الشيخ الدكتور ناصر العمر : رمضان يوحي بمعان مختلفة في شأن الثبات على المنهج الإسلامي العظيم

 في ظل عصر تتماوج فيه الأفكار وتتباين فيه الرؤى والتصورات وتتصاعد فيه التحديات التي تقف في وجه المسلم لتحول بينه وبين الهداية ونحن على أبواب هذا الشهر الكريم أجرى موقع لها أونلاين هذا الحوار مع فضيلة الشيخ الدكتور ناصر بن سليمان العمر
وإليكم نص الحوار: 

   ما هي الوسائل المعينة على الثبات في ظل تعدد الاجتهادات وزمن اتسم بالمغريات وشدة التهديدات؟
-   لاشك أننا نعيش في عصر تكاثرت فيه الاضطرابات الفكرية العقيدية , وانتشرت فيه المغريات , وثارت فيه الشهوات , واجتهد كل الداعين إلى الفتن في دعوتهم , فغر بعض المسلمين منهم ما غرهم , فأصابتهم أمراض الشهوات والشبهات . 

 والحق أن في مبادئ دين الله العظيم ومفاهيم السنة النبوية الغراء ما لو تمسكنا به لأنجانا الله من تلك السقطات كلها.
ومن أهم تلك المبادئ :

-   فهم العقيدة الصحيحة النقية الجلية للإسلام والاستمساك بتوحيد الله سبحانه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم , فالقلب الممتلئ بالعقيدة الصحيحة ينجو من شتى الفتن لأنه يركن دوما إلى ربه ويلجأ إلى إلهه ومعبوده في كل مجالات الحياة .
-   يجب أن يتعلم الناس عقيدتهم من أصحاب العقيدة السليمة من العلماء والصالحين كي نضمن لهم سلامة وصولها إليهم بلا أي غبش أو لبس
-   كذلك فإن في معرفة مقاصد الشريعة نوع آخر من المعونة على الثبات , فالمتعمق لكليات شريعته ومقاصد دينه لن يتيه في السبل ولن يغرق في اضطرابات الفكر ومتاهات الجدل ولن تستهويه الشذوذات ولا الغرائب .
-   كذلك فالمستمسكون بالحق دائما هم بعيدون عن سبل التعميم المشوشة أو التعتيم في الحديث عن ثوابت الدين أو المجاملة لهذا المسؤول أو ذاك , إنما سبيلهم الموضوعية والشفافية والبحث عن الحكمة بشتى الطرق فالحكمة ضالتهم دائما .
-   كذلك فإن هناك ارتباطا قويا بين فهم الواقع وتقدير ظروف المجتمعات من جهة, وبين التوازن بين صحة المنهج القرآني المستخدم والتزام وسطيته بلا إفراط أو تفريط وبلا غلو أو مغالاة , فيجب دائما على العلماء تقدير ظروف الواقع ومراعاة الزمان والمكان والقدرة, كل ذلك في إطار التيسير الشرعي الذي بنيت عليه أحكام الدين وفي ظل ثوابته المعلومة .
-   كذلك ينبغي دائما الانطلاق من العلم الراسخ والفهم المتفق عليه بين العلماء مع رعاية التقوى والورع في النظر للأمور بعيدا عن الهوى ورغبات النفس وطموحاتها .
-   أما الاستفادة من الخبراء والعلماء وأهل الاختصاص فأراه واجبا أيضا في ظل التقويم الدائم للسبيل والوقوف على الأخطاء والاستفادة منها وليكن كل ذلك في إطار كامل من صدق العزيمة والإخلاص مع الله سبحانه والالتجاء إليه وطلب التوفيق منه والهداية إلى الصواب .
 
