حدود الدم وبحورها: خطة التقسيم الأمريكية.. وتركيا
15 شوال 1428

 

برغم أن هذه الدراسة قد مضى على صدروها أكثر من عام إلا أنها بادية ذات أهمية بالغة، لاسيما في هذا التوقيت التي قد يعجز فيه المراقبون عن رصد أسباب مباشرة للتصعيد الكردي في الشمال العراقي من خلال حزب العمال الكردستاني الذي أضحى موالياً للولايات المتحدة الأمريكية؛ فبمثل هذه الشمولية التي تتجلى في هذه الدراسة التي ما زالت فاعلة وتأثيرية في فهم الحاضر في الشمال العراقي في تلك اللحظة التاريخية الفارقة, يمكن رصد ملامح التدخل الأمريكي في الحالة الكردية التركية والعراقية على حد سواء في وقت قد يجد البعض الولايات المتحدة في غنية عن إشعال المنطقة الوحيدة الهادئة في العراق، والتي يمكن أن توفر ملاذاً آمناً للولايات المتحدة الأمريكية حال اشتداد وطأة المقاومة وتسخين الجبهة الجنوبية شيعياً..
هل يمكن إيجاد تفسير آخر للتصعيد في الشمال العراقي إلا في ضوء قضية التقسيم العراقي في حاله الأصغر والتقسيم الإسلامي في الحال الأكبر والذي تفرد له هذه الدراسة شرحاً للكاتب العسكري الأمريكي البارز رالف بيترز، ثم تعليقاً للخبير الاستراتيجي طلعت رميح؟ ربما، بيد أن الأهم هو أن كواشف كثير من الأحداث رهينة بهذا الفهم للقضايا المتشابكة في الحوض الإسلامي، ولذا كان جديراً بالتأمل قراءة هذه الدراسة بما أحاطها من ملاحظات..
[موقع المسلم]

حدود الدم
نحو نظرة افضل للشرق الأوسط
رالف بيترز

عرض وتعليق: طلعت رميح

تقديم
هذه الدراسة عدد صفحاتها اقرب إلى حجم المقال ،لكنها مع ذلك دراسة إستراتيجية بامتياز وهى نشرت فى مجلة القوات المسلحة الأمريكية. الكاتب رالف بيترز من مواليد عام 1952. عمل ضابطا بالجيش الأمريكي حتى وصل لمنصب نائب رئيس هيئة الأركان للاستخبارات العسكرية الأمريكية في وزارة الدفاع .وبعد تقاعده احترف الكتابة في المجلة العسكرية الأمريكية المتخصصة "أرمد فورسز جورنال" وغيرها من الصحف الأمريكية وتحوز كتاباته ومقالاته علي اهتمام واسع في الشارع الأمريكي والعالمي. وهو يدعو دائما إلي إعادة تقسيم خريطة الشرق الأوسط بما يتفق مع المصالح الغربية للدرجة التي يدعوه فيها البعض بلقب "البوق السياسي للرئيس الأمريكي بوش الابن". وفي طبيعة الكاتب ومكان النشر، كما في ما جاء بالدراسة بطبيعة الحال دلالات مهمة مترابطة يجب التنبه لها.
الدراسة تتحدث عن تقسيم إيران والعراق والسعودية والإمارات وأفغانستان وباكستان وتصل إلى إن إعادة التشكيل، تنتهي إلى تأسيس دولة عربية شيعية كبرى ودولة لبنان الكبرى ودولة كردية، والى تحويل إيران إلى "قسم" من جغرافيتها الراهنة مع جعلها دولة فارسية..الخ. وفى ذلك فالدراسة هي