مستقبل العلاقة مع "الآخر" في ضوء التحديات القائمة
20 جمادى الأول 1429
هشام منور

دشنت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول لحظة مفصلية أرّخت لما تتالى بعدها من أحداث وسياقات إستراتيجية وعسكرية وسياسية، التزمت نهج الصدام مع "الآخر" أياً يكن، ومن كلا الجانبين، فتلك العمليات التي أذنت بتفجير حرب كونية لا غاية ولا نهاية قريبة متوقعة لها، لن تكون، على الأقل في المستقبل المنظور، «ذروة» لمنحنى بياني يرصد تصاعد مسار مشروع الصدام بين الحضارات، والذي يتولى قياده في كلا الجانبين شخوص وتيارات دانت بالتطرف والتشدد منهجاً، والقتل وتصفية الآخر وإبادته وسيلة، انتهت إلى اعتبارها غاية في حد ذاتها.
لقد دفع التزام ثلة من الإسلاميين خيار المواجهة والصدام مع الغرب «الصليبي»، على تعبير بعض تياراتهم، بصرف النظر عن منطقيته وضرورته ومبرراته، الأمة ذاتها إلى التخندق في موقف الدفاع المتواصل للنأي بها وبخياراتها ومشاريعها المستقبلية عن منطق المواجهة المستنزف للطاقات والخيرات، المغتصبة أساساً في جزء منها، والمهدورة في غير ما جدوى أو فائدة في جزء آخر.
وفي ظني، أن مشروع الصدام مع الغرب ومن خلال المقدمات الفكرية أو المسوغات الفقهية التي يستند إليها، وانطلاقاً من السياقات السياسية والاجتماعية التي يمور فيها ويندفع من خلالها، وصولاً إلى البيئة المكتنفة لأرضية العلاقات الدولية وموازينها المختلة، سوف يجد على الدوام ما يكفل له وقود الاشتغال والاشتعال والاستمرارية، من طاقة روحية دفاقة تتصاغر أمام دعوتها قيمة الفناء الجسدي، وتوظف في سياقات خاصة بعيدة عن أهدافها وغاياتها الرئيسية في (عقيدة الجهاد). بالإضافة إلى هيمنة عمران اجتماعي ـ سياسي على المستويين العربي والإسلامي، قد آل إلى قاع صفصف من الخراب والبؤس واليأس الأسود، يغذي كل ألوان الاحتجاج والثورة عليه، بقدر ما تغري بمقاومة وممانعة منازع التسلط والخضوع، في آن معاً، الداخلية الممسكة بزمام الأمور، والخانعة لسياسات غربية.
ماذا بقي للأمة إذن من مستقبل يمكن استشرافه ورسم معالمه ومحاوره؟. لقد استحال بنا الوضع الراهن إلى خندق المواجهة شئنا أم أبينا ذلك، وتداخلت مفردات المواجهة الصدامية مع الغرب، بمفردات المقاومة للمحتل، والذي أضحى (الغرب) حاضراً في مكوناته بشكل مباشر، بعد أن كان مقتصراً على قاعدة عسكرية متقدمة متموضعة في قلب الأمة فقط (الكيان الصهيوني). وبات من السهل الترويج لمبدأ الممازجة بين الموقفين المواجهين في الواقع للغرب، ولكن انطلاقاً من خلفيات وسياقات معرفية وسياسية وإستراتيجية مختلفة ومتباينة. وبات من السهل شن الحرب على كلا الموقفين (الصدامي مع الآخر والمتمثل في تيار القاعدة ومن والاه)، و(المقاوم للمحتل الغازي، أمريكياً كان أم صهيونياً) بذريعة اتحاد الغاية والعدو.
عملياً، لم تنجح الحروب المستعرة التي شنتها الولايات المتحدة وحلفاؤها على التيار الصدامي (القاعدة)، في التقليل من حجم خطره وهول تهديداته. فمعركة مشروع التيار الصدامي مع الغرب «الصليبي» والدولة «الكافرة» العربية أو الإسلامية، بميزان القوى العسكرية قد يشير إلى استسهال الاستنتاج بأفول نجم ذلك التيار في ظل عدم تكافؤ تلك القوى الساحق، وفقدانها التدريجي لعنصر المباغتة الذي شل حركة أمريكا بداية، وجعل منها أمة مستنفرة لا تنام في انتظار الضربة المباغتة القادمة.
