أفلا يجدر بنا أن نسأل: كيف غاب عنا شعور الاستعلاء والعزة ؟! لم فارقتنا أحاسيس الفخر والارتياح لما نملك من عقيدة وحضارة وقيم.
الله عز وجل، حثنا أن نجافي اليأس، ونطرد الشعور بالهوان والمذلة والرجعية، لأن ما نضمه في قلوبنا، وما نمسكه بأيدينا يجعل جباهنا تلامس السحاب، إن زدنا تمسكاً بالإيمان ومقتضياته، وأدركنا أن الإسلام هو قاطرتنا الحضارية لتبوء مكانتنا الحقيقية كهداة لهذا العالم التائه الحائر.
دعونا أولاً نقتبس هذه الفقرة من دراسة قصيرة ليست قديمة نشرتها إحدى المواقع الصهيونية بعنوان "أوروبا تشنق نفسها"، جاء فيها: "ما ينتجه الغرب اليوم، هو سينما بلا مضمون، فن بلا ذوق، أغانٍ ومسلسلات أقرب للمجون والتهريج، روايات بلا حبكة تلهث خلف فنتازيا سمجة ومفرطة، معارض للوحات تافهة ومقتبسة، تماثيل تسرف في التجريد، وحتى الجوائز الفنية العريقة التي راقبت حركة الفن لعقود، فقدت استقلاليتها وخضعت للتسيس، ولم تعد تُمنح للموهوبين، بل لمن يتبنون مواقف تتطابق مع وجهة النظر الرسمية لبعض القضايا، واستئجار أرحام بعض الفقيرات لتكوين عائلة غير متجانسة على حسابها، وانتشرت فضائيات مهجوسة بالموضة، والحيوانات المنزلية، والرياضات النخبوية كالغولف، والجنس المبتذل، وتسويق بضائع ومنتوجات لا تعني غير %15 من سكان أوربا معظمهم من النساء، أما التعليم فقد صار سلعةً مرتفعة التكاليف، لا يقدر عليه إلا أبناء المتنفذين والأثرياء وأرباب المال السياسي والديني، وانكماش الريف الأوربي، وتقلص الطبقة الوسطى، وتغول التكنولوجيا الرقمية وصناعة الأسلحة، واستفحال الفساد والتسيب الإداري سيما بجنوب أوربا….الخ
بالمقابل ما الذي بدأ يخترق الحضارة الغربية، ويتوغل فيها ببطء وإلحاح ويطرح نفسه بديلاً لها؟ إنه الإسلام".
أمطرت الدراسة الإسلام سهاماً كثيرة ناقدة وحاقدة معاً، غير أنها في مقدمتها الأولى قد كشفت عن أسباب هذا القلق الصهيوني حقيقة من الإسلام وانتشاره في أوروبا.. إنه الفراغ الأيديولوجي والخواء الروحي والضياع الفكري، ذاك الذي جعل الإسلام خطراً كبيراً في نظر بني صهيون على أوروبا. "أوروبا تشنق نفسها" ليس حالة فريدة في تجسيدها للقلق الصهيوني من الإسلام، فالتقارير الصهيونية أكثر من أن تحصى، وتحذير رئيس حكومة الكيان الصهيوني آرييل شارون من الإسلام لا تخفى دلالاتها، بل لا تخفى تبعاتها وآثارها التي سرعان ما ترجمت لصعود يميني متطرف مناهض للوجود الإسلامي كله في أوروبا لم يزل يزداد صعوداً وتطرفاً، حين قال قبل خمسة عشر عاماً: "إن وجود المسلمين في أوروبا بشكل أقوى عن أي وقت مضى يهدد بالخطر يقينًا حياة اليهود، هناك نحو 70 مليون مسلم يعيشون في الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي" (حوار أجراه مع شارون موقع "إي يو بوليتيكس" المخصص لشؤون الاتحاد الأوروبي يوم 24/11/2003). على أن الدراسة الصهيونية كانت صريحة بالفعل حيال النقد اللاذع لـ"الحضارة الأوروبية" إن جاز التعبير، ووضعت يدها على الجرح تماماً، واستكنهت ما يحاول كثيرون إخفاءه.
القلق إذن له مبرراته، وتلك لا توجد فحسب في أعداد تتزايد من المسلمين أضحت تسكن عواصم مهمة وتعد أرقاماً لا يمكن تجاهلها في مفاصل ونقاط ارتكاز التأثير السياسي والاجتماعي والثقافي في أوروبا، بل في هذه القوة الذاتية للإسلام ذاته، والتي يحاول اليمين وحتى اليسار كبح جماح انطلاقتها بالاستدارة في اتجاه "العصور الوسطى" بدعوى التشديد على مفهوم "الاندماج" المطاط، الذي يجعل من الالتزام بفروض الإسلام وشعائره في حدودها الدنيا مجافية لهذا الاندماج الذي يطالب به المسلمون دون سواهم من التجمعات الدينية؛ إذ إن المبالغة في توسيع مفهوم الاندماج ليستخدم كممحاة للهوية والدين والجذور على النحو المتعاظم الآن في أوروبا هو ليس معادياً للإسلام وأهله فحسب، وإنما هو قاتل أيضاً للفكرة الليبرالية ذاتها التي وحدت أوروبا تحت سقف قيم متقاربة واتحاد واحد.
إن العدو الصهيوني يرى أن الإسلام بجدارة "يشنق" أوروبا، ونحن بالطبع نراه يعتقها من نير الهوى والعبودية الطاغية للمادة. لا ضير فليس هذا هو مناط مقصودنا، فالثابت في تلك الرؤية أن الإسلام لديه ما تتعطش أوروبا للارتواء به، لديه دافعيته الذاتية، لديه قوته الناعمة الهائلة، التي لم تجد بالفعل من يستفيد بها، لتقديم الإسلام غضاً سهلاً لأوروبا كمعتق ومنقذ ومخلص من تيه وضلال أفكارها وغرائزها وتخبطاتها الاجتماعية والثقافية.. والاقتصادية كذلك مؤخراً. فهل يدرك المسلمون في أوروبا عظم الدور الذي وضعهم القدر في محل القيام به، والمسؤولية العظيمة الملقاة على عاتقهم؟ نتمنى أن يكون قبل فوات الأوان.