أمة التوحيد في يوم العيد

وقفت صامتا متأملا هذا المشهد الغريب والعجيب الذي يتكرر كل عام ويحتاج منا لأكثر من وقفة للتأمل فيه والتدبر لمعانيه .
ففي ذلك اليوم بالذات في كل عام ما إن ينتهى الناس من صلاة الفجر إلا والجميع في حركة دائبة سريعة ومبتهجة مرتدين أفضل ثيابهم للذهاب إلى مكان معين فسيح لا يذهبون إليه غالبا في العام إلا مرتين , وتحركت الجموع صوب هذا المكان رجالا وركبانا , وتحركت السيارات وتزاحم الناس مغيرين برنامجهم اليومي الذي اعتادوه طوال أيام العام .
جاء الشيخ الكبير يتوكأ على عصاه , وجاءت المرأة العجوز التي لا تكاد تبصر طريقها , وجاء المريض متناسيا آلام مرضه , جاء الغني المشغول بأعماله وأمواله وتجارته , وجاء الفقير الذي لا يكاد يجد قوت يومه , خرجت الأم بأطفالها بعد أن زينتهم بأفضل ما عندها من زينة , وخرج الشاب الذي لم ينم طيلة الليل , وخرجت الشابة التي لا تخرج من بيتها مطلقا في هذا الوقت إلا بترتيبات خاصة , بل وخرجت المرأة المعذورة التي يمنعها عذرها من الصلاة .
خرج الرئيس والمرؤوس والحاكم والمحكوم والعالم والجاهل والكبير والصغير ويحرص الجميع على ألا يتخلف عن ذلك الاجتماع الغريب, ومن قُدر له أن يتخلف منهم يتملكه الحزن والندم على فوات تلك اللحظة وعلى عدم المشاركة . 
انطلقوا جميعا صوب مكان محدد لو قدر لك أن تراه في اليوم السابق في نفس التوقيت لرأيته قفرا ليس فيه داع ولا مجيب , ولو أردت أن تنظر إليه في اليوم التالي في نفس التوقيت أيضا لرأيته في نفس الحال , ولو رآك أحدهم في اليومين لتعجب من وجودك في هذا المكان في ذلك التوقيت .
خرجوا جميعا وما خرجوا لبيع ولا لشراء في سوق يُقام في هذا المكان , وأيضا ما خرجوا للتنزه في هذا المكان القفر , خرجوا وكل مرادهم أن يؤدوا ركعتين لله فقط ويسمعوا كلمة من خطيب , وقد لا يجد أحدهم مكانا من ازدحام الناس فيفترش التراب ويضع جبهته على الأرض غير مبال بملابسه الجديدة التي أعدت جيدا وفي عناية شديدة لهذه اللحظة والمناسبة , فإذا أدى كل منهم صلاته انصرف كل منهم إلى بيته مرة أخرى بعد أن يتلقى التهنئة من إخوانه وأحبابه وجيرانه .
لم يخرج أحد منهم مضطرا مرغما ولا مكبلا بالقيود والأغلال ولم يطرق أبوابهم أحد ليوقظهم من نومهم ويحثهم ويجبرهم على الخروج بل لم يذكرهم أحد بالموعد فالكل يقظ متذكر .
لم يناد مناد فيهم واعدا من سيحضر منهم في المكان والموعد بجائزة مالية حتى نرى ما نراه من هذا التسابق والتدافع , وما كان هناك من حفل غنائي لأشهر المطربين ولا مباراة كرة تجمع النجوم المحببين .
لم يكن هناك إلا شيء واحد :
-  إنها صلاة العيد .
- إنها أمة التوحيد التي لا يجمع شتاتها إلا الله .    
- إنها أمة الإسلام التي أمرت بالامتناع عن الطعام والشراب والشهوة في نهار شهر كامل متتابع فاستجابت لأمر ربها طواعية وكان كل منهم رقيبا على نفسه
- إنها أمة النبي محمد التي أمرت بقطع الصيام في هذا اليوم والإفطار عمدا فيه فاستجابت لأمر ربها لا رغبة عن الصيام ولا استثقالا له .
