الكتب والمكتبات وتضخم التراث

 

 

 

 

 

(1)

الكتب والمكتبات وتضخم التراث

 

في معرض الكتاب في القاهرة، وفي أحد أجنحة المعرض ، دخل شاب (يبدو عليه أنه طالب علم) وسأل عن شرح (نونية ابن القيم) فوجئت بأن الشرح في أربعة مجلدات كبار،وتعجبت لهذا (الورم) الثقافي، هل تحتاج هذه القصيدة إلى أربعة مجلدات كبار؟ هل هذا عمل صحيح أم هو عمل تجاري لخداع بعض العقول التي تقيس أهمية الكتاب بكثرة مجلداته أو بكثرة صفحاته، هذا مثال فقط، فالغالب الآن أن بعض دور النشر تضخم الكتاب مع أنه ليس بحاجة لذلك، ويمكن شرحه أو تبسيطه للقارئ بمجلد واحد، وكاتب آخر يشرح بعض الأحاديث التي تتعلق بالنساء في مجلدين كبار. لماذا يثقلون كاهل طالب العلم بثمن الكتاب وحمل الكتاب ومكان الكتاب في الرفوف المثقلة وكأن الشاعر محمد إقبال يعنيهم حين يقول:

 

خلي الغمد، ما في الكف مال        وهذا الرف يهوي بالكتاب

 

مؤلف أمثال هذه المجلدات يدرك أن بعض الذين يقبلون على شراء الكتاب التراثي ، وخاصة من أصحاب النوايا الحسنة ، يؤخذون بحجم الكتاب، فما يزال هذا المؤلف يأتي بالنقول والحواشي (التي لا ضرورة لها) وما يزال يخرج عن الموضوع أحيانا حتى يصبح الكتاب (سمينا) ولا نتكلم هنا عن المضمون سواء كانت نونية ابن القيم أو كتب أخرى تشرح عقيدة السلف مما لا خلاف عليه، ولكن عن طريقة إخراج هذه الكتب للناس، فنحن بحاجة إلى إخراج التراث المفيد بصورة جيدة ولائقة، ونحن بحاجة إلى الموسوعات الكبيرة التي هي مصادر أساسية للباحث وطالب العلم وللقارئ بشكل عام، الكتب الكبيرة مثل (سير أعلام النبلاء) أو (فتح الباري) أو الموسوعات الفقهية أو بعض كتب التفسير ضرورية ومهمة ، فالإمام الذهبي وضع خلاصة ما عنده من ترجمة للأعلام، وهو محدث ناقد وفي المقابل فإن كثيرا من الكتب بحاجة إلى تصفية وغربلة من الروايات الضعيفة التي تشوه تاريخنا وتراثنا.

 

إن التراث وبالمعنى الذي نريده وهو ما تركه لنا الأجداد من علوم نافعة، هو تراث عظيم ، ولكن يجب أن تنحسر ظاهرة المتاجرة به، أو نشر وترويج ما لا يسمن ولا يغني من جوع. وهذا سيخفف العبء على طالب العلم المعاصر، لماذا تحقق المخطوطات التي لا طائل من ورائها، ولا تفيدنا في دنيا وآخرة. نريد إحياء التراث الذي يساعدنا على فهم الإسلام وفقه الكتاب والسنة ويساعدنا على تفهم الحاضر، ويكون جزءا حيا من ثقافتنا وحضارتنا.

 

في تراثنا نناقش مسائل ليس لها وجود، أو مسائل جدلية ساذجة، ولما سئل الإمام ابن حزم: البلاء أفضل أم العافية؟ والفقر أفضل أم الغنى؟ أجاب: هذا سؤال فاسد، إنما الفضل للعباد بأعمالهم، ونحن نسأل الله تعالى العافية والغنى ، ونعوذ بالله من البلاء والفقر. [1]

 

بعض المؤرخين أكثروا من الروايات التي تعظم ملوك الفرس حتى كأن كسرى هو صنو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ورووا عن كسرى ما يجعله أفضل من كثير من الخلفاء المسلمين، فالفرس الذين شرفوا بالإسلام ضخموا من تاريخهم ليرفعوا من شأن جنسهم أمام العرب الذين قضوا على مجد فارس القديم.

 

(2)
هرطقات العلمانيين والمتعالمين

 

كثرت في السنوات الأخيرة كتابات هؤلاء عن الإسلام ، ربما كانوا يأملون قبل عقود من الزمن أن يتضاءل دور الإسلام، ولكن عندما شاهدوا غير ذلك، ورجوع الناس إلى الدين، وتنامي دور الإسلام في الحياة العامة راحوا يؤلفون عن الإسلام ليقوموا بثورة عليه من داخله ويتظاهرون بالحيادية وأنهم يريدون قراءة جديدة للنصوص وتحليلها، ثم يأتون بالعجائب والغرائب التي تصادم العقل والبديهة والبحث العلمي الجاد النزيه، يتحدث الكاتب هشام جعيط في كتابه (تاريخ الدعوة المحمدية) عن القران يقول: "سواء كان القران كلام الله المنزل على محمد كما هو المعتقد الإسلامي أو كلام النبي معتقدا أنه موحى إليه..." هل هذا كلام تحقيق علمي، أم يتظاهر صاحبه بأنه عميق التفكير ولا يقبل بالمسلمات؟! ونقول له: وما معتقدك أنت ويقول أيضا: " ولا ندري فعلا هل أن ترتيب القرآن وعناوين السور كان من عمل النبي ذاته أم من عمل لجنة عثمان" "ولا ندري هل وقعت زيادات في صلب النص (القرآن) أي إقحام  كلمات أو عبارات لم يبح بها النبي، أو حصل إسقاط لبعض العبارات، نسيت أو لم تسجل، رأي أن هذا محتمل في حالات قليلة مثلا: عبارة (وأمرهم شورى بينهم) لا تنسجم مع نسق الآية التي وضعت فيها...." [2] ما شاء الله على هذا التعمق وهذا التحقيق والبحث ؟! إنه يشكك في مسلمات لا ينكرها إلا من هو جاهل بطرائق العلم الصحيح وطريقة القرآن الخاصة به وهي  أنه في السورة الواحدة يذكر أمورا تتعلق بخلق الإنسان وبالجزاء، وأمورا بالحياة اليومية: اجتماعية واقتصادية وسياسية ، والمزج بين الدنيا والآخرة، وهو في الحقيقة يقلد بعض المستشرقين القدامى الحاقدين الذين عفا عليهم الزمن وجاء مستشرقون جدد ونقدوهم، يقول عن غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم: "بل إن المحرك الأكبر للغزوات كان إطعام أتباعه من أهل المدينة، وقصي بن كلاب هو الذي جعل الكعبة مزارا للحج " [3] ؟! هل هذا كلام باحث متجرد أو عنده أثارة من علم. إن كلامه عن هذه الغزوات جاوز فيه كلام أعتى المستشرقين الذين يقلدهم.

 

هذا الكاتب يعتبره البعض من المفكرين المتعمقين في دراسة التراث، وأمثاله كثير، لابد أن القارئ اللبيب يعرفهم. إنهم يقفون عند الشاطئ وينظرون ولم يتعمقوا لا في التراث الإسلامي ولا في المنهج  العلمي السديد. وقد قال (بيكون) سابقا : " القليل من الفلسفة تنزع بعقل الإنسان إلى الإلحاد، ولكن التعمق فيها ينتهي بعقول الناس إلى الإيمان"

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]    رسائل ابن حزم م1/329 ت إحسان عباس
[2]   تاريخ الدعوة المحمدية / 22- 23
[3]   المصدر السابق /51