لن ينال الله لحومها ولا دماؤها

إن المتأمل في الحكمة من العبادات المشروعة، سيجد وبالتأكيد أنه ليس المقصود العنت والمشقة على العباد وهذا نفاه الله في كتابه فقال: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدينِ مِنْ حَرَجٍ ملةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ).

وليس المقصود كذلك مجرد القيام بأعمال ظاهرة وحركات متفرقة، ولكن المقصود حقيقة إصلاح ما يكون به صلاح للفرد والمجتمع، ألا وهو القلب، فتتحقق معاني العبودية، ويخضع لربه ومولاه ثم تأتي الثمرة وهي التقوى، التي رفع الله شأنها في كتابه، وجعلها هي المبتغى، وهي ما ينبغي أن تقطف من أشجار العبادات، فهاهي فريضة الصيام يقول الله عنها في كتابه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). وهذا جاء الحديث عنه في مقال سابق.

 

وفي هذه الأيام ومع قرب عيد الأضحى المبارك ومشروعية ذبح الأضاحي، كان لزاماً علينا أن نتأمل قوله تعالى: (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ).

 

قال الشيخ ابن سعدي معلقاً على هذه الآية: [فالعبادات إن لم يقترن بها الإخلاص وتقوى الله، كانت كالقشور الذي لا لب فيه، والجسد الذي لاروح فيه].

 

قَالَ اِبْن عَبَّاس: (كَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّة يُضَرِّجُونَ الْبَيْت بِدِمَاءِ الْبُدْن، فَأَرَادَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ) فَنَزَلَتْ الْآيَة. وَالنَّيْل لَا يَتَعَلَّق بِالْبَارِئِ تَعَالَى، وَلَكِنَّهُ عَبَّرَ عَنْهُ تَعْبِيرًا مَجَازِيًّا عَنْ الْقَبُول، الْمَعْنَى: لَنْ يَصِل إِلَيْهِ. وَقَالَ اِبْن عَبَّاس: لَنْ يَصْعَد إِلَيْهِ.وقال اِبْن عِيسَى: لَنْ يَقْبَل لُحُومهَا وَلَا دِمَاءَهَا، وَلَكِنْ يَصِل إِلَيْهِ التَّقْوَى مِنْكُمْ؛ أَيْ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهه، فَذَلِكَ الَّذِي يَقْبَلهُ وَيُرْفَع إِلَيْهِ وَيَسْمَعهُ وَيُثِيب عَلَيْهِ؛ وَمِنْهُ الْحَدِيث (إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ). تفسير القرطبي.

 

وقد أورد ابن كثير تعليقاً على هذه الآية الحديث الصحيح "إِنَّ اللَّه لَا يَنْظُر إِلَى صُوَركُمْ وَلَا إِلَى أَمْوَالكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُر إِلَى قُلُوبكُمْ وَأَعْمَالكُمْ".

 

وهذه الآية جاءت في سورة الحج التي ابتداها الله تعالى بقوله: (يأيها الناس اتقوا ربكم ان زلزلة الساعة شيئ عظيم)، فبدأت الوصية بتقوى الله.

 

ولك أخي القارئ أن تتأمل كتاب الله فستجد العناية العظمى على إصلاح الضمائر، فإني أنصحك أن تتأمل هذه المعاني وأنت تؤدي العبادات، فاستشعر هذا المعنى عند ذبحك للأضحية، فستجد أن الوضع قد اختلف، فلم يعد الأمر عادة موروثة، ولكن عبادة محضة، من خلالها يصلح القلب وينتعش بنور الله.

 

وأختم بنقل كلام جميل للشيخ سلمان العودة، يقول: "ولعل من الأشياء المهمة جداً أن الناس دائماً يتبارون في الأعمال الظاهرة، والأعمال الظاهرة لا شك أنها مطلوبة، لكن ينبغي أن يُعرف أن المقصود في الأعمال الظاهرة هو التأثير على القلب، ولهذا أعظم ما يُتقرب به إلى الله تعالى في هذه العشر أن يجدها الإنسان فرصةً لتصفية القلب، فحسنات القلوب أهم من حسنات الجوارح، وهي الأصل أيضاً لحسنات الجوارح، وكذلك على النقيض سيئات القلوب أعظم من سيئات الجوارح، وهي الأصل لسيئات الجوارح، فكل شيء في الظاهر له رصيد في الباطن من خير أو شر".

أسأل الله أن يحيي قلوبنا بالتقوى وان يجعل أيامنا عامرة بذكره.