وفق ميزان الإسلام الدقيق يتم تقدير الإسلام للرجال وتقويم مواقفهم، وحيث يضع قاعدة عامة لحسن الظن للمؤمنين؛ فإنه لا يمنح هذه المزية وهذا التكريم للمنافقين ولا يتساهل مع ذوي الوجهين.
لا بساطة في التعامل مع هؤلاء، ولا تقديم لحسن الظن والنوايا مع أرباب النفوس المريضة والمواقف المتلونة. وإذ يقول الله عز وجل في شأن المؤمنين " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ" [الحجرات: 12]، ويقول: " لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا" [النور: 12]؛ فإنه يقول في شأن التعامل مع المنافقين وأصحاب القلوب الخبيثة: " فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا ۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ۖ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا" [النساء: 88].
يعتب على المؤمنين حين انقسموا إلى فئتين في تقويمهم لأحوال قوم بان نفاقهم وظهر، متخفين حول إعلان هش لإسلامهم فيما قلوبهم وعقولهم للكفار وانحيازهم إلى صفهم بوضوح!
يصطفون مع المشركين، يتكلمون بلسانهم، يحالفونهم، ينخرطون معهم في نواديهم وقوافلهم، يشاطرونهم أفكارهم ويطابقونهم في مواقفهم، ثم تتحفظ فئة من المسلمين عن معاداتهم وتحديد معسكرهم الذي اختاروه؛ فتنزل الآية واضحة: كيف للمؤمنين أن يخدعهم هؤلاء أو أن يتخذوا حيالهم موقفاً واضحاً صارماً؟!
تتعدد الروايات في شأن نزول هذه الآية، لكن مرماها واحد، وهو وضوح الصورة التي ينبغي أن يراها المؤمنون لمن يتلاعب بدينهم، يعلنه ويعاديه في آن معاً!
تقول إحداها: إنها نزلت في رأس المنافقين وأتباعه لما تراجعوا عن القتال في غزوة أحد، فعن زيد بن ثابت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أُحد، فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين: فرقة تقول: نقتلهم. وفرقة تقول: لا فأنزل الله: ( فما لكم في المنافقين فئتين ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنها طيبة، وإنها تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة ". يقول ابن كثير: أخرجاه في الصحيحين، من حديث شعبة. وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في وقعة أحد أن عبد الله بن أبي رجع يومئذ بثلث الجيش، رجع بثلاثمائة وبقي النبي صلى الله عليه وسلم في سبعمائة.
وتقول ثانيها: إنها نزلت في قوم من مكة تكلموا بأنهم قد أسلموا، لكنهم ما زالوا في صف المشركين بها، قال العوفي ، عن ابن عباس: نزلت في قوم كانوا بمكة، قد تكلموا بالإسلام، كانوا يظاهرون المشركين، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم، فقالوا: إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس، وأن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة، قالت فئة من المؤمنين: اركبوا إلى الجبناء فاقتلوهم، فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم. وقالت فئة أخرى من المؤمنين: سبحان الله! أو كما قالوا: أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به؟ أمن أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم تستحل دماؤهم وأموالهم. فكانوا كذلك فئتين، والرسول عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شيء فأنزل الله: ( فما لكم في المنافقين فئتين ). وعن الضحاك: نزلت في قوم أظهروا الإسلام بمكة ولم يهاجروا، وكانوا يظاهرون المشركين على المسلمين ، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم" الآية.
وقريب من ذلك، ما جاءت به الروايات عن أن هؤلاء قد كانوا بالمدينة فغادروها بحجة أن لهم أموالاً بمكة أو أن المدينة قد أصابتهم أوجاع بالمدينة واتّخموها؛ فغادروها للاستشفاء ثم لم يعودوا ولحقوا بالمشركين.
وتقول روايات أخرى أنهم هم منافقو الإفك الذين تحدثوا به على عائشة رضي الله عنها.
ورجح غير واحد من أهل العلم أنهم من أهل مكة، لا المدينة لقوله تعالى في الآية التي تلتها: "فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ"، فليس على أهل المدينة هجرة، قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك، قول من قال: نـزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا ارتدُّوا عن الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة.
فهؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد اختلفوا في شأنهم وانقسموا فئتين: فئة تراهم كفاراً ينبغي قتالهم، وفئة تراهم مسلمين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتكلم حتى نزلت الآية؛ فبينت صواب الفريق الأول، وحثت على قتالهم أينما وجدوا؛ فالله تعالى قد أركسهم بما اقترفت أيديهم، يقول ابن كثير: وقوله: (والله أركسهم بما كسبوا) أي: ردهم وأوقعهم في الخطأ. قال ابن عباس: (أركسهم) أي: أوقعهم. وقال قتادة: أهلكهم. وقال السدي: أضلهم. وقوله: (بما كسبوا) أي: بسبب عصيانهم ومخالفتهم الرسول واتباعهم الباطل.