بيد أن الخطأ الإستراتيجي القاتل الذي ارتكبته الإدارة الأمريكية بفتحها لساحة الصراع مع هذا التيار على امتداد الأرض الإسلامية، بدد مع مرور الزمن عدم التكافؤ العسكري وحشد مجاهدي هذا المشروع في خانة اللازمان واللامكان، ليفتح الأفق أمامه على مرحلة جديدة يستعصي من خلالها تعيين الضربة التالية، وحولت طاقاتهم وقدراتهم المحدودة أصلاً إلى قوة مبهمة لا متعينة، تضرب وقتما تشاء وأينما تشاء.
وبما أن الإدارة الأمريكية قد راهنتْ على نضوب القوة المعنوية أو الروحية أو الرمزية التي يشعر بها مشروع الصدام مع الغرب، في ضوء حملتها لتغيير المناهج التعليمية، والدينية منها على وجه الخصوص، ومحاولتها لاستمالة التيار العام المعتدل من أبناء الأمة، وتأليبه عليه، فإن تلك الوضعية المجنونة من الرهان لا تنفك تنبئ عن تعاظم في تلك القوى التي يتفوق فيها تيار الصدام مع الغرب على حساب نفوق معنويات الجيش النظامي بمرور الأيام، وتصاعد النجاحات التي يحققها ذلك التيار في ضرب قوى الغرب العسكرية وهزم معنويات جنده الخائرة.
كما أن سائر برامح التجفيف لمصادر التمويل المعنوية والمادية التي أشارت بها بعض الأنظمة العربية (الخبيرة) على الولايات المتحدة سوف تؤول إلى فشل محقق، لأن معظم الدعم المادي المتحصل قادم من إعانات أهلية «مؤسسات وأفراد»، كما أن الأفكار والمقولات تتغذى من منعها أكثر مما تستفيد من ذيوعها وانتشارها، ولنا أن نقدر بعد ذلك سر تزايد تموضعات المواجهة وتناثر أماكنها وتكاثر مناصريها.
لا يمكننا إنكار مظاهر الوهن الحضاري الذي يكتنف الأمة ويلفها في دوامة لا يبدو المخرج منها قريباً في المستقبل المنظور، وبدهي بعد ذلك لأمة في حالة كهذه أن تكون في موقع رد الفعل على من ناصبها المواجهة والعداء، وأن تنمط استجابتها في ضوء حجم التحديات التي تواجهها.
ويبقى أن مستقبل الأمة القريب في ضوء المواجهة مع الغرب، سواء أكان إجبارياً أم اختيارياً، هو واقع يجب التعامل معه بداية بتخليص مفهوم المواجهة من مبادئ الصدام والتصفية والإبادة الشمولية، والاقتراب أكثر من القضايا الحقيقية والمسوغة، في الوقت ذاته، لمنطق المواجهة مع «الآخر» إن لم يكن هناك مفر لنا من ذلك، فتحرير الأرض ابتداء (فلسطين، أفغانستان، العراق...)، واستعادة سيادة الأمة واستقلالها وحريتها، تشكل أولويات تصوغ الخطوات والمعالم المستقبلية لمشروع الأمة في النهوض والتقدم وتحقيق الازدهار، يرافق ذلك، وبالتساوق معه، إشادة عمران اجتماعي وسياسي واقتصادي يقصي مفاهيم الفقر والطغيان والاستعلاء والعنصرية المؤذنة بخراب حالة السلم الاجتماعي، ويشيع بالقدر ذاته مفاهيم العدل والإنصاف والمساواة، دون إغفال الطابع العالمي لرسالة الأمة الحضارية، والتي انكفأت مؤخراً مع انكفاء الأمة على ذاتها وتقهقرها في حضيض اجترار منجزات «الآخر» ومواجهته في الوقت نفسه؟!