 كيف نستلهم من رمضان معاني الثبات على المنهج ؟
رمضان له فضائل عظيمة ومزايا كثيرة رفعت قدره في قلوب المؤمنين , وكان دأب الصالحين دائما الحرص على رمضان , فيسألون الله ربهم أن يبلغهم رمضان , ويستعدون للقائه فيعودون إلى كتاب الله تدبرا وقراءة وتدارسا , ويسجدون في ليلهم رجاء أن يوفقهم ربهم للغفران والتوبة والسعادة في الدارين ..

ورمضان يوحي بمعان مختلفة في شأن الثبات على المنهج الإسلامي العظيم , فمن ذلك أنه يجمع قلوب المؤمنين على معنى إيماني واحد , ورغبة شرعية واحدة طوال أيامه هي التقوى الله سبحانه التي هي من مقاصد الصوم كما قال تعالى " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون .." فالصالحون في مشارق الأرض ومغاربها يبذلون جهدهم طوال أيامه بحثا عن تحصيل ذلك المعنى من الصيام مما يجعل قلوبهم مستعدة للتلاقي والاجتماع والتعاون على شتى أنواع الخير ..

كذلك فرمضان يذكرنا بثبات المنهج الإسلامي ذاته وبصحته وسلامته عبر العصور وكيف أن الله عز وجل تكفل بحفظ قرآنه المجيد عبر مرور السنين , وهو دعوة لعودة الناس جميعا إلى منهاجهم الراسخ الصحيح الذي يثبت مع الأيام علوه وسموه وتحديه لكل المناهج الأرضية .." تنزيل من حكيم حميد "

وفي رمضان معنى آخر من معاني الثبات وهو ارتباط الحياة اليومية كلها في رمضان برضا الله سبحانه , فالصائم يحرص طوال يومه ألا ينقص أجر صومه ويحرص طوال ليله أن يغفر الله له ويرحمه , فهو دعوة طوال أيام السنة لإحالة الأيام كلها إلى أيام ارتباط بالله سبحانه ومراقبة له عز وجل وتقرب إليه لا إله إلا هو , لذا فقد أتبع الله سبحانه آيات الصوم في كتابه بقوله سبحانه " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون "

وزيادة على ذلك فإن رمضان يربط المسلم بالمنهج الذي إن اتبعه فلن يحيد وهو كتاب الله الذي يقرؤه ويتدبر آياته ويتزود منه في هذا الشهر العظيم.
 
ينظر فئة من الناس أن بعض الاجتهادات والمواقف المعاصرة ضرورة تقتضيها حاجة الناس وتحقق مقاصد الشريعة، بينما توصف عند آخرين بأنها تفلت واتباع للهوى. هل يعتبر هذا من قبيل الاجتهاد المقبول؟
-   لاشك أن الاجتهاد غير منقطع إلى يوم القيامة , ولابد للقائم بعملية الاجتهاد أن يتصف بوصف المجتهد على كل حال , سواء من العلم التام بدين الله سبحانه أو إدراك قواعده وضوابطه وأصول استدلاله وشتى ما اشترطه الفقهاء في المجتهد ..ولو كان مجتهداً جزئياً.

والمجتهد إذا بذل وسعه وجهده مخلصا في الاجتهاد في مسألة ما فإذا أصاب في رؤيتها والحكم عليها وبيانها فهو مصيب عند الله وله أجران وإذا أخطأ فإن الله سبحانه لن يحرمه أجر اجتهاده وإخلاصه وصدقه وبذله وجهده وعلمه ..
إذن فلا يمكننا أن نعتبر رأي المجتهد نوعا من التفلت أو الهوى مادام ينظر بعلم , ويبحث في حدود ثوابت الدين ومبادئ الشريعة وقواعد الإسلام ..

