الفصام الأليم

 د. راغب السرجاني

إننا في خضم التحليلات السياسية الكثيرة، ومن جرَّاء الآلات الإعلامية الضخمة التي عرضت لنا وجهات نظر الساسة في المشرق والمغرب، ونتيجة لغياب التربية الإسلامية الصحيحة في المجتمعات المسلمة بصفة عامة، وفي المحافل المهتمة بالسياسة بصفة خاصة.. نتيجة هذه العوامل وغيرها حدث فصام أليم بين السياسة والدعوة، وتلوَّث بهذا الفصام كثير من المسلمين الملتزمين، حتى غابت عنهم الرؤية، وتاهت المفاهيم.

والسؤال الذي يجب أن ندرك الإجابة عليه بوضوح:

ما دورنا في الدنيا كمسلمين؟!

والإجابة التي أراها تكون من شقَّيْنِ رئيسيين؛ أمَّا الشقُّ الأول فهو أن نعبد الله سبحانه بالطريقة التي يريدها هو  وأمَّا الشِّقُّ الثاني فهو أن نُعَرِّف العالم أجمع كيف يعبدون ربهم

فنحن لم نُخْلَقْ لأنفسنا فقط، إنما مَنَّ الله علينا بنعمة الإسلام لِنَصِلَ بها إلى بقيَّة خلقه ممن لا يعرفون هذه النعمة، وهذا ما نفهمه من قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]. فنحن أُمَّة أخرجها الله لجميع البشر لتُعَرِّفَهم بالمعروف وتأمرهم به، وتُبَيِّنَ لهم المنكر وتنهاهم عنه.

هذا من أهم أهداف الأُمَّة الإسلامية..

وعلى ذلك فليس واجب المسلمين في الأرض تدمير الشعوب التي لا تؤمن بالله لا إهلاكهم، إنما نحلم -كمسلمين فاهمين لدينهم ووظيفتهم- أن يهديهم الله  للإيمان والإسلام، وأن يُنْقَذُوا من النار إلى الجنة.

مواقف من السيرة
وراجِعُوا سيرة رسول الله r، وعندما أدعوكم إلى مراجعة سيرته r فإنني لا أطلب العودة إلى سيرة حكيم أو فيلسوف نأخذ منه ونترك، إنما أدعوكم إلى سيرة الرسول r الذي جعله الله أسوةً لنا في كل أعمالنا، وليس المقصود بالأسوة مجال العقيدة والعبادة فقط، ولكن مقصود ذلك مجال السياسة والاقتصاد والقضاء والمعاملات وكل شيء، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ} [الأحزاب: 21]. إننا رأيناه في كل حياته يدعو للكافرين الذين يعبدون الأصنام من دون الله بالهداية والتوفيق إلى الإيمان، ولم يكن يدعو عليهم في غالب أمره بالهلكة والتدمير.

بل إننا رأينا هذه الدعوات بالهداية في مواقف يصعب فهمها إلاَّ في ضوء فقه دور الأُمَّة الإسلامية؛ فقد رأينا أنه بعد انتهاء غزوة أُحُد، وبعد قتْل سبعين من خيرة الصحابة، وبعد التمثيل بجثثهم، طلب الصحابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو على قريش، فرفع يده إلى السماء وقال: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ"[1]!!

هذا موقف يفسِّر لنا طريقة تفكيره r كداعية، مع العلم أنه كان أبرع السياسيين، وأفقه الحربيين، ولم يكن يقول هذا الكلام مطلقًا من باب الضعف -حاشاه!- إنما كان يفهم دوره ناحية أولئك المساكين، الذين لا يعرفون ربَّ العالمين.

وعندما كَذَّبت قبيلة دوس اليمنية وظاهرت على أمر الله، وطلب أحد رجالاتها المشهورين وهو الطفيل بن عمرو الدوسي t من رسول الله r أن يدعو عليهم ليُهْلِكَهُم الله U، رفع r يده إلى السماء، وقال: "اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا، وَأْتِ بِهِمْ"[2]. وتكرَّر نفس الموقف عندما حاصر رسول الله r مدينة الطائف في العام التاسع من الهجرة، وبها قبيلة ثقيف التي طردته قبل ذلك من ديارها، وأَغْرَتْ به سفهاءها وغلمانها فقذفوه بالحجارة، وطلب الصحابة من رسول الله r أن يدعو على ثقيف، رفع رسول الله r يده إلى السماء وقال: "اللَّهُمَّ اهْدِ ثَقِيفًا"[3].

منهج ثابت لا يتغير
إنه منهج ثابت إذن، وأنا أعلم أنّ بعض المتربِّصِينَ سيقولون: ولكن رسول الله r دعا على زعماء الكفر في مكة، وخصَّ منهم سبعة فقال: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ، وَعَلَيْكَ بِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ..."[4] إلى آخر الدعاء. ودعا كذلك شهرًا كاملاً على قبائل رِعْل وذَكْوان ولِحْيان عندما قتلوا سبعين من الصحابة.

