الخداع في تمرير اتفاق الاحتلال الدائم للعراق
12 جمادى الثانية 1429
طلعت رميح

الفصل بين ما يعلن من تصريحات المسؤولين في الإعلام، وما يجري "حقيقة
من خلال إنفاذ الخطط على الأرض -وتحليل كل منهما مع وضع النتائج في مواجهة بعضها للمقارنة- وكذا فهم أن التصريحات الرسمية التي تنقل في الإعلام، ليست إلا أحد أدوات تمرير الخطط وإنفاذها، وفق آليات الخداع أو التضليل أو الإيهام أو الغموض الخ، كلها أسس ينبغي مراعاتها حين التعامل مع التحليلات السياسية والاستراتيجية، حتى يمكن الاقتراب على أكبر نحو من الدقة، من فهم ما يجري.
لكن تلك الأسس تصبح مسألة جوهرية لا يمكن بدونها الوصول إلى فهم دقيق في حالات الصراعات والأزمات وعمليات الاحتلال، إذ مثل تلك الأدوات يجري استخدامها على نحو كثيف وشديد التخطيط، في تلك الحالات، باعتبارها تجرى بشكل محدد ضمن إطار الخطط الأصلية الشاملة -في إدارة الصراعات والأزمات وعمليات الاحتلال-وتتقيد بها .
وقد كانت الحالة العراقية، خاصة ما جرى قبل الاحتلال، هي حقل التعلم الأبرز لكثير من الكتاب والمحللين والخبراء في منطقتنا؛ باعتبارها شهدت استخدامًا كثيفًا لتلك الأدوات، إذ كشفت المتابعة للتصريحات الرسمية الأمريكية خاصة والغربية عامة والتحليل لها –مع مقارنتها بما يجرى على الأرض من خطط لإنفاذ الأهداف - أن ما يعلن في الإعلام شيء، وما يجري على الأرض وفقًا لخطط وأهداف محددة شيء آخر. لكن ما يجري الآن من تصريحات ومناورات وألاعيب حول ما يسمى "بالاتفاقية الأمنية بين العراق والولايات المتحدة"، هو حالة أخرى من استخدام تلك الأدوات، وإن على نحو أشد خبثًا ودهاءً، بما يستدعي العودة للتمسك بنفس الأسس في المعالجة للتصريحات والتحركات السياسية والإعلامية، والنظر لها باعتبارها جانبًا من جوانب تنفيذ الخطط، وتحقيق الأهداف، لا باعتبارها توضيح للحقائق.
ففي رصد الجاري الآن في قضية التعاطي مع "الاتفاق الأمنى"،نلحظ كثرة من التحركات والتصريحات المستجدة .
الآن، يتحول الذين أيدوا الاحتلال ودعموه، وتحالفوا معه وفق آليات شديدة التعقيد، ليصبحوا معارضين للاتفاق بين حكومة الاحتلال، وقوات وسلطة الاحتلال، (هم "يسرقون" فكرة المعارضة للاتفاق على الاحتلال الأمريكي طويل الأجل للعراق)،حتى وصل الأمر في تلك الحالة المزيفة إن رأينا نوري المالكي ،يتحول إلى شخصية أخرى ،حيث قال: إن مفاوضات الاتفاق مع الولايات المتحدة قد وصلت إلى طريق مسدود . أما الولايات المتحدة وبناءًا على "تلك المعارضة"،فقد صار قادتها يطلقون تصريحات تظهر تخليهم عن ما اعترض عليه هؤلاء المعارضون "المزيفون". فما الذي يجرى وكيف يجرى ..وهل نحن أمام معارضة للاتفاق ..أم أمام مناورات خداعية لفتح الطريق أمام التوقيع على الاتفاقية، وفق حالة تبدو أنها نتاج لقدر من التنازلات المشتركة بين طرفين ندين متفاوضين ؟!.
اعتراضات إيران
في القاعدة العامة، فإن من يتحالف مع خصم استراتيجي ضد جار له، ويسهل احتلال أراضي هذا الجار، إنما هو يحاصر نفسه. وفي الحالة الإيرانية، ورغم أن إيران كسبت كثيرًا من احتلال الولايات المتحدة لكلاً من أفغانستان والعراق – بإطاحة نظم ودول تعارض مخططاتها – إلا أنها مع هذه المكاسب الإقليمية وجدت نفسها في نهاية المطاف في حالة المحاصر بالوجود الأمريكي في العراق وأفغانستان، إضافة إلى القواعد الأخرى في تركيا وجورجيا وغيرها.