ومَرَدُّ انقسام بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن قسماً منهم قد خشوا من الحكم على أناس قد أظهروا الإسلام بالنفاق الأكبر بما يترتب عليه من أحكام أعلاها قتالهم، وهم يدركون في الوقت نفسه أن المؤمن مأمور بحسن الظن بأخيه المسلم، مثلما قال ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ ) - يقول: نهى الله المؤمن أن يظنّ بالمؤمن شرّا. وفي قوله ( إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ) يقول: إن ظنّ المؤمن بالمؤمن الشرّ لا الخير إثم, لأن الله قد نهاه عنه, ففعل ما نهى الله عنه إثم.
ولم يكن ذلك القسم قد علم أن خيار مخالفيه هو الصواب، وأن الظن الحسن لا ينسحب على أصحاب النفوس الخبيثة من المنافقين الموغلين في عداء المسلمين وموالاة أعدائهم؛ فجاءت الآية الكريمة كاشفة وواضعة لواحدة من أبرز القواعد في النظر إلى المتلونين الذين لا يزيدون الصف المسلم إلا خبالاً واضطراباً، فتعدلت نظرتهم إلى ما قادت إليه الآية، وأدركوا أن للإيمان علامات لابد أن تظهر على مدعيه، وأرشدتهم الآية التالية إلى أن هؤلاء الذين لم يهاجروا مع قدرتهم على الهجرة، وذابوا في موالاة أعداء الإسلام لا يمكن أن يكون ادعاؤهم بالإيمان صحيحاً، وأن المؤمن الفطن لا ينبغي أن ينخدع بأمثال هؤلاء، وأن عليه أن يضعهم في المكان اللائق بهم كمنافقين مذبذبين بين فريقي الحق والباطل. والواقع أنه قد خلف من بعد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن اقتفى أثرهم، خلف زاغت عيونهم عن تلك الرؤية الدقيقة فانحرفت بوصلاتهم عن الجادة فكان الانكسار تلو الانكسار.
ولقد شهد التاريخ الإسلامي كثيراً من تلك الحوادث التي انهزم فيها المسلمون أو انكسروا أو تراجع نفوذهم وتأثيرهم في محيطهم بسبب هذا التغافل عن طوائف المنافقين وإحسان الظن بهم؛ فكم بقي في قلب بلاد الإسلام، حاضرة الخلافة، بغداد، وغيرها من ملاحدة ومبتدعة يبثون سمومهم، والمسلمون عنهم غافلون، فتمددت طوائفهم وانتشرت البدع بسبب ورع كاذب في ملاحقتهم ووأد شرورهم، فقاد هذا الإحسان المذموم بهم إلى ترك الأخذ على أيديهم فانتشرت الفرق الباطنية واشرأب النفاق، وقامت دول كالبويهية والعبيدية والصفوية، ووجد الملاحدة والفلاسفة والمتكلمة والقرامطة والبكتاشية وغيرهم أرضاً خصبة في دول بلاد المسلمين وعرضها لاستنبات سمومهم، وسقطت دول الإسلام بسبب استشراء أمراضهم الخبيثة في جسد الأمة، وتنوعت الخيانات التي قام بها المنافقون فسلموا ثغور الإسلام وحواضره للأعداء، بل إن معظم الخيانات في فترة "الاستعمار" وقبلها مردها إلى إحسان الظن بالمنافقين والخائنين وترك المجال لهم ظناً ممن يدعهم أنهم من صلب جسد هذه الأمة وهم قد فارقوها وحالفوا أعداءها.
إن أفدح الخسائر التي مرت بالمسلمين على مر العصور يستحوذ على النصيب الأوفر فيها: الثقة بمن لا يستحقون الثقة، وحسن الظن بالأعداء ومن هم على شاكلتهم من المنافقين وأصحاب النفوس الخبيثة، ولكم أفضى ذلك إلى مآس وآلام وأتراح. لقد ظل المسلمون في عزة ومنعة حيث ظلت معاييرهم دقيقة في النظر إلى المداهنين للكافرين، وحين توسطوا بين الغلو والتنقيب عن خبايا النفوس، والتفريط في التسامح مع المنافقين حد ضياع الحذر والسذاجة. فكانوا فُطَناً في التعامل مدركين للحدود الفاصلة بين معسكري الإيمان والكفر.