وإنما أقول لهؤلاء المتحمِّسين: رويدًا رويدًا، وتعالَوْا نفهم ديننا.

إنَّ رسول الله r في جانب طويل من حياته كان يدعو لهؤلاء الزعماء من أهل الكفر بالهداية والإسلام، وكلنا يحفظُ دعاءَه لأبي جهل عندما قال: "بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ"[5]. وكان هذا منهجه الثابت، إلى أن أوحى الله  له بأن هذا الرجل لن يُسلم، وأن المجموعة الأخرى التي دعا عليهم كذلك لن يسلموا؛ ومن ثَمَّ طلب رسول الله r من ربه أن يُهلِكهم؛ لئلاَّ يفتنوا المؤمنين عن دينهم. ودليل ذلك أنه لم يَدْعُ في حياته قطُّ على رجل أسلم في نهاية عمره مهما كان قاسيًا على المسلمين؛ فهو لم يَدْعُ على أبي سفيان، أو خالد بن الوليد، أو عمرو بن العاص، أو طلحة بن عثمان، أو صفوان بن أمية، أو عكرمة بن أبي جهل، مع أنه في ميدان القتال لم يكن يمانع من قتل هؤلاء المحاربين، لكنه في نفس الوقت يتمنى إسلامهم لا موتهم على الكفر، وراجِعُوا موقفه مع هؤلاء -وقد كانوا يقودون الحرب ضدَّه- لتفهموا طبيعة السياسيّ المسلم، وكيف لا يفصل في حياته أبدًا بين السياسة والدعوة.

وفي موقف قُنُوتِهِ شهرًا كاملاً يدعو على القبائل التي غدرت بسبعين من القُرَّاء الحفظة المسلمين السبعين، فإنني لن أتكلم عن جريمة هؤلاء الخائنين فقط، والتي تستحقُّ الهلكة والإبعاد، بل سأذكر ما قد يَعْجَبُ له الكثيرون، وهو أن الله هو الذي طلب منه r أن يَكُفَّ عن الدعاء على هؤلاء المجرمين، بل أنزل قرآنًا يُفْهَمُ منه أننا يجب أن نتمنى لهم الهداية إلى الإسلام ومغفرة الذنوب! فقد أنزل الله تعالى قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128].

فمع كونهم من الظالمين إلاَّ أنهم لو تابوا لتاب الله عليهم!

المنهج الراقي والتضليل الإعلامي
إن هذا المنهج الراقي سيُغَيِّر كثيرًا من سلوكياتنا، ومن تعاملنا مع الأمور والأحداث، إننا لن نصطفَّ بعد هذا الفَهم في صفوف الصلاة ندعو على الأمريكان أن يُيَتِّم الله  أولادهم، وأن يُرَمِّل نساءهم، وأن يستأصل خضراءهم، وأن يُدمِّر بُنيانهم!

إنما سنرفع أيدينا إلى السماء ونقول بصدق: "اللهم اهدِ الأمريكان، والصينيين، واليابانيين، والأوربيين، وكل العالمين وأْتِ بهم".

بل إننا لن نكتفي بالدعاء دون حركة وعمل، إننا سنحمل رسالتنا إليهم بيضاء نقية، نُعَرِّفهم بالخير العميم الذي جهلوه السنوات الطوال، وسنشرح لهم المنهج الذي يُسعِدهم في الدنيا والآخرة، وسنفرح بإنقاذهم بنا من النار، كما فرح رسول الله صلى الله عليه وسلم  بإنقاذ غلام يهوديٍّ بسيط من النار عندما دعاه إلى الإسلام فأسلم.

إننا يجب أن نقف وقفة مع أنفسنا ونفكر:

مَن لهؤلاء الأطفال الذين وُلِدُوا في أمريكا أو اليابان فتعلَّموا أنّ ربهم هو المسيح أو بوذا، وشاهدوا الإباحية والمجون في بيوتهم ومدارسهم فنَشَئُوا على ذلك، وطُمِستْ فطرتهم السليمة التي وُلِدُوا بها؟

مَن للشعوب التي تعيش في قهرٍ دائم يُبْعِدهم عن فقه الإسلام الصحيح؟

وإن كنا نتحدث قديمًا عن قهر السلاح والسياط، فنحن نتحدث اليوم عن قهر الإعلام بشتى وسائله، فالشعوب الآن -للأسف- أسيرة لما تسمع وترى في وسائل إعلامها، والشعب الأمريكي -على سبيل المثال- من أكثر شعوب العالم جهلاً بما حوله.

