تفجيرات الجزائر.. العبث بالدماء والسياسة والأحكام الشرعية
29 شعبان 1429
أمير سعيد

[email protected]

 

عندما سئل د.أيمن الظواهري عن قتل الأبرياء في الجزائر، تحديدا، في عملية حادي العشر من ديسمبر خلال الأسئلة التي أجاب عنها عبر المواقع القريبة من تنظيمه، والتي بثت على نطاق واسع على شبكة الإنترنت بعد ذلك قال: "من قتلوا في الحادي عشر من ديسمبر في الجزائر ليسوا من الأبرياء، وإنما حسب بيان الإخوة في القاعدة في المغرب الإسلامي هم من الكفار الصليبيين وجنود الحكومة الذين يدافعون عنهم، وإخواننا في القاعدة في المغرب الإسلامي أصدق وأعدل وأبر من أبناء فرنسا الكذبة، الذين باعوا الجزائر لها ولأمريكا، والذين يخطبون ود إسرائيل، حتى ترضى عنهم زعيمة الصليبية أمريكا"، وقد اتضح من كلامه أنه يمنح ثقة عالية بتنظيم "القاعدة في المغرب الإسلامي"، وهي ثقة يصعب فهمها في ضوء العديد من المعطيات التي تكتنف الصعود الغامض لهذا التنظيم في الجزائر والذي جاء على أنقاض تنظيم يدعى الجماعة السلفية للدعوة والقتال حاول أن ينأى بنفسه عن فكر الخوارج الذي كانت تعتنقه الجماعة الإسلامية المسلحة التي تبرأ منها الظواهري في العام 1996 بعد أن أدرك الصغير قبل الكبير أنها كانت أحد أذرع الاستخبارات الجزائرية، وعلم كل من له مسحة من علم أن تكفيرها للمسلمين واستحلالها لدمائهم وأموالهم وقتلها الأقرب تديناً دون الأبعد ـ كحال الخوارج كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :"يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان" ـ يجعلها تنتمي للخوارج لا إلى أهل السنة بطبيعة الحال، وتبعد بها عن حيز التعاطف أو المساندة استناداً إلى قواعد الإسلام التي تحرم الانتصار لأهل البغي على أهل الإسلام.

كان الظواهري قبلها ـ أي الجماعة الإسلامية المسلحة ـ يعدها من قبل "من أقرب الجماعات للحق في الجزائر. وتأييدنا هذا هو تأييد لمنهجها السلفي الجهادي الذي يسعى إلى إقامة دولة الإسلام بالطرق الشرعية" وكان يدافع عن استهدافها لأهالي ضباط الجيش في مقار سكناهم بما يفضي إلى قتل الأطفال والنساء. [في حوار أجراه كميل الطويل مع الظواهري في العام 1996 ـ أي في العام نفسه الذي أعلن تبرؤه منها!]، وكان يضرب الذكر صفحاً عن الدماء المسفوكة والمجازر التي كانت تنسب لهذه الجماعة التي بادرت منذ نشأتها في العام 1991 إلى قتل المسلمين، وتعمدت تصفية نحو 500 من أنصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ في العام 1995 وقتلت بدم بارد اثنين من أرفع قادتها فكرياً وهما الشيخان محمد السعيد وعبد الرزاق رجام بعد انضمامهما إلى الجماعة المذكورة، الأم الشرعية الآن لتنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي، وامتدت جرائمها لتقتل الرئيس المؤقت للجبهة المهندس عبد القادر حشاني المسؤول الأبرز عن تحقيقها أعلى نسبة في انتخابات برلمانية في العالم لحركة إسلامية وهو 88%، إضافة إلى الشيخ عبد الباقي صحراوي في فرنسا من مؤسسي الجبهة والشيخ محمد بو سليماني أكثر قادة حركة مجتمع السلم (إخوان) قرباً من الخط السلفي وأحد الدعاة المشهود لهم في الجزائر بالاحترام.

أثناء المجازر الرهيبة التي ارتكبت باسم الإسلام في الجزائر وحصدت مئات الآلاف واستهدفت أكثر القرى والمناطق التصاقاً أو تعاطفاً مع الأحزاب الإسلامية على تنوعها، كانت الجماعة "الإسلامية" المجرمة تحظى بدعم الكثير من قادة الفكر الإقصائي لاسيما أيمن الظواهري وأبو قتادة الفلسطيني (الذي يتهمه قرينه أبو مصعب السوري بالقرب من الاستخبارات البريطانية التي للمصادفة أفرجت عنه مؤخراً دون حاجة لا إلى "غزوة عمان" التي ارتكبها تنظيم الزرقاوي في فندق بالأردن قبل أعوام، ولا إلى صفقة آلان جونسون الصحفي البريطاني الذي اختطفته مجموعة في غزة مجهولة التمويل والأفكار، وطالبت بالإفراج عن "سفير القاعدة في أوروبا" مثلما تدعوه الصحف البريطانية، وعلى كلٍ؛ فأبو قتادة مقيم في بيته الآن بلندن فيما منع العلامة القرضاوي من العلاج في تلك المدينة)، وأبو مصعب السوري، وأبو حمزة المصري الذي ظل الأخير إلى أواخر التسعينات يمتدح فرقة الخوارج (أو الاستخبارات)/الجماعة الإسلامية، وغيرهم من زعماء هذا الفكر، ثم انقلب عليها هؤلاء عندما بلغت أخبار المجازر حدوداً لا تطاق، عندها رفع الغطاء عنها وتوالت بيانات "القادة" في العام 96 المتأخرة كثيراً عن قناعة "الجماهير" التي وعت الأزمة مبكراً!

التاريخ إذن يعاود نفسه، وقبل أن تتعدد المجازر التي يرتكبها التنظيم الذي يرفع السلاح في وجه شعبه قبل النظام الجزائري، ويقتل من المسلمين المدنيين أو غيرهم بدعوى "قربهم أو التحاقهم بالجيش الوثني" على حد تعبير أدبيات هذه الجماعة، ويدعو هذه الجرائم بـ"الغزوات" تشويها لهذا المعنى السامي في سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم الذي مارس باقتدار حروباً نظيفة يشهد بها الأعداء قبل الأتباع؛ فإن الظواهري لا يريد أن يلتفت إلى صور وكالات الأنباء والتليفزيونات وحديث الناس وتواتر الأدلة على فداحة ما يرتكب باسم الإسلام والجهاد لأن هؤلاء في نظره هم "أصدق وأعدل وأبر"، ولا ينبغي لنا أن نعترض على ما يرتكبونه من مخازٍ لأنهم "يرون ما لا نرى" ولأن "أهل الثغور هم أولى بالحق" ولأن كل علمائنا ومفكرينا في طول العالم الإسلامي وعرضه "علماء سلطة ومارينز"، ولا خير إلا فيمن يتخذ من الجبال بيوتاً، ومن يساندهم بالتأييد والتحريض على تفجير المسلمين (لا يمكن بحال أن نطالب هؤلاء بجردة حساب بمن قتلوا من المسلمين ضمن من قتلوا من غيرهم لأنهم "أصدق وأبر" ومن سفكت دماؤهم هم إما من "جنود الطواغيت" أو مشاريع طواغيت كمثل هذه الجريمة الاستباقية التي ارتكبت ضد من أوشكوا فقط على الانضمام للدرك الجزائري حتى قبل أن ينخرطوا في صفوفه؟! كما لا يمكننا أن نسأل عن العلماء والمفتين الذين كفّروا هؤلاء الأبرياء وأحلوا دماءهم لهم، يقتلون فريقاً ويجرحون آخر، وما إذا كان لهؤلاء المفتين الافتراضيين سابق علم أو تزكية من علماء معتبرين أو إجازة بالإفتاء من أي معهد علمي أو ما إلى ذلك ولو في الأمور البسيطة فضلاً عن النوازل ودماء المسلمين المحرمة التي تنهد لوقعها الجبال الرواسي ويفرق منها العلماء الورعون ويجمع لها أهل بدر أو من يؤدي تلك المهمة في العصور المتأخرة)... لا ينبغي لنا أن نعترض ولو لم تحقق هذه الأفعال أي هدف سياسي مفهوم اللهم إلا إن كان في خانة العدو لا في خانة المسلمين.

لنبتعد قليلاً إلى تقرير التوقعات الاقتصادية لسنة 2008 الصادر عن البنك العالمي، والذي يظهر فيه أن الدول الناشئة مثل الجزائر والصين والهند وإيران لها دور حاسم في إنقاذ اقتصاديات الدول العظمى وخاصة الاقتصاد الأمريكي من الأزمات المالية التي تتخبط فيها، مثل أزمة الرهون العقارية التي تعصف بالاقتصاد الأمريكي خلال الأشهر الأخيرة، في التقرير المذكور يتحدث واضعوه عن أن الاقتصاد العالمي سينمو من خلال هذه الدول بنسبة تصل إلى 3,9% وهي نسبة كبيرة نسبياً بعد ضخها مبالغ هائلة في الأسواق المحلية والعالمية، والتقرير أشار إلى احتياطات الصرف الجزائرية بلغت نحو110 مليار دولار،وهو ما سيسمح بتخفيف الضغط على الخزينة الأمريكية، وعزز ذلك ما أوضحه هان ستيمر الخبير في البنك العالمي من أن زيادة واردات الدول الناشئة مثل الجزائر، سيقوي النمو العالمي ما سيمكن الشركات الأمريكية المصدرة من رفع إمكاناتها المالية، وبالتالي سيسهم ذلك في تقليص الأزمة المالية الراهنة التي خلفتها أزمة الرهون العقارية في الولايات المتحدة الأمريكية.

وحيث النفط، تتفجر عمليات تذهب بأقدام الولايات المتحدة الأمريكية خطوات للأمام في سبيل الهيمنة على دول محسوبة "استعمارياً" على دول أخرى كفرنسا التي بدأت تفقد حظوتها منذ أن بدأ تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي "جهاده" بقتل "جنود الطواغيت" دون رؤوسهم بالقطع، ومن النجاحات البارزة لهذا التنظيم الذي يقوده المدعو درودكال أنه قد جلب مكتب تابع لأجهزة الأمن الأمريكية إلى جزائر المليون شهيد وفقاً لما كشفه روبرت موليير مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية F.B.I في الجزائر لمواجهة "تهديدات تنظيم القاعدة في منطقة المغرب العربي" على حد قوله لبعض الصحف الجزائرية المحلية التي بالغ لها بشدة في "خطر" تنظيم القاعدة الذي لم يمس حتى الآن سوى مسلمين لا يُعتقد على أي صعيد أن الولايات المتحدة الأمريكية حريصة على دمائهم. (الطريف أن درودكال أجرى حواراً مطولاً مع صحيفة أمريكية لا يعلم على وجه الدقة كيف تمكنت من الحديث إليه في ظل إحكام من الدولة الجزائرية قبضتها على الطرق المؤدية للجبال المشتبه بتواجد أغلب أفراد التنظيم فيها).

سبتمبر القادم هو موعد مزمع لنقل قيادة أفريكوم من مدينة شتوتجارت الألمانية إلى إحدى الدول الإفريقية، والعلميات سبقتها على كل حال، ربما لأن "المجاهدين" يرون أنها فرصتهم "لإلحاق الهزيمة بالولايات المتحدة" بعد "استدراجها" هناك، لكن نقل القيادة إلى بلد كالجزائر وإزاحة فرنسا من طريق الولايات المتحدة ضمن استراتيجية تستهدف بالأساس الدول النفطية في الشمال والغرب الإفريقي الذي يوفر الآن 25% من النفط للولايات المتحدة الأمريكية، وإعلان وزير الدفاع الأمريكي روبرت جيتس بأن الرئيس الأمريكي قد اعتمد قراراً بإنشاء قيادة عسكرية جديدة أمريكية للقارة الإفريقية، تختلف عن مثيلاتها في كونها تعتمد على قوة صغيرة فقط لا تزيد عن 1000 عنصر لممارسة ضغط لا لمكافحة "إرهاب"، لأنها في الحقيقة لا تراه مهدداً لمصالحها وإنما مبرراً لوجودها، وهو بدوره ما أثار حفيظة ونقمة مراكز صنع القرار الأوروبية من تنامي العلاقات بين الدول النفطية الإفريقية لاسيما الجزائر ونيجيريا على خلفية مكافحة الإرهاب، وتعتمد السياسة الأمريكية أسلوب التضخيم لقدرات القاعدة لتنفيذ أجندتها مثلما فعلت في العراق.

لكن إذا ما عدنا بعيداً عن السياسة واختلاف وجهات النظر حولها برغم القناعة المتزايدة مع مرور الأيام بأن الولايات المتحدة تستخدم سياسة هؤلاء الرعناء كحصن طروادة في المنطقة العربية والإسلامية، لتنمية النفوذ الأمريكي أكثر وأكثر بين بلدان العالم الإسلامي، إلا أن الأهم من ذلك هو العودة للأفكار التي تقود إلى جرائم كهذه، محاولة تبريرها وإيجاد أرضية شرعية لها.

أنصار تنظيم القاعدة عموماً سيقولون إن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي ليس هو الجماعة الإسلامية المسلحة التي أصدرت في زمان عنتر الزوابري الذي تولى الإمارة فيها بعدما قدم إلى الجبال وفي يده قنينة خمر ـ بحسب رواية علي بن حجر القيادي العسكري السابق في الإنقاذ ـ فتواه الشهيرة "الأوامر الأسمى في إزالة المنكرات العظمى" والتي حكم فيها بالردة والقتل على كل من رفض الانضمام إلى الجماعة الإسلامية المسلحة، وبيانه "صد اللئام عن حوزة الإسلام" والذي جاء فيه "إن كفر هذا الشعب المنافق الذي أعرض عن نصرة المجاهدين وموالاتهم, وردته لن تثني عزمنا.. إن ما نقوم به من قتل وتقتيل وذبح وتشريد وحرق وسبي... هو قُربات عند الله" [نشرة الجماعة في لندن التي نشرت البيان، نقلها عنها كميل الطويل/الحركة الإسلامية المسلحة في الجزائر صـ283]، هذا صحيح؛ فليست القاعدة هي الجماعة لكنها لا تعدو أن تكون وريثتها، وإن دان بعض قادتها يوما بالولاء لتلك الأخيرة؛ فلسان الحال أبلغ من لسان المقال، إذ إن الجماعة الإسلامية المسلحة قبل أن تنهار تماماً كان على حسان الحطاب  ـ القيادي في الجماعة المسلحة ووفقاً لدوره ـ الذي شارك بنفسه في جرائمها أن يعيد لملمتها وإخراجها في "ثوب نظيف" وفقاً لأجندة لم تعد تخفى على كل من يتابع الشأن الفكري لجماعات العنف الجزائرية، وعندما انحاز بمجموعة منها محاولاً غسل ثوب شارك بنفسه في تدنيسه؛ حيث شارك حسان حطاب في الجرائم ولو بشكل مباشر حين كان يرأس ثلاث كتائب في الجماعة هي (الأنصار والقدس والفتح) في العام 1995 قبل أن يصبح أميراً على المنطقة الثانية بالوسط الجزائري، ثم ينحاز بسلفيي الجماعة مكوناً الجماعة السلفية للدعوة والقتال في العام 98، التي تحولت بعدما لفظته وكفرته بسبب رغبته في الانضمام لاتفاق الوئام المعلن من قبل الرئيس الجزائري إلى "تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي".

حسان حطاب في نظر درودكال زعيم قاعدة المغرب الإسلامي بأنه " حسن حطاب عميل للاستخبارات الجزائرية ويتكلم بلسانها"، ومثل ذلك قاله العقيد المنشق سمراوي في حوار لصوت الجزائر: " أسأل كيف يتمكن شخص مثل حسن حطاب من البقاء على قيد الحياة منذ 1994 ومكانه معلوم ومحدد, في بلد كالجزائر بجيشها المعروف ومخابراتها المعروفة بإمكاناتها وعملائها الكثر؟! هذا أمر مستحيل.."، لكن حطاب يرد على درودكال (أبو مصعب عبد الودود) بالقول "سمات هذه الشرذمة الكذب، وإصدار الفتاوى الباطلة، وتسفيه العلماء" [الشرق الأوسط 31/5/2005]، والمسألة لا تعدو أن تكون متعلقة بدمى يجرى تحريكها بمهارة ولحسابات دولية ومحلية حيث يمثل هذا "الزعيم" أو ذاك سلعة للاستخدام مرة واحدة، ثم يلقى بها في النهاية.

نحن إذن إزاء جماعة بدأت بشكل "نضالي" في نظر أصحابها لكنها سرعان ما تحولت لأداة في يد الاستخبارات التي لم تجد في استخدامها غضاضة، لاسيما وتلك الجماعة ترعرعت في بيئة تكفيرية شديدة الخصومة مع الشعب الجزائري، تسمح بأي اختراق أو توجيه، لأنها بالأساس تتماهى مع مطامح الاحتلال وحزب فرنسا في النتيجة التي يصل إليها الطرفان، "يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان" _كما قال صلى الله عليه وسلم_.

 ثم خرجت من هذه الطائفة فرقة ـ تدعى الجماعة السلفية للدعوة والقتال بزعامة حطاب ـ بعد أن شبعت من الدم المسلم لتتحدث عن "سلفيتها" وتحريمها لدماء الجزائريين، وتحديداً بعد 7 سنوات من تكون جماعة الخوارج (الجماعة الإسلامية)، ثم سرعان ما بدأت تعود إلى سيرتها الأولى، ومع ذلك ظلت في مبدأ الحالتين الأولى والأخيرة تحت مظلة من الزعامات الإقصائية التي رأت فيها تجسيداً لنظرتها الدونية لمجتمعاتها المسلمة..

قتل 200 وإصابة 449 مسلماً في الأصل (وهم على الإسلام ابتداءً وعلى البراءة الأصلية التي لم يرد في غيرها دليل، ولم يُرَ منهم كفر بواح عليه من الله برهان)، في عقيدة من قتلوا وسفكوا الدماء حلال، والذين قُتلوا ـ في اعتقادهم ـ كفاراً تحل رقابهم لأنهم من "جند الطواغيت"، ولكن هؤلاء لا يتوقفون كثيراً عند معنى "الطاغوت" كما بينه علماء التفسير عن معنى الكلمة في القرآن، الذي هو ـ من بين سماته ـ أنه مطاع في تحليل الحرام وتحريم الحلال، لكن أليسوا يفعلون الشيء نفسه إن أطاعوا امرأ في قتل مسلم دون برهان؟!!

لن نكون نحن وهم سواء في التشنج، وفي فهم النصوص بعقول أغرار وبسطاء وحدثاء أسنان، وفي فهم وتفسير القرآن وفق آراء غير المختصين والعلماء، ولن نشاطرهم مهنة التكفير واستحلال الدماء، ولن نسمح لأنفسنا لأن نشابه البروتستانت في إطراح آراء العلماء الربانيين المعتبرين والأثبات من الراسخين، ولن ندع أهواءنا تحكم النصوص، ولن نسارع في معالجة التكفير بنظيره، وإنما المقصود هو السماح لعقولنا بالسباحة في بحر الأفكار، وتفسير ما نراه من مشاهد.

لقد قال أحد الضباط المنشقين عن الاستخبارات الجزائرية في موقع "حركة الضباط الأحرار ـ الجيش الوطني الشعبي" أن "أمير الجماعة الإسلامية كان هو نفسه العقيد إسماعيل لعماري" رئيس مصلحة مكافحة التجسس (مدير الأمن الداخلي)!!، وقال آخر إن جهاز الأمن الداخلي هو من هيأ الجبال لاستقبال "المجاهدين" لإحداث فوضى إرهابية في أعقاب إلغاء نتائج الانتخابات البرلمانية التي فازت فيها الإنقاذ ليكون مبرراً قوياً لفرض حالة الطوارئ والزجر بعشرات آلاف "الإسلاميين المعتدلين" في محتشدات الصحراء الجزائرية. ولن نجادل كثيراً في مدى مطابقة للحقيقة إذ كانت الشواهد أبلغ من أي برهان على أن هذا هو ما قد حدث بالفعل..