هنا لا شك أن هذه الحالة لا تريح إيران، خاصة، وهي تسعى إلى دور إقليمي على حساب المصالح العربية والوجود الغربي. ولذا هي تحركت في العراق خلال المرحلة الأخيرة باتجاه خلق حالة صراعية مع عقد اتفاق الوجود الاستراتيجي العسكري والسياسي والاقتصادي بين الحكم الراهن في العراق والولايات المتحدة.
تحرك إبراهيم الجعفري – رئيس الوزراء تحت الاحتلال سابقًا – ليعلن تشكيل تيار جديد، منفصل عن حزب الدعوة، وليؤكد في بيان التأسيس على معارضة الاتفاق الأمني مع الولايات المتحدة.
وتحركات ميلشيات الصدر، التي قبلت قبلها بأيام دخول قوات الاحتلال الأمريكية لكافة المناطق التي تنتشر فيها، لتطلق المظاهرات معارضة للاتفاق الأمني، وليعلن الصدر عن تشكيل "مجموعات" هدفها مواجهة الاتفاق والاحتلال الأمريكي الدائم للعراق.
وحتى عبد العزيز الحكيم، الأخطر دورًا في مساندة الاحتلال ومحاربة المقاومة وبناء أجهزة الدولة والحكومة تحت الاحتلال، بدأ يعلن اعتراضًا على هذا الاتفاق!.
ثم كان إن تحدث المالكي بلغة "الطرف " في معادلة تفاوض مع الولايات المتحدة ،قائلاً: إن الاتفاق وصل إلى طريق مسدود ،وهو في ذلك اختار الأردن لإطلاق هذا التصريح ،الذي جرى "إعداده " خلال زيارته في اليوم السابق إلى طهران ،التي أعلنت رفضها للاتفاق .انقلبت الأوضاع، وتغيرت مواقف الذين دعموا الاحتلال وسيطروا على السلطة في العراق – تحت حمايته العسكرية والسياسية – إلى رافضين للاتفاق.
أمريكا وتقلباتها
وفي الطرف الآخر، كانت التصريحات التي أطلقها المسؤولون الأمريكيون ولفترة طويلة، هي حالة تستحق في حد ذاتها دراسة كاملة، في تواترها وتضاربها وتقدمها وتراجعها!.
إن بالإمكان القول بأن فكرة بناء قواعد أمريكية في العراق، كانت هي العمل الحقيقي الجاري في مجال الاستراتيجية الأمريكي منذ بدء الاحتلال، إذ ما أن جرت السيطرة على كل القواعد العسكرية للجيش العراقي، حتى بدأت عمليات تحويلها إلى قواعد عسكرية دائمة للوجود الأمريكي طويل الأمد في العراق. لم يجر تطوير القواعد العراقية لكي تصبح نقطة انطلاق في العمليات ضد المقاومة فقط، بل جرت عمليات توسيع وتحويل مستمر لها لتصبح قواعد دائمة.
لكن التصريحات الأمريكية مع ذلك، كانت دومًا تتحدث بلغتين، الأولى أن قوات الاحتلال ستبقى في العراق لسنين طويلة قادمة، وأن قوات الاحتلال ستنسحب من الشوارع إلى قواعد آمنة ثابتة فور الانتهاء من القضاء على المقاومة، وهو ما بنيت على أساسه "خطة تطبيق القانون" و"تحقيق الاستقرار" التي جرى إطلاقها من بغداد، عقب وصول الجنود الأمريكيين الجدد (30 ألف)، بناءً على قرار الرئيس الأمريكي "جورج بوش" بزيادة عدد القوات في العراق.كان القصد هو التحول إلى الاحتلال الدائم الذي يصبح فيه دور قوات الاحتلال هو الحفاظ على الاستقرار للحكم القائم ،أو وكأنها هي من يحافظ على الشرعية ضد الخارجين على القانون !.
والثانية، هي النفي لبناء قواعد عسكرية دائمة في هذا البلد؛ إذ أعلن (وزير الدفاع الأمريكي) روبرت جيتس أكثر من مرة، أنه لا نية لدى الجيش الأمريكي لبناء قواعد دائمة في العراق، و هي تصريحات كانت تتناقض دوما في التو واللحظة مع تصريحات أخرى تصدر عن الجنرالات الذين يقودون عملية الاحتلال على أرض العراق.
