بين تعصب البدايات وقلق الراهن.. ملامح وعي الاستشراق الأمريكي بالحضارة العربية الإسلامية
6 جمادى الثانية 1429
هشام منور

ورث الاستشراق الأمريكي عن نظيره الأوروبي، المتقدم عليه زمنياً، معظم أدبياته وتراثه من تصورات ومفاهيم وأحكام إزاء الحضارة العربية الإسلامية وما عرف في تلك الأدبيات (بالشرق العربي الإسلامي). وفي ضوء التركيبة الإثنية والثقافية المشوشة التي غلبت على المهاجرين الأوائل إلى القارة الجديدة (أمريكا)، وعدم اتساق هوية جامعة لمكوناتها البشرية، كان لا بد لأولئك المهاجرين من استعارة ذواكرهم الثقافية وتراثهم الحضاري الأوروبي الطابع، بما يعنيه من تأثر واضح بتراث أوروبا القروسطي المفعم بثقافة الكراهية وعدم التواصل، ومن ثم كتابات عصر النهضة الأوروبية، لتشكل بمجموعها خزاناً معرفياً أولياً للآباء المستشرقين، بما يعنيه ذلك من تحمله رواسب العلاقات الأوروبية مع العالم الإسلامي عبر مئات السنين، وصعوبة تقدير تمايزه معرفياً ونفسياً عن جذوره الأوروبية بامتياز.
وكما في الجذر الاستشراقي الأوروبي، ارتكن نظيره الأمريكي إلى كتاب (ألف ليلة وليلة) بوصفها وثيقة تاريخية واجتماعية معبرة عن نمط الحياة العربية الإسلامية (المشرقية) بوجه عام. ويعدّ كتاب (واشنطن إرفنغ) المعدود من كبار الأدباء الأمريكيين، والمعنون (بالحمراء) أثراً من آثار اهتمام الكاتب بهذا الكتاب التأسيسي بالنسبة للاستشراق الغربي بوجه عام.
ورغم نشاط حركة الترجمة والاستيراد من أوروبا، ونجاحها في إثارة الاهتمام بمفردات الاستشراق وكتاباته، فإن ازدهار حركة التنقيب والكشف عن الآثار من قبل المجموعات الأمريكية المختصة في الشرق الأوسط قد أسهم في ارتفاع رصيد الشغف المعرفي لاكتناه الشرق العربي، والوقوف على أسرار الشرق وتقصي قصصه وتراثه والحصول على ثرواته الدفينة.
وفضلاً عن الأدباء والآثاريين والمبشرين الأمريكيين الذين عُنُوا بالشرق ومفرداته التاريخية الدفينة، كان لحركة التجارة والدبلوماسية الأمريكية دورا مهم في تعزيز النهم الاستشراقي الأمريكي تجاه الشرق وفضاءاته. فالدوافع المعرفية والروحية الدافئة بالنسبة للقارئ الأمريكي، المتدين بصورة واضحة، والتي وجهت خُطَا العلماء الأمريكيين للتزود بالمعرفة والروحانيات من الأرض المقدسة، كانت مسبوقة بالسفن التجارية والحربية الأمريكية بفعل ما يسمى أمريكياً (بحروب الساحل البربري) بين عامي 1785 و1815. والتي أدى إخفاقها إلى تفاوض حكومة الولايات المتحدة مع حكام الشمال الإفريقي لحماية السفن الأمريكية إذ لم تفلح تلك المعاهدات في وضع حد للاعتداءات عليها، الأمر الذي حدا بالولايات المتحدة لتشكيل قوة بحرية من ست سفن حربية للمرابطة في البحر الأبيض المتوسط، لا تزال تعرف بالأسطول السادس.
ويبدو افتراق الاستشراق الأمريكي عن نظيره الأوروبي من خلال تشكيله استشراقاً خيالياً روحي الطابع ومتبايناً في وظائفه الاستراتيجية. فقد نسج المفكرون الأمريكيون الأسطورة الأمريكية لشعبهم من خلال موضعة العالم العربي في بنائها الأساسي، وعبر رمزية (كريستوف كولومبوس) الذي يعدّ الرجل الأمريكي الأول، والمنطلق من إسبانيا ذات البعدين العربي والأوروبي، ورحلته إلى العالم الجديد، تبدو مقارنة رحلته المنطلقة من الأندلس نقطة التقاء الشرق القديم (العرب /الإسلام) بالغرب القديم (أوروبا/ المسيحية) لتحقيق مزاوجة بين نصفي العالم القديم على أرض أمريكا الوليد الجديد. وبهذه الرؤية الرمزية تمكن الاستشراق الأمريكي من تبرير أهمية العالم العربي ودوره في صياغة مستقبل الولايات المتحدة بوصفه أحد عناصر رؤيته الحالمة للمستقبل.
إلا أن بداية الاستشراق الأمريكي الرسمية تنطلق من خلال تأسيس (الجمعية الشرقية الأمريكية) عام 1842م، بهدف تنظيم أنشطة المهتمين بالعمل الاستشراقي في ضوء تزايد أعدادهم، والحاجة إلى تحريره من الرؤى الرومانسية والتخيلية المصطبغة بالتراث الأوروبي إلى حد بعيد. وعلى الرغم من انضمام أكاديميين مهمين إلى هذه الجمعية (أمثال فيلتون وسالزبري) فإن الكنسية بروحها التنصيرية ظلت مهيمنة على العمل الاستشراقي الأمريكي حتى بدايات القرن العشرين، والذي عرف منحنى أكاديمياً واضحاً أسهم في إنضاج الرؤى الاستشراقية الأمريكية على يد (وتني).
على الرغم من الوعي الاستشراقي الأمريكي المبكر بالحضارة العربية الإسلامية والشرق بوجه عام، فإن الأغراض والدوافع السياسية والاقتصادية والدينية كانت عاملاً محرضاً على هذا الإعجاب الأمريكي المبكر بحضارة الشرق وإنجازاته. وبينما سادت الاستشراق الأمريكي رؤى رومانسية حالمة في بداياته التاريخية، فإن النمط الأكاديمي المنهجي نجح في تثبيت أقدامه عند مطلع القرن العشرين، ورغم محاولات الاستشراق الأمريكي أن ينأى بنفسه عن المنظومة السياسية الأمريكية الرسمية ومطامعها التوسعية في الشرق، فإن ارتباط معظم رجالاته بالمؤسسات البحثية، سواء منها الرسمية الحكومية، وغير الرسمية الممولة من قبل جماعات الضغط(اللوبيات) المتعاطفة مع الكيان الصهيوني واليمين المحافظ، يسهم في رسم صورة نمطية للولايات المتحدة بجميع تمظهراتها العلمية والسياسية والاقتصادية في ذهن العرب والمسلمين اليوم، وهي صورة بات الاستشراق الأمريكي الأكثر "نزاهة"-نسبياً- من نظيره الأوروبي يعاني من وطأتها وآثارها.