلاً من أنواع الدلالات، فهذا يصح في كلام الله وكلام رسوله _صلى الله عليه وسلم_، أما كلام الناس فلا إلزام فيه بشيء ما، تقول: يلزم من كلامه كذا وكذا، رغم أنه ما خطر في باله هذا الكلام، ولا فكَّر فيه يوماً من الأيام، وقد لا يوافقك على أنه لازم، ولو وافقك على أنه لازم قد لا يُقر به، فلماذا تلزم الناس بشيء لم يلتزموا به؟
10 – اعتدال الصوت:
فلا تبالغ في رفع الصوت أثناء الحوار، والمثل يقول: الماء العميق أهدأ".

ثم ختم الشيخ – حفظه الله – رسالته بالمبحث السابع بذكر أمثلة من الحوارات فذكر حواراً جرى بين إسحاق بن راهوية – رحمه الله – والشافعي - رحمه الله – وذكر حواراً آخر بين أبي علي بن شاذان وشيعي، وفي الختام نسأل الله أن يجزي الشيخ خير الجزاء، وأن ينفعنا بهذه الرسالة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه أجمعين.