يسر الدين.. ضوابط لابد منها (1-2)
8 شوال 1430

إن من السمات البارزة لهذا الدين العظيم، أن أحكامه وشرائعه جاءت بالتيسير على العباد، ورفع الحرج والمشقة عنهم، وهذا من الحقائق المقررة في أذهان الناس لكثرة الأدلة على ذلك من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.

 

يقول الله تعالى في سياق الكلام عن الصيام: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، ويقول في معرض تجويز أن يخلط الناس طعامهم وشرابهم بطعام من عندهم من اليتامى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 220]، وقال في معرض الكلام عن الطهارة من الأحداث: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6]، وقال عند إبطال التبني: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37]، بل ورد ذكر رفع الحرج عند الكلام عن الجهاد، قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، قال ابن كثير رحمه الله: (أي: ما كلفكم ما لا تطيقون، وما ألزمكم بشيء فَشَقَّ عليكم إلا جعل الله لكم فرجاً ومخرجاً، فالصلاة -التي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين- تجب في الحَضَر أربعًا وفي السفر تُقْصَر إلى ثِنْتَين، وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة، كما ورد به الحديث، وتُصَلى رجالاً وركباناً، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها. وكذا في النافلة في السفر إلى القبلة وغيرها، والقيام فيها يسقط بعذر المرض، فيصليها المريض جالساً، فإن لم يستطع فعلى جنبه، إلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات، في سائر الفرائض والواجبات... ولهذا قال ابن عباس في قوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} يعني: من ضيق)(1).

 

كما وردت في هذا المعنى كثير من الأحاديث، كقوله عليه السلام: "إن الدين يسر"(2)، وقوله: "إنكم أمة أريد بكم اليسر"(3)، وقوله: "إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية، ولكني بعثت بالحنيفية السمحة"(4)، وعن أبي هريرة قال: "قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: دعوه وهريقوا على بوله سجلاً من ماء، أو ذَنوباً من ماء، فإنما بُعِثتُم مُيَسِّرين، ولم تُبعَثوا مُعَسِّرين"(5)، ولما بعث عليه السلام معاذاً وأبا موسى إلى اليمن قال: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا"(6).

 

وبناء على ما سبق من آيات وأحاديث وما شابهها، استنبط العلماء قواعد عظيمة تدور حول هذا المعنى فقالوا: والمشقة تجلب التيسير، فمتى وجدت المشقة الحقيقية وجد التيسير، وقالوا أيضاً: الضرورات تبيح المحظورات، لكنها الضرورات الحقيقية، والضرورة كما بين العلماء تقدر بقدرها لا كما يفهم بعض الناس بحيث كلما أراد أحدهم فعل ما حرم الله احتج بضرورة لا وجود لها إلا في ذهنه أو هواه، ومن القواعد أيضاً: الضرر يزال، ولا ضرر ولا ضرار، والحرج مرفوع، وإذا ضاق الأمر اتسع، إلى غير ذلك.

 

ولئن كانت هذه الحقيقة مقررة مسلمة، إلا أن الملاحظ في زماننا أن مفهوم هذه السمة والميزة البارزة لديننا الحنيف يتعرض لكثير من التشويش ويلصق به عند التأصيل أو التطبيق ما ليس منه، ونحن نسعى في هذه الكلمات لإزالة شيء من هذا اللبس والتشويش.

 

بداية لا بد أن يُعلم أن التيسير ورفع الحرج والمشقة لا يعني رفع المشقة بالكلية، ذلك أن التكاليف الشرعية بطبعها مصحوبة بنوع من المشقة المحتملة، قلَّت أو كثرت، وإنما سُمِّيت التكاليفُ تكاليفَ لأن في القيام بها شيء من الكلفة على النفس وبذل الجهد والمشقة، فالصلاة فيها شيء من الكلفة، والصيام كذلك، والمشقة في الحج كبيرة، يعلم ذلك من أكرمه الله بأداء هذه الفريضة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله لعائشة لما سألته: "يا رسول الله هل على النساء من جهاد؟ قال: نعم، عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة"(7)، ومشقة الجهاد من أعظم المشقة وفي القيام به عبء كبير على النفس، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]. ويجمع ذلك كله ما صح عن النبي عليه السلام أنه قال لعائشة في عمرتها: "إن لك من الأجر على قدر نصبك و نفقتك"(8)، فهذا يعم العمرة وغيرها.

 

ومما ينبغي أن يُعلم أيضاً أن التيسير لا يعني الإخلال بمقاصد الشريعة، بل هو من سمات التشريعات التي جاءت بها الشريعة، ذلك أن البشر يختلفون في ظروفهم وقدراتهم وطباعهم، فالمريض يختلف عن الصحيح، والمسافر يختلف عن المقيم، والمسافرون يختلفون فيما بينهم في قدرتهم على تحمل مشاق السفر، فجاءت الشريعة بما يلاءم هذا الاختلاف طالما كان في حدود الاعتدال.

 

من المهم كذلك أن يُعلم الفرق بين اليسر والرخصة الشرعية من جهة وبين التلفيق من جهة أخرى؛ أما الرخصة فهي توسعة من الله على عباده المؤمنين، فهي محض فضل منه ومنة، وهذه الرخصة منها ما يكون واجباً كأكل لحم الميتة بقدر الإبقاء على الحياة لمن خاف الهلاك، ومنها ما يكون مندوباً كجمع الصلوات في السفر، ومنها ما يكون مباحاً كبيع السلم.

 

أما التلفيق فهو ما يفعله بعض المفتين بحجة التوسعة، بأن يولِّد من قولَي عالِمَين أو أكثر قولاً جديداً لم يقل به أحد من العلماء المعتبرين؛ فمثلاً: الجمهور على أن شروط النكاح ولي وشاهدان ومهر وإيجاب وقبول، وأما الأحناف فلم يشترطوا الولي، وأما المالكية فقالوا لا يلزم الشهود بل يكتفى بإعلان النكاح، فيأتي الملفق فيقول: يجوز عقد النكاح بدون ولي وبدون شهود وبدون إعلان، وهو ما يعرف بالزواج العرفي الذي جر كثيراً من الويلات والمصائب في بعض البلاد، فهذا الملفق أخذ من مذهب الأحناف عدم اشتراط الولي، ومن مذهب المالكية عدم اشتراط الشاهدين، ومن مذهب الجمهور عدم اشتراط الإعلان، وخرج بهذا القول الذي لا يجيزه أحد من العلماء!

 

فمثل هذه التلفيقات ليست توسعة ربانية رحمانية، لكنها توسعة شيطانية يلعب صاحبها بالدين الذي أنزله الله ويفتري على الله الكذب فيستحق بها وعيده عز وجل: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116، 117].
وللحديث بقية إن شاء الله.

 

_______________

(1)    تفسير ابن كثير 5/455.
(2)    صحيح البخاري 1/23 (39).
(3)    مسند أحمد بن حنبل 5/32 (20362)، قال شعيب الأرنؤوط: حسن لغيره.
(4)    مسند أحمد بن حنبل 5/266 (22345)، انظر السلسلة الصحيحة 6/1022 (2924).
(5)    صحيح البخاري 1/89 (217).
(6)    صحيح البخاري 3/1104 (2873)، صحيح مسلم 3/1359 (1733).
(7)    مسند أحمد بن حنبل 6/165 (25361)، تعليق شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين.
(8)    المستدرك 1/644 (1733)، قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، قال الحافظ: متفق عليه عنها واستدركه الحاكم فوهم.