وقد استمرت التصريحات من النوع الأول والثاني، حتى بدأت تتسرب من داخل الدوائر العراقية والأمريكية، أنباء المفاوضات حول الاتفاق بدءا مما جرى في "لقاء الدائرة التلفزيونية الشهيرة بين بوش والمالكي"، حتى تصاعدت في الآونة الأخيرة، بما فسر على أنه "استعجال" من الولايات المتحدة لإنهاء عقد الاتفاق، ليكون بمثابة الدفعة القوية للمرشح الجمهوري "مكين" في الانتخابات الأمريكية؛ إذ يعول "بوش" والحزب الجمهوري على إظهار الاتفاق على أنه تتويج "للنصر" في العراق، وكذا لرؤية القيادة الأمريكية أن السلطة التي شكلها الاحتلال تتناقض بصفة مستمرة مشروعية وجودها –المزيفة-بين الشعب العراقي ،بعدما انتهت "العملية السياسية" إلى حالة صراعية حادة بين العملاء أنفسهم ،خاصة بعد التصفيات الجارية بين التيارات المالية لإيران والولايات المتحدة ،كما الإدارة الأمريكية الحالية تحاول قطع الطريق على الإدارة القادمة بشان قرار الانسحاب من العراق .
ما الاتفاق؟
لم يعرض الاتفاق على أية جهة عراقية تتمتع بالشفافية الوطنية التي تمكنها من كشف ما يجري الحوار حوله، وذلك ما يمكن من استخدام سلاح الغموض من أجل منع حدوث مقاومة حقيقية ومحددة للاتفاق. وفي ظل هذه الحالة فإن ما تسرب عن الاتفاق أو منه، إنما جرى بأيدي "خبيرة" تتحكم في ما يتسرب منه لتوجيه الأنظار نحو ما تريد، ولتشغل الرأي العام بهذا الجانب أو ذاك دون غيره ، وفي ذلك يبدو واضحًا أن الجهة التي تسرب تلك الأخبار عنه وتجعله في إطار من الغموض، هي ذات الجهة المتعاونة مع الاحتلال؛ بما يعني أننا أمام تحكم في مصدر المعلومات عن الاتفاق لتمكين تلك القوى وحدها من إدارة الأزمة وفق المعطيات التي تناسب مصالحها هي لا مصالح العراق.
والأصل في النظر والبحث في هذا الاتفاق، يجب أن يأتي أولاً من تلك التسمية المخادعة التي تطلق عليه: أي "الاتفاق الأمني"؛ إذ يبدو من تلك التسمية أننا أمام مجرد اتفاق بين الحكومة التي نصبها الاحتلال، وقوات الاحتلال على مجرد إجراءات أمنية تتعلق بتطورات الأوضاع على الأرض، أو بالأحرى بأن الاحتلال لم يعد راغبًا في الاستمرار "الشكل القديم" للاحتلال، وأنه بذلك يعطي لحكومة "العراق" مساحة أكبر من الاستقلال!.
لكن واقع الحال أننا أمام اتفاقية تشرع استمرار احتلال العراق وديمومة هذا الاحتلال، وتستهدف اعتراف "زمرة" متآمرة من الذين نصبهم الاحتلال، بضرورة بقاء العراق محتلاً. لسنا أمام اتفاق حول ترتيبات أمنية، بل نحن أمام اتفاق يمنع العراق من تحقيق استقلاله من تحت نير الاحتلال، ويحقق للاحتلال بقاءً شرعيًا في العراق، تسيطر من خلاله الولايات المتحدة على سيادة العراق وثرواته النفطية ونظامه السياسي وسياسته الخارجية، وفق صيغة قانونية مختلفة – إلى الأخطر – عن ما سبق إقراره من مجلس الأمن؛ حين اعتبرت الولايات المتحدة دولة محتلة للعراق. وبمعنى آخر، فنحن أمم "إنقاذ" الولايات المتحدة من مأزقها كقوة احتلال، وتحويلها إلى "دولة صديقة" للعراق تتواجد قواتها على أرضه وفق طلب العراق!.
وهنا، فنحن أمام "محو" المجرم لآثار جريمته بمساعدة شريكه في ارتكاب الجريمة ، وأمام إعادة تغيير الصورة التي عليها قوات الولايات المتحدة في العراق ، وهو ذات الاتجاه الذي تسير فيه الاستراتيجية الأمريكية التي جرى إعدادها للتعامل مع معتقل جوانتنامو؛ إذ هي تعيد رسم صورة معتقل التعذيب والقتل وانتهاك القانون، ليصبح في صورة "مركز وكان إنفاذ القانون"، من خلال إجرائها محاكمات للمعتقلين والأسرى هناك، وبذلك تختفي صورة السجناء المقيدين بالسلاسل والذين تمارس ضدهم أبشع وسائل التنكيل إجرامية ودموية، وتحل محلها صورة الذين تجري محاكمتهم أمام قضاة ووفقًا للقوانين!.
وإذا أردنا فهم، وربما أيضًا استنتاج بنود الاتفاق، ليس علينا إلا أن نستعيد أهداف الاحتلال، لنعرف ماذا يُراد من هذا الاتفاق. فالاحتلال لم يأت بسبب وجود أسلحة الدمار الشامل ولا لإحلال الديموقراطية ،وإنما من أجل السيطرة على العراق وقراره وتغيير اتجاهه العقائدي والحضاري ولاستنزاف ثروتها النفطية ،وإدخالها ضمن دورة الاقتصاد الأمريكى ،ولأجل ذلك يجرى الحصول على "اعتراف" عراقي بحق الولايات المتحدة في إقامة قواعد دائمة (قل أو زاد عددها)، وفي ذلك يجري الحديث حول شروط تلك القواعد وصلاحياتها وديمومتها، وأوضاع العسكريين الذين يقيمون فيها، وطرق تعامل السلطات العراقية المحلية معهم.. إلخ.وهذا تحديدا هو ما تسرب من الاتفاق ،الذي يأتي تتويجا لاتفاقات أخرى تمثل سياجًا حول القرار والثروة العراقية؛ إذ منذ تشكيل الحكومة العراقية تحت الاحتلال والاتفاقات توقع إنفاذًا لقرارات أصدرها الحاكم العسكري الأمريكي ثم المدني للعراق.
أي أننا أمام تحقيق أهداف الاحتلال وفق صيغة تحوله إلى حالة مستقرة .
تلميع المالكي
لا شك أن المالكي في وضع المضغوط بين كل الأطراف الفاعلة على الساحة العراقية، وفي ذلك يبدو مهمًا أن المالكي زار إيران، ثم ذهب بعدها إلى المملكة الأردنية الهاشمية، ليعلن من هناك أن الاتفاق المعروض أمريكيًا هو اتفاق مجحف. هو أراد أن يكون الرفض على أرض الأردن لا من طهران.لكن الأهم ،هو أن من يقول هذا إنما يستهدف من الأصل إحراز أهلية له في التوقيع على الاتفاق .
إن من يدرك الوقائع الأرض، خاصة وأن العمل جرى خلال المرحلة الأخيرة لمواجهة جانب من نفوذ إيران في العراق، ومن يدرك مغزى تصريحات الرئيس "بوش" بتضاؤل النفوذ الإيراني في العراق في المرحلة الأخيرة، وكذا من يفهم أن الاتفاق هو بين طرفين، وأن النجاح في عقده يستدعي أن يظهر الطرف المحتل على أنه طرف قوي، لكي يغطي عملية توقيع الاتفاق.. من يفهم ويدرك كل ذلك، يفهم لِم تحول المالكي من صورة الخادم المطيع إلى صورة المفاوض الرافض لبنود الاتفاق مع الولايات المتحدة.
والقصة هي أن الجميع يعلم أن "لا اتفاق بين حكومة عينها الاحتلال ويحرسها"، و"قوة الاحتلال"، وأن أي بنود يحويها الاتفاق هي انعكاس لموازين القوى بصفة عامة، فما بالنا بحكومة في خدمة الاحتلال.ولذلك كان لابد من إظهار المالكي بمظهر "الحريص على المصلحة العراقية " والرافض لجانب من جوانب الاتفاق .
وهنا فان ما قاله وزير الدفاع الأمريكي – حين تخوف من التمادي في إظهار صورة المالكي كمعارض للاتفاقية-من أن ما يصدر في التصريحات شيء ،وما يجرى في الغرف شيء آخر ،هو ما يوضح طبيعة ما يجرى ..بالدقة .