- إنها الأمة التي ندب لها فقط أن تخرج من بيوتها في هذا اليوم في هذا الوقت إلى مثل هذا المكان فخرجت عن بكرة أبيها متعالية عن شواغلها مبدلة كل عوائدها اليومية , وخرجت جميعا في كل قطر من أقطار العالم الإسلامي بنفس المشهد وبنفس الحماس وبنفس الفرحة التي تعلو الوجوه والابتسامة التي تزين الشفاه .
- إنها الأمة التي أتشرف بانتمائي إليها والتي تذعن لربها في كل أمر من أوامره وتردد بلسان حالها شعار " لبيك اللهم لبيك " وتقول كما قال الذي سماهم بالمسلمين نبي الله إبراهيم عليه السلام " قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ".
- إنها أمتي التي لا يجمعها المال مهما كثُر ولا يجمعها السلطان مهما عظُم واقتدر ولا تجمعها الشهوات مهما أضرمت نارها حولها ولا يجمعها حب أحد من المخلوقين إلا من استمد حبه من حب الله سبحانه بالأمر بطاعته .
- إنها أمتي التي حاولوا توحيدها بشتات المناهج وشذوذ العقائد والأفكار والرؤى وتثبت أمتي دوما أنه لا يوحد بين صفوفها ولا يجعلها تتراص في صف واحد إلا حب الله والرغبة في مرضاته .
- إنها الأمة التي ربيت في المساجد في شهر رمضان وتخلقت بأخلاقيات رواد المسجد الذين امتدحهم ربهم بقوله " فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ "
- إنها أمة الإسلام والاستسلام والانقياد الكامل لله ولدينه ولرسوله ولكتابه ومن ثم تنقاد لمن يدلها على ربها ويشرح ويفسر لها أوامره ونواهيه من العلماء الناصحين العاملين المخلصين وتنقاد طواعية لمن يحكمها بشرع ربها ويعمل بكتابه .
- إنها الأمة التي رحمها الله قبل أن تُوجد وباهى بها خلقه قبل أن تُبعث , فحينما اختار موسى سبعين رجلا من قومه وصعد بهم الجبل دعوا الله وقالوا " وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ " وأخبرهم أنهم لا يستحقون بسوء أفعالهم هذا التكريم وهذه الرحمة المدخرة  , بل إنه ادخر تلك الرحمة للأمة المرحومة أمة سيد ولد آدم النبي الأمي صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه "  فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ " .

 وحُق لهذه الأمة أن تستأهل تلك الرحمة المدخرة لإنها الأمة التي غاب عنها رسولها ولحق بجوار ربه في الرفيق الأعلى منذ قرابة الخمسة عشر قرنا من الزمان ولم تستبدل عقيدتها ولم تزغ عن ربها ولم تعبد من دونه حجرا ولا شجرا ولا وثنا ولا خدعها سامري كاذب بعجل من ذهب له خوار فخرت له ساجدة .
- إنها أمتي التي تمرض بالذنوب في بعض أفرادها ولكنها لا تموت كلها بالذنب والمعصية فهناك دوما من يذكر بالله ويدعو الناس لعبادته ويصحح للناس عقيدتهم ويحضهم على الفضيلة , ودائما ما تأتيها مواسم الخير مثل شهر رمضان وأيام العشر لتهب عليها نسائم الإيمان مرة أخرى تعيد القلوب الحائرة إلى ربها ولحظيرة دينها فيلتئم شملها ويعود شاردها
في يوم العيد تثبت أمة الإسلام أنها هي أمة التوحيد التي لن تحيد مجتمعة عن دينها مهما حاول أعداؤها النيل من عقيدتها ودينها وانتمائها لربها " يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ " .