البلاد الغريبة!
7 رمضان 1429
د. محمد يحيى
في برنامج يعنى بالمشاكل الأسرية والعاطفية على قناة تليفزيونية فضائية مسيحية تبث إلى مصر وتنطق باسم الكنيسة القبطية الأرثوذوكسية تحدث أحد الأساقفة المهمين ليرد على سؤال لفتاة حول زواجها السريع خلال أيام قليلة من قريب لها عائد من بلد خليجي.
وفي رده على السؤال ركز الأسقف عدة مرات على ما قال أنه الحذر الذي يجب أن تتحلى به عند زواجها ـ رغم أنه قريبها ـ لأنه كان في بلد غريب ـ وقد كرر كلمة غريب كثيرًا ـ له أوضاع مختلفة عنا كما قال.
والواقع أن هذا التحذير الغريب في حد ذاته يثير الضحك ولا أقول الدهشة لأن الأسقف خرج عن نص السؤال وراح يثير المخاوف من البلد الغريب، ولست أدري هل يتصور مثلاً أن ذلك الزوج القريب قد عاد مسلمًا إلى أرض الوطن الكنسي وأنه سيفرض على زوجته الإسلام أو لبس النقاب والعباءة والحجاب بينما يلبس هو الجلباب ويعتكف في المساجد.
ومادمنا نتحدث في الغرابة فإن الغريب هو ألا يذكر الأسقف أن هناك أعدادًا كثيرة من المسيحيين المصريين في تلك البلاد الغريبة وأن أحدًا منهم لم يعد يحمل من الدين الغريب أو التقاليد الغريبة بل على العكس فإن كنيسته تقيم الدنيا ولا تقعدها من الشكوى من أن أتباعها الذين يسلمون يتعرضون لذلك في مصر وليس في بلدان الخليج الغريبة.
ولا يذكر الأسقف كذلك أن كنيسته تمكنت وبفضل النفوذ السياسي الذي وصلت إليه داخل مصر من أن تنشيء لها كنائس أو بالأصح أفرع في تلك البلدان الغريبة وسط ترحيب شديد هناك بحيث صار المتوقع والطبيعي أن تمارس هي النشاط التنصيري على الأقل وسط غير المسلمين هناك وليس أن يتوفى أتباعها لتأشيرات البلاد الغريبة سواء كانت تلك التأشيرات هي الدين الإسلامي أن تقاليد أم العادات والتقاليد الخاصة بتلك البلاد الغريبة، ولكن إذا نظرنا إلى السياق الأوسع المتعلق بنشاط أو أفكار الدوائر الكنسية القبطية في مصر والأصوات القبطية والعلمانية المتصلة بها على مدى ما يزيد على العقد من الزمان فلن نجد من الغريب أن يقحم ذلك الأسقف الحديث عن البلدان الغريبة في معرض الرد عن استفسار أسري أو إبداء النصيحة في شأن شخص عاطفي، ذلك لأن هذا المناخ العام ظل طوال هذه السنوات يحفل بصراخ وعويل وشكوى ضد ما أسمي بالغزو الوهابي لمصر ومن وراءه غزو العرب والذي يقول الشاكون أنه يهدف بالأساس إلى أسلمة المسيحيين فضلاً عن تحويل البلاد إلى نسخة من بلاد الخليج في العادات والتقاليد والمذاهب الى أدق التفاصيل.
وقد وصل هذا التيار إلى مداه في محاضرة ألقاها أحد أساقفة الكنيسة ـ وهو أسقف التوجيه ـ في أمريكا منذ أسابيع قليلة تحدث فيها عما وصفه بأنه معاناة وغربة المسيحيين في مصر من جراء فرض الهوية العربية، ومن ثم الإسلامية عليهم بالقوة مع إلغاء هويتهم المصرية الأصلية، وقد أثارت هذه المحاضرة الرفض العام وتداعى المثقفون المصريون وعلى رأسهم مثقفين أقباط إلى كتابة بيان ضدها، لكن ذلك قابلته أحداث علمانية وقبطية أخرى ببيانات وتصريحات مضادة تؤكد فحوى محاضرة الأسقف في أمريكا بل تزيد عليها.
والغريب ـ مادمنا نتحدث عن الغرابة ـ أن الإعلام الرسمي الذي دأب في السنوات الأخيرة على رفض أيه دعوة إلى التركيز على الهوية الإسلامية لمصر سكت على دعاوى الأسقف ولم يناد لها بتعليق رغم أن هذا الإعلام يعمل في تلك الفترة بالذات على التنسيق مع إعلام خليجي لإدخال وثيقة تحكم البث الإعلامي بدعوى الحفاظ على الهوية العربية الأصلية!.
