هناك مقولة تتحدث عن واقع البوسنة بيد أنها تشمل مستقبل منطقة البلقان بأسرها، وهي أن "لا دولة بوسنية بدون البوشناق ولا بوشناق بدون الإسلام" فمنذ أكثر من 5 قرون اقترن بقاء المسلمين كوجود ثقافي وبقاء شعوبه كوجود بيولوجي بمدى حرصهم على هويتهم الإسلامية وتمثلهم لمبادئ دينهم عقيدة وممارسة.وهذا يشمل البوشناق والألبان الأرناؤوط، بل حتى المسلمين من الصرب والكروات الذين اعتبروا منشقين فانحازوا للكتلة الإسلامية ليس دينيا فقط، بل قوميا بالتبني، إن صح التعبير. وبالمقابل فشلت كل محاولات تجريد المسلمين من هويتهم الاثنية والدينية، ففي البوسنة وصربيا وكرواتيا وسلوفينيا والجبل الأسود والسنجق تم التركيز على الهوية الدينية للبوشناق، فيما تم التركيز على الهوية القومية للألبان لوضع اسفين بين الفريقين، والضرب على وتر الانتماء الديني لغمط الحقوق الاثنية، ومحاولة ضرب الهوية الإسلامية من خلال التركيز على الجاانب الاثني. ومن المفارقات أن الذين أعترف بهويتهم الدينية (البوشناق) حققوا استقلالهم قبل 16 عاما من الذين عرفوا بهويتهم القومية دون الدينية (الألبان) فالبوشناق حققو الاستقلال في البوسنة عام 1992 م بينما لم يحقق الألبان في كوسوفو الاستقلال سوى في 2008 م.
مقومات الهوية:
ويعد الفن الإسلامي جزءا مهما من الهوية الثقافية للمسلمين، لاسيما الموجودين في أطراف العالم الإسلامي، أو الذين يعيشون في ظل الحصار الديمغرافي والثقافي والسياسي والاقتصادي كمسلمي البلقان، فقد توارثت الأجيال مهمة الحفاظ على التراث وعلى الفن الإسلامي، والذي يتخذ اليوم منحى أكاديميا على يد أجيال حريصة كل الحرص على حمل المشعل وتوارثه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
كانت (البداية) على يد الدكتور كاظم حجي ميليتش الذي يعمل أستاذا بأكأديمية الفنون ومحاضرا بكلية الفلسفة بسراييفو والذي تلقى فن كتابة الخط العربي على يد أسرته ثم طوره عبر إضافات كثيرة.وقال في لقاء مع "المسلم": "أسرتي توارثت هذا الفن، وكان الكثير منهم محترفين، واعتبر وراثتي لهذا الكنز وراثة جينية وليس مهنية فقط، فقد ولدت شغوفا بفن كتابة الخط العربي، وذلك له علاقة بالتربية الإسلامية والثقافة الإسلامية فالحب لا يولد من فراغ". وتابع "جدي كان خطاطا وكذلك أبي وأعمامي" ويضيف مازحا "هكذا تجدني ولدت وفي فمي ريشة " وعن الأعمال التي تشغله حاليا أفاد بأنه يعكف، إلى جانب أعمال أخرى، على ترميم إرثه الفني الأسري من اللوحات " جدي الشيخ الحافظ نذير كان خطاطا ماهرا وأنا أعمل على إعادة ترميم أعماله "وقد تعمقت معرفة الدكتور كاظم حجي ميليتش بفنون الخط العربي وبفنون أخرى مزجها مع بعضها بعد انتقاله إلى تركيا وحصوله على درجة الدكتوراة في الفن الإسلامي، ثم تدريسه لهذه المادة طيلة 10 سنوات في دولة الخلافة العثمانية، ليعود بعدها للبوسنة من أجل بناء جيل يحمل المشعل، وليس مجرد أسر تتوارث العمل في هذا المجال. ويشير الدكتور كاظم حجي ميليتش إلى ذلك بالقول: " هذه أول مرة يوجد فيها طلبة في كاديمية الفنون يدرسون هذه المعرفة في سراييفو والبوسنة والبلقان، وإلى جانب فن الخط العربي يتعلم الطلبة فن ترميم الكتب والمخطوطات، أما في كلية الفلسفة فألقي محاضرات في تاريخ الفن الإسلامي والمعمار " ويؤكد الدكتور حجي ميليتش على أن "الثقافة الإسلامية راسخة وهي إرث إنساني واجب على المدنية المعاصرة صونه والمحافظة عليه والاعتراف بجماليته وفضله " ويتابع " منذ 150 سنة كانت الثقافة الإسلامية مبعدة ولاسيما الفن الإسلامي بل كل ما يشم فيه رائحة الإسلام، وفي الميادين الأكاديمية يتم تدمير كل ذلك بتعصب شديد وتغيب المقاييس الأكاديمية عند الحديث عن كل ما هو إسلامي، ولكن تلك الروح ظلت في إنسان هذه المنطقة المسلمة وفي قلبه ووجدانه وعقله وهي تعود تدريجيا لتتبوأ مركزها الطبيعي شعبيا وأكاديميا من جديد".
ترميم الذاكرة:
ويحرص الدكتور كاظم حجي ميليتش على بيان أن عملية ترميم اللوحات والكتب جزء هام من ترميم الذاكرة الفنية والثقافية للمسلمين وتاريخ الفن الإسلامي، فالجذور مهمة في أي عمل ثقافي مؤسسي. ويؤكد على أنه يولي ذلك اهتماما كبيرا، ولا سيما مجالات ترميم اللوحات والكتب القديمة، وبعضها مذهبة، أي لها حواف من ذهب وعناوين مذهبة أو زخارف أو ما إلى ذلك، وهو جزء من الفن الإسلامي وتاريخه، فبعد ترميم الكتاب يتم تغليفه وتجليده ليبدو جديدا، لكن آثار الترميم والتجديد تظل بادية للعيان. ومن بين الكتب التي وجدناها قد حظيت بعناية الباحث المبدع، كتاب عن منطقة، ستولاتس، بالجنوب البوسني يحصي عديد السكان والمنازل بل عديد الحيوانات بما في ذلك عديد الداوجن. وسبب العناية بكتاب قديم وإحصائيات قديمة قال " نريد أن نبرهن بأن فن الإحصاء وبدقة غير مسبوقة عرفها المسلمون قبل غيرهم، كما تفيد الباحث في معرفة طبيعة الحياة بأشكالها المختلفة في مرحلة مهمة من تاريخنا ".
ولا يكتفي الدكتور حجي ميليتش بترميم الكتب واللوحات بل يضيف عليها " الابرو "وهو نوع من الزخارف التي تضفي أشكالا جمالية إضافية على اللوحة. وأشار الباحث إلى إن لديه الكثير من الكتب واللوحات التي تحتاج لترميم وإضافات من " الابرو " بما فيها تلك اللوحات التي تحتوي على زخارف ذهبية. إلى جانب ذلك يهتم الباحث بعملية ترميم الكتب التي أحرقت أو اتلفت أثناء العدوان على البوسنة 1992 / 1995. ويتعاون في ذلك مع مكتبة الغازي خسرف بك بسراييفو التي لديها آلاف المخطوطات والكتب.
وحول مشاركته في التظاهرات الثقافية الدولية كالمعارض الثقافية قال " زرت الرياض والكويت ودبي والشارقة وباكستان إلى جانب إقامتي للدراسة والعمل في تركيا وكان انطباعي جيدا ففي البلاد العربية هناك تطور وكثير من الأعمال في مجال الخط العربي وهناك الكثير من الخبراء في ميدان الترميم والخط العربي ومن ذلك الخطاط الشهير أحمد شلبي فهو من أحسن الخطاطين ". وعما إذا كان شارك في معارض للخط العربي أفاد بأنه كان له معرض يتكون من 80 لوحة. "وسيكون لدي معرض في فرنسا قريبا، كما سألقي محاضرات عن الفن الإسلامي هناك.ولدي متحف خاص على بعد 50 كيلومترا من سراييفو ويضم مجموعة من التراث الإسلامي وهي أكبر وأفضل مجموعة في البوسنة ". وعن أكبر مشروع شارك فيه قال إنه "مشروع روايال في تركيا والذي تناول تاريخ التراث والفن الإسلامي في تركيا على مدى ألف عام " كما يعمل على تحقيق" 30 مشروع ترميم قيمتها بملايين اليوروهات منها كتاب مؤمن عليه ب 7 ملايين دولار ". وقال إن لديه "مشروع كتاب للطلبة في الخط العربي مهم جدا للطلبة والباحثين وكل شخص يرغب في معرفة خصائص وسمات وتاريخ الخط العربي، وأنا على وشك الانتهاء منه ". كما سيكون هناك " كتاب عن فن الكتاب باللغتين البوسنية والانجليزية والعربية وسيكون أول كتاب من هذا الطراز في العالم " وعن أمنيات حياته قال: " لا بد أن أعمل كتالوج للمتحف وأمنية حياتي إقامة معهد للفن الإسلامي وهذا أكبر أمنية لكي أموت وأنا مرتاح البال ".
تحديات في الواجهة:
وتواجه عودة الفن الإسلامي لأكاديمية الفنون العديد من التحديات، التي تبطئ عملية احياء الفن الإسلامي في منطقة البلقان، وبتعبير أدق انتشاره بكثرة وإشعاعه، ومن ذلك مشكلة ترويج الأعمال واللوحات التي يتم انجازها.إلى جانب ذلك عدم توفر المواد المطلوبة لانجاز بعض الأعمال، وهي تحتاج لجلبها من تركيا والتي تستخدم في فن "الابرو".وحول ذلك يقول الدكتور حجي ميليتش "لدينا مشاكل تتمثل في الصعوبات التي تعترضنا بخصوص المواد الأولية التي نحتاجها للعمل، لاسيما وأن الشباب الذي أقبل على تعلم هذا الفن في حاجة لمن يرفع معنوياته، ويجب أن يتلقى المساعدة المطلوبة لاسيما وأن لدينا أول طالبة تأخذ درجة الماجستير، وهذا يحدث لأول مرة في أوربا ".ويضيف "لدينا طلبة موهوبين وعلماء موهوبين وكان دائما لدينا طلبة يريدون العمل وتحقيق أشياء كثيرة ويجب توفير الدعم اللازم لهم، ماديا ومعنويا، وكما قلت نحمد الله على أن لدينا علماء في شتى المجالات ".
مشاعل الغد:
وقد كان " للمسلم " لقاءات مع بعض طلبة أكاديمية الفنون وهم وليد خوجيتش (23 عاما) وألن غلوشاتش، (22 عاما) وألفيس حيداروفيتش (22 عاما) الذين تحدثوا عن دوافع إقبالهم على تعلم فن الخط العربي وتطلعاتهم وكيف ينظرون للمستقبل وكان في كلياتها دوافع إسلامية. يقول وليد " لما كان ما مضى من عمري 15 عاما كنت مهتم بهذا الفن، وقد زاد حبي له من مطالعتي للكتب الإسلامية، وقد حفظت الكثير من سور القرآن في هذه السن "وقد سجل وليد في معهد الفنون ليصبح طالبا بعد ذلك في أكاديمية الفنون، ويرنو للاحتراف في مجال الفن الإسلامي.
وقال ألفيس: إنه اختار أكاديمية الفنون ودراسة الخط العربي لأنه مسلم "أولا لأني مسلم وثانيا لأني أحب الفن الإسلامي وتحديدا الخط العربي، وكانت لدي رغبة في أن أواصل في قسم الرسم بأكاديمية الفنون والتعرف على فروع الفن الإسلامي، مثل الرسم على الماء أو(الابرو) وهو جزء من الفن الإسلامي الحديث وغايتي هي الجمع بين الرسم الحديث وفن الخط العربي، وأرغب في الحصول البكالوريوس في هذ المجال " وقال ألن إنه اختار " جمال الخط العربي يجذب كل فنان، فمن كل حرف يمكن تركيب أشكال مختلفة " ويتابع " وفي نفس الوقت يضيف فن، الابرو، بعدا جماليا على الحرف العربي ومن أجل إتقان الفنين دخلت أكاديمية الفنون " ويعتقد بأن المزج بين الخط العربي وفن الابرو، يحقق أشكالا أكمل من الجمالية " والابرو مادة خاصة من عشب البحر تخلط بالماء لمدة يومين ثم يصب في أحواض، ومن ثم يستخدم في الرسم وزينة اللوحات المعدة للرسم أو الكتابة، ويبلغ سعر ميئتي غرام من العشب البحري المذكور نحو 30 يورو. وقال وليد إنهم يقومون بجمع الأموال وتسليمها لشخص لشراء العشب المذكور من تركيا. ويؤكد الطلبة الثلاثة على أن فكرة مزج الخط العربي مع الابرو تختلف عن الفن الغربي. وقال ألن " فن الكتابة بالخط العربي تجسيم لحب الله، ووظيفة الابرو تجميل الحرف فيكون جمالا على جمال ونور على نور " ويتابع " طريقة المزج بين الابرو والخط العربي تمثل علاجا نفسيا أو راحة نفسية فعندما تكتمل اللوحة أحس بالراحة والانشراح " ويؤكد " هذا النوع من الفن يزكي النفس ". وقال وليد " كل ما يشغلني الآن هو كيف يمكنني أن أخدم هذا الفن وأضيف له ما دام عندي الخبرة، لاسيما في مجال اللوحات التي يمكن أن تكون جزءا من الجدار وليس لوحة على الجدار " ويعتقد أن " هناك إضافات كثيرة لا تعد من الأشكال التقليدية للخط العربي ويمكن القول إنه خط عربي بطرق عصرية " واشتكى من قلة المواد " بسبب نقص المواد ليس لدينا أعمال كثيرة مما دفعنا لخوض غمار تجربة مواد مختلفة واكشفنا أمور كثيرة "ومن الاكتشافات التي تتم لاول مرة هو الرسم على الأرضيات الخشبية بما يضاهي الفسيفساء على الجداران، وهذا الفن له مستقبل بعد أن تم تجاوز طريقة التأثيث الأوروبية والاستغناء عن الفرش التي تغطي الأرضية والاقتصار على السجاد الصغير الذي يوضع تحت الطاولات وفي غرف الجلوس على مستوى الأقدام فقط، بينما تظل بقية الأرضية الخشبية عارية.
المستقبل في نظر الطلبة:
وعن المستقبل قال وليد: "أعتقد بأن الرزق من عند الله، ولكن علي البحث والاجتهاد للحصول عليه، وأود الذهاب إلى تركيا للحصول من هناك على الماجستير "وقال ألن " من الصعب جدا الحصول على عمل في البوسنة، فلم تعد مادة الرسم أساسية في المدارس ويجب أن تعمل في ثلاثة مدارس مختلفة للحصول على راتب واحد لان مادة الرسم لم تعد أسبوعية بل شهرية وكانت قبل الحرب ثلاث حصص في الأسبوع " وقال إنه سيواصل المزج بين الخط العربي والابرو في أعماله القادمة. أما ألفيس فقال متحدثا عن البوسنة " هذه أجمل بلاد في العالم، لكن الحقيقة هي أنه من الصعب إيجاد عمل ولاسيما في مجالنا، وإن شاء الله سأحاول البقاء في البوسنة والعمل في مجال الفن الإسلامي وأجعل بلادي وشعبي يستفيدان من خبرتي وأعمالي، أما لو قدر لي مغادرة البوسنة فإن ذلك سيكون لأعود إليها أكثرة قدرة وأصلب عريكة لأخدم ثقافتي وفني الإسلامي في هذه البقعة العزيزة من العالم".