وليس عجيبًا أبدًا أن تجد الصفحات الأولى من الجرائد اليومية تتحدث عن ماسورة مكسورة، أو جريمة قتل، أو افتتاح مدرسة، بينما تختفي أخبار السياسة في الصفحات الأخيرة. ولقد سألتني موظفة كبيرة في أحد البنوك هناك (في أمريكا) عندما علمت أنني من مصر Egypt، فقالت: وهل Egypt هي عاصمة دولة إفريقيا؟! فآخر معلوماتها هي حدود المدينة التي تعيش فيها وليس حدود أمريكا، فما بالكم بالعالم الإسلامي والإسلام والرسول r وقواعد الشريعة الغرَّاء؟!

إنها لا تعرف عن هذه الأمور إلا ما تبثه إذاعة الـCNN، أو CBS، أو US Today، أو ما تقرؤه في صحيفة Washington Post.

إنني أريد من كل قارئ أن يسأل نفسه: ما الفارق بين الشام أو مصر مثلاً قبل الإسلام، وبين أمريكا أو إنجلترا أو فرنسا الآن؟!

ألم تكن الشام دولة نصرانية تحت حكم الرومان وكذلك مصر، فما الذي جعلهم مسلمين وتغيرت مناهج حياتهم كلها، وفقهوا غاية الخلق، وأدركوا حقيقة الدنيا والآخرة، وعرفوا كيف يعبدون ربهم؟!

إن الذي حَوَّلَهُم إلى هذا الوضع الجديد هو الدعوة الإسلامية التي حملها رجال مخلصون، ولو دعا علينا الرسول r والصحابة بالهلكة؛ لأننا شعوب محكومة بالجيش الروماني الظالم لما وصل الإسلام إلينا، ولكانت خسارتنا فادحة.

التوازن المطلوب والحلم المنتظر
ولا أريد أن يفهم أحد من كلامي هذا أننا سنرضى بالظلم والضيم واحتلال أرضنا دون أن نحرِّك ساكنًا أملاً في إسلامهم! فقد كانت دعوة رسول الله r مستمرة لهم بالهداية، وذلك دون توقف الغزوات المتتالية التي تدافع عن حقوق المسلمين ودينهم وحرماتهم، وإن الرسول r الذي كان يدعو بعد أُحُد أن يغفر الله لقومه؛ لأنهم لا يعلمون، هو نفسه الرسول r الذي جهَّز جيشه بعد أقل من أربع وعشرين ساعة ليهاجم الكفار من جديد في موقعة حمراء الأسد.

وهذا هو التوازن الذي نريده، وشمول النظرة الذي نغذِّيه.

وهذا هو السياسي الناجح الذي لا تغيب عن ذهنه أبدًا قضايا الدعوة والإسلام.

إنني أحلم باليوم الذي أرى فيه الشعب الأمريكي وغيره من شعوب العالم يصلِّي، ويصوم، ويزكي، ويحجُّ.

أحلم بأن أراه يقرأ القرآن، ويدرس السُّنَّة.

أحلم بأن أراه مجاهدًا في سبيل الله، رافعًا لواء الإسلام، مُدافعًا عنه في كل مكان.

وإن كنتم تستكثرون هذا الحُلم وتستغربونه فراجعوا تاريخ دول العالم الإسلامي قبل أن يدخلها الإسلام، واقرءوا عن قصة الشام ومصر وشمال إفريقيا، واقرءوا أيضًا قصة باكستان وأفغانستان، وكذلك إندونيسيا وماليزيا.

وأنا أعلم أن هذا الحلم يتطلب جهدًا خارقًا، وعملاً طويلاً شاقًّا، وصبرًا لا يأس فيه، ولكن أول الطريق أن نفهم مهمَّتنا، وأن ندرك هدفنا في هذه الحياة الدنيا، وأن نعلم مدى الأزمة التي يعيشها أقوام ما عرفوا الله  ولا رسوله الأكرم صلى الله عليه وسلم

ونسأل الله سبحانه أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين.

==============================================

[1] البخاري عن عبد الله بن مسعود: كتاب الأنبياء، باب "أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم" (3290) ترقيم مصطفى البغا، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد (1792) ترقيم فؤاد عبد الباقي.
[2] البخاري عن أبي هريرة: كتاب الجهاد والسير، باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم (2779)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة y، باب من فضائل غفار وأسلم... (2524).
[3] الترمذي عن جابر: كتاب المناقب، باب مناقب في ثقيف وبني حنيفة (3942)، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وأحمد (14715).
[4] البخاري عن عبد الله بن مسعود: كتاب الوضوء، باب إذا ألقي على ظهر المصلي قذر... (237)، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي r من أذى المشركين والمنافقين (1794).
[5] الترمذي عن عبد الله بن عمر: كتاب المناقب، باب في مناقب عمر بن الخطاب (3681)، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث ابن عمر. وأحمد (5696)، وابن حبان (6881)، والحاكم (4485).

نقلا عن قصة الإسلام