 []                     []                      []
وصل أسقف التوصية التابع للكنيسة القبطية في مصر في محاضرته التي ألقاها في أمريكا ـ والمكان هنا له مغزى كبير ـ إلى بلورة رأس لا نبالغ إذا قلنا أنه تردد كثيًرا على مدى ما يزيد على القرن وإن كانت حدته وصوته قد ارتفعا على مدى الربع القرن الماضي بالتزامن مع زيادة قوة ونفوذ الكنيسة الأرثوذوكسية.
ولا نبالغ كذلك إذا قلنا أن هذا الرأي بالذات كان هو السلاح الفكري الأساسي لتلك الكنيسة التى اعتمدت عليه في حشد الأتباع وكسب التحيز والتمدد ومواجهة الخصوم.
وهذا الرأي يقوم بتركيز وبساطة قاطعة على الأسس الآتية:
أولا: أن الكنيسة وعقيدتها هي المثل والمعبر الأول والأخير والوحيد عما يمكن تسميته بالهوية والذاتية المصرية.
ثانيًا: تتعرض هذه الهوية ومنذ أربعة عشر قرنًا وحتى الآن وبشكل متصاعد في الآونة الأخيرة إلى هجوم خارجي متمثل في غزوة من شبه الجزيرة العربية تتغطى وراء الإسلام كدين
ثالثًا: المصريون المسلمون والذين يحددون هويتهم بأنها إسلامية وعربية هم في الحقيقة خونة مرتدون ليس فقط عن الهوية الحقيقية (وهي المصرية)، بل عن العقيدة الحقيقية وهي الأرثوذوكسية الكنسية.
وهذه المبادئ الثلاثة هي التي انكشفت مع محاضرة أسقف القوصية على أنها تكمن وراء كل الضجيج والعويل الذي ملأ الدنيا علمانيًا ومسيحيًا في الأعوام الأخيرة عن الغزو الوهابي والسعودة ودخول البدو الرحل والصحراء القاحلة إلى وادي النيل والأسلمة القسرية ... إلخ.
إن هذه المسألة برمتها والتي تراوحت في طرحها من طرح دعائي غوغائي سطحي ظاهر وطرح أعمق يقوم على أسس ومبادئ كامنة في موقف الكنيسة وأنصارها تحتاج في رقتها إلى ما يسمى عادة بالتحرير وفك الخيوط المشتبكة والملتهبة.
ولعلنا في البداية ورغم حساسية الموضوع نتوجه إلى البعد السطحي الظاهر في طرح المسألة لنقول أن الدعاية الغوغائية العلمانية والكنسية الموجهة للجمهور العام كانت تقوم في أساسها على مخاطبة أسوأ ما في غرائز وطبائع وسلوكيات الجمهور العام وتعتمد على الإثارة الانفعالية واللجوء إلى استنهاض أنواع من النعرات، تتراوح منها وطنية مغلوطة إلى أحقاد وتحاسد وغيظ وذلك بأحاديث عن غزو واستغلال وبداوة هاجمة وصحراء زاحفة وأسلمة قهرية واغتصاب ليد من الأرض إلى النساء، ولكن ينبغي إحقاقًا للحق ورغم الحساسية والدقة أن يقال أن تلك الدعاية ارتكنت بخبث إلى أوضاع وتيارات واتجاهات سادت الحياة الدينية (الإسلامية) الاجتماعية المصرية في السنوات الأخيرة وكان لها من الوجود ما سمح لأصحاب الدعاية بتضخيمها والمبالغة فيها لكي يتسنى لهم استغلالها.
من بين هذه الاتجاهات مثلا الخفوت والضعف الشديد في حضور المؤسسة الدينية الرسمية في حياة البلاد إما لأسباب الضغوط العلمانية (ومنها الرسمية) أو لأسباب الضعف الداخلي مما سمح لأصوات وتيارات عديدة بالحضور والتمدد الاجتماعي تحت أوصاف تراوحت من السلفية إلى دعاة الفضائيات، واتجهت تلك التيارات في محاولة لتمييز نفسها عن الأزهر وكذلك في بحثها عن مصداقية خاصة بها إلى انتحال سمت وأفكار وآراء بل ورأى وسلك أصوات وتوجهات حاضرة في شبه الجزيرة العربية.
ونظر الناس إلى هؤلاء التدين لأصل خارجي ليس هو المثل الوحيد أو الصحيح لوطنه على أنهم في الواقع مبعوثين لنشر مذاهب فقهية معينة أو سلوكيات خاصة بموطنها فقط أو دعوات ومشارب كانت تنير الدنيا حتى في بلادها ذاتها مهددة الرأي والاستقرار هناك، وتأكدت الصورة عندما انتشر أمر بعض دعاة السلفية الفضائية (حسب الوصف الشائع) وظهرت سلوكيات أخرى، وللحديث بقية.