وهناك قاعدة أقرها العلماء وتلقوها بالقبول وهي قولهم " لا إنكار في المسائل الاجتهادية " ومقصودها مقصود حضاري رائع يبين لنا كيف احترم علماء الإسلام القول والقول الآخر من أقوال علماء المسلمين الأثبات مادام داخلا في حدود الاجتهاد المعتبر شرعا ومبنيا على الدليل القويم في الاستدلال , حيث لا تنطبق تلك القاعدة ولاشك على الاجتهادات الشاذة ولا الأقوال المخالفة لثوابت الدين

وفيما يخص الاجتهادات , فلاشك أن هناك اجتهادات معاصرة قيمة صالحة , تدعو إليها حاجة الناس وظروف الواقع وهي تلك التي تهتم بأحوال الخلق الطارئة ونوازلهم الحادثة وغير ذلك مما يستجد لهم , والمسلمون دائما بحاجة لذلك النوع من الاجتهادات المتابعة لتغيرات الحياة

أما من يتخذ من الاجتهاد والفتيا نوعا من تبني الآراء الشاذة والمنكرة أو الضعيفة والترويج لها بحجة العصرية والواقع وتغيرات الناس فهذا ولاشك مخالف للصواب.

ولاينفعه زعمه أنه يراعي مقاصد الشرع إذا خالف منطق النصوص فالنصوص هي التي تدل على مقصود الشرع وليس مقصود الشرع مايتوهمه خيال المخالف للنصوص الشرعية فمثل هذا لم يفقه مقصود النص وإنما جعل من هواه مقصوداً شرعياً.
 
 توصف فئة من الناس بالجمود والتشدد والمثالية ، ويوصف غيرهم بالواقعية والسماحة والتيسير، ويختلط مفهوم التجديد بالابتداع . وتسبب هذا في اضطراب فكري لدى فئة من الشباب ، كيف ترون مستقبل هذا الجيل في ظل هذا التذبذب والحيرة؟

-   إن دين الله سبحانه دين عظيم ، ومنهاجه لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه , وشريعته شريعة وسطا وأمته أمة وسطا " وكذلك جعلناكم أمة وسطا ليكون الرسول عليكم شهيدا وتكونوا شهداء على أنفسكم ..الآيات "
-   فالوسطية والسماحة والتيسير ، من أوصاف هذا الدين العظيم وفي الحديث النبوي الثابت قوله صلى الله عليه وسلم " إن هذا الدين يسر " , وقد أمر صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري لما أرسلهما إلى اليمن بقوله : " يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا ولا تختلفا "
-         وإنما كانت تلك الأوصاف ( أوصاف الاعتدال والسماحة واليسر وغيرها ) وصفا لأحكام الدين الصحيحة المبنية على استدلالاته الصحيحة , ووصفا لمبادئه الراسخة التي هي من عند العزيز الحميد " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " .. والتي علمها لنا خير الناس للناس محمد صلى الله عليه وسلم , فيجب أخذها كما هي مع علمنا بأنها هي الوسطية والسماحة والتيسير الشرعي .
-   ومن ثم لايمكن لأحد أيا كان أن يزايد على الإسلام الغض الطري ولا المحجة البيضاء الواضحة الجلية التي جاء بها رسول الإسلام ويصفها بالجمود والتشدد أو أن يصف الملتزمين بقواعد الدين ومبادئه وقيمه أنهم جامدون متشددون في مقابل وصف غيرهم بالسماحة !
-         إنما المقياس الواضح الجلي هنا للصواب هو اتباع هدي محمد صلى الله عليه وسلم ..
-   وقد يسأل سائل عن السبيل للحكم على صحة المواقف والرؤى وتبين الصواب من الخطأ , ونقول إن الله سبحانه قد جعل العلماء الربانيين الصالحين لهذه الأمة كالسراج في طريقها يضيء سبيلها , فيجب على الناس الاستضاءة بنور العلم الذي عندهم والعودة إليهم في الأحكام والرؤى دائما وأن يجعلونهم من أهم مقاييس المعرفة إلى الصواب ..
-   أما عن التجديد في الدين فإنما هو بذل الجهد في تبيين بعض ماخفي من جوانبه أو مفرداته وإحياء بعض ما اندثر من سننه ,. وإنعاش الهمم الصادقة بذلا وسعيا وجهدا وإخلاصا لنصرة الإسلام ورفعة أمته وما يدور حول ذاك المعنى من إحياء علوم الدين وسننه , والذب عنه وإعلاء كلمته ..أما من ابتدع في دين الله فهو إحداث لاتجديد يعيد إلى الحياة سنة مندثرة ومفهوماً صحيحاً قد غاب عن الناس زماناً والإحداث في الدين مرفوض لأن الله أكمل الشرع فمن أحدث في الدين شيئاً فهو رد عليه ولا شك لقوله صلى الله عليه وسلم " من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رد " ..
وإنما التجديد إعادة معالم شرعية قد اندثرت لا إحداث أو إبداع أشياء نستحسنها نجعلها ديناً ولم يأتِ بها الشرع أوجاء بها لكن غير تلك الصفة.
 
أحد أهم أسباب الثبات على دين الله هو ما نشهده بحمد الله من العناية بتدبر القرآن وهو من مظاهر التجديد الجلية ، ولكم بفضل الله دور في التأكيد على أهميته منذ سنوات ، كيف يرى فضيلتكم اقتران شهر رمضان بهذا المظهر و كيف يمكن الوصول برسالة التدبر إلى عموم الناس؟
-   شاء الله سبحانه برحمته وفضله ونعمته على الناس أن يجعل لهم شهرا كريما يفتح لهم فيه أبواب الرحمة ويعينهم فيه على الطاعة ويصفد لهم الشياطين ويأمرهم بالتعاون على البر والتقوى , فكان رمضان دائما عبر الأزمنة شهر الخير والبركة والعبادة والتوبة، وقد كرم عز وجل رمضان بالقرآن فقال : " شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن " مشيرا إلى فضيلته العظمى وموجها إلى أهمية تدبره وتعقله وتفهمه وقراءته وجعله منهاجا لكل شئون الحياة، ولما كان القرآن الكريم دستور الأمة ومنهاجها , صار الالتزام به وإحياء معانيه واجبا علينا جميعا بكل ماتيسر لنا من قدرة وإمكانية وطاقة،   وقد جعل الله سبحانه مواسم للعبادات تزكو فيها ويزداد أجرها ويضاعف ثوابها وفضلها , ورمضان من أعظم تلك المواسم , وهو وإن كان موسما لشتى الطاعات فإن للقرآن فيه خصوصية كما سبق وبينا , ولذلك كان السلف يفهمون ذلك فتبدو خصوصية القرآن في رمضان على شتى أعمالهم فيه وينبغي أن تكون لنا فيهم القدوة والأسوة،   والحقيقة إن مسئولية الدعاة والعلماء وأهل القرآن عظيمة تجاه توصيل رسالة القرآن إلى الناس وتبليغها في إطار التدبر والتفهم والإدراك لمعناها وقيمتها , وأرى أن ذلك يجب أن يتم مع اعتبار عدة أمور منها :

-    الحرص على توصيل مفاهيمه إلى ما استطعنا من الناس في مشارق الأرض ومغاربها , فكثيرا ما تكون مفاهيم القرآن غائبة أو خفية عن الناس نتيجة عدم تدبرها
-   كذلك التأكيد على مفهوم التدبر والفهم وليس فقط الحفظ والقراءة , فإن الأمة أكثر ما تكون حاجة لتدبره وتفهم معانيه المنهجية التطبيقية (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب).
-   والقرآن محبب للقلوب لا يحتاج إلى كبير جهد لتقريبه لقلوب الناس وعقولهم وقد تكفل الله سبحانه بتيسيره على المتذكرين والمتدبرين له فهناك معونة ربانية لكل مجتهد في ذلك السبيل سواء على مستوى الدعوة إليه أو مستوى تطبيقه ..
نسأل الله للجميع الخير والهدى وأن يتقبل منا ومنكم رمضان وصالح الأعمال إنه سميع مجيب.