فإسماعيل لعماري والعربي بلخير وخالد نزار ومحمد لعماري وغيرهم من جنرالات فرنسا الذين يعشقون الحال الاستئصالي لقطاعات "الإسلاميين" في المدن دون الجبال، لم يكونوا أبداً "ضحايا" لضربات مسلحي الجبال، ولم يمسهم أي سوء في أي مرحلة من المراحل، وإنما جرت المحاولات متكررة لتستهدف كل من حاول أن يتخذ موقفاً أقل حدة من رجالات فرنسا، ومن هؤلاء كان رئيس الوزراء المقال عبد العزيز بلخادم الذي كان يعد شخصية توافقية محل احترام من القوى الإسلامية والقومية والوطنية، وكذلك الرئيس القومي بوتفليقة نفسه، صاحب مشروع الوئام الوطني، حيث جرت أكثر من محاولة لاغتيالهم.

الأمر ذاته يتكرر في أكثر من بلد عربي وإسلامي؛ فالذين يريدون "إمارة إسلامية" في فلسطين اختاروا غزة دون الضفة للتبشير بجهاد المقاهي وغيرها، والذين "يجاهدون السياح" في اليمن، يحقنون دماء الحوثيين الذين يمثلون حصان طروادة الإيراني في اليمن، والذين فجروا في السعودية تركوا النظام النصيري والصفوي بلدين مجاورين يتمتعان بالأمن.. إلخ.

لكن ما الذي ترنو إليه تفجيرات الجزائر الأخيرة وأي تجربة "ناجحة" أرادت أن تتمثل خطاها، هذا إذا افترضنا "النية البريئة" في قتل الأنفس البريئة لأصحابها دون غيرهم؟!

إن افتراض وجود هدف سياسي يرنو إليه المفجرون ربما كان محض توهم، على صعيد البحث عن فائدة تتحقق للأمة الإسلامية بعد أن نجح المفجرون في وقف كثير من أوجه العمل الخيري والإصلاحي أينما حلوا، وفي عالم السياسة؛ فإن تفجيرات الدرك والمارة والبسطاء لن تحقق هدفاً سياسياً سوى تشويه صورة الإسلام، وهذا هدف سياسي من الممكن أن يسعى إليه غير المسلمين، وهذا مفهوم منهم ومبرر، لكن كمسلم يقدم على تفجير نفسه محال أن يكون هذا هدفه، بغض النظر عن نية من يحركه من خلف الستار، وهو إن أقدم فلاعتقاد ما، وهذا الاعتقاد يقود إلى تحقيق هدف سياسي يظلل أي عمل عسكري، وهذا هو المفهوم من بديهيات الحرب والنزال.. لنجرب من جديد البحث عن هدف:

 

[]      خلخلة الحكم؟ غير واردة.

[]      جلب الاحتلال بدعوى استدراجه وانهاكه؟ تفضي في النهاية إلى تثبيت أركانه وإعطائه دفقة من الدم في اقتصاده المتهاوي ومزيد من الدماء المسلمة تسفك في الحروب والقصف كما حدث في أفغانستان وغيرها.

[]      إيصال رسالة للجميع بـ"أننا هنا"؟ ليست كافية لسفك هذه الدماء ولا هي مفضية إلا إلى مزيد من الضغوط والإملاءات على الحكام.

[]      لكي لا تنعم أمريكا بالأمن حتى نعيشه واقعاً في فلسطين؟ تعيش الولايات المتحدة في أمان واطمئنان بالغ منذ سبع سنوات، والعراق وأفغانستان والصومال لا ينعمون به.. وبالطبع فلسطين.

[]      للضغط على الحكام لتلبية مطالب المقيمين في المغارات والجبال؟ لم تنجح أي وسيلة ضاغطة لتلبية أي هدف سياسي ولو كان مجرد طلب الإفراج عن سجين.

[]      لدفع الحكام لإحلال المعتدلين في النخبة مقابل متطرفي الثقافة التغريبية والعلمانية؟ لا، بل دفعت إلى المزيد من النشاط لليساريين و"الحداثيين" ومن على شاكلتهم.

[]      لتهيئة المناخ للعمل الإسلامي المعتدل؟ بالعكس، تناقلت الدول من بعضها وسائل تحقيق سياسة "تجفيف منابع الإرهاب" لجعلها تكأة لفرملة أنشطة الإصلاحيين عموماً.

[]      تجنيد مزيد من الأنصار باسم "الغزوات"؟ نعم في الحقيقة هذا قد يحدث، لكن آخرين يزدادون انزعاجاً وتردداً في تأييد قادة يسمحون بارتكاب مثل هذه الجرائم.

 

ومن حقنا أن نسأل عن جدوى عمليات بالي الإندونيسية وجربة التونسية والدار البيضاء المغربية وهل أفضت إلى انحسار السياحة من هناك؟! وهل أدت عمليات قتل السياح في العالم العربي لاسيما مصر واليمن إلى تحقيق أي هدف سياسي أو أخلاقي؟ وهل أثرت التفجيرات النفطية في السعودية والجزائر على السوق النفطي في العالم؟ أو فرضت أجندة اقتصادية معينة على هذه الدول أو أفضت إلى تغيير في سياستها؟ وهل أفضى إعلان "الدولة الإسلامية في العراق" إلى وحدة الصف الإسلامي هناك وإلى ترشيد المقاومة، وهل زاد أنصار المقاومة في العراق تبعاً لذلك؟ وهل جسدت "الدولة" هناك أنموذجاً مشرفاً التفت العراقيون حوله وأحبوه، وهل عززت 11 سبتمبر قوة حكم طالبان، وهل أقامت تفجيرات الدرك في الجزائر والأبرياء "دولة الإسلام"، وهل حصدت تفجيرات مدريد ولندن شيئاً للإسلام يفخر المسلمون به؟!! وما المقابل لفاتورة ذات ثمن دعوي وإنمائي وخيري باهظ تراجع المسلمون فيه خطوات للوراء؟!

 

في الأخير، قد لا يكون من المستحيل على الأتباع والمقلدين أن ينتزعوا الآيات والأحاديث من سياقها الذي أنزلت فيها، ويجتزئوا من آراء العلماء السابقين ما يتصورون أنه يمنحهم الغطاء الشرعي لسفك الدم المسلم.. لكن من المهم أن نذكّرهم أن علماء العالم الآن ليسوا في صفهم، وأن قادتهم  ممن يعلنون أسماءهم أو يجَهّلونها لم يجزهم أحد من العلماء في الإفتاء في أحكام الفقه المختلف حولها فضلاً عن الدماء والأرواح.

 

من المهم في النهاية أن نبعث مع قدوم الشهر الفضيل تحية إكبار واعتزاز لأصحاب القامات العليا من المقاومة الشريفة في فلسطين والعراق وكشمير وأفغانستان والصومال والفلبين والأحواز وبلوشستان "الإيرانيتين"، من أولئك الذين مارسوا جهاداً نظيفاً تفخر به الأمة ولا يلثم وجهها بقتل أبرياء سواء أكانوا من أهلها أم من سواهم، هؤلاء الذي رفعوا الهامات وأذلوا الاحتلال "الإسرائيلي" والأمريكي والهندوسي والغربي والإثيوبي والفلبيني والإيراني، وأثبتوا أن الأمة لم تعدم من يدافع عنها وينصر الضعفاء فيها بما هو مشروع في دينها وقيمها وسلوكها..

وأن ننصح أصحاب "الأسلحة الفاسدة" أن يصلحوها أو يغمدوها إن فشلت إلا في قتل إخوانهم في بلاد الإسلام ودياره، وأن ينصتوا قليلاً لأهل الديانة من العلماء الربانيين؛ فليس كل مخالف لهم متواطئ وذليل وعابد للسلطة، ولا كل حكيم خانع، ولا كل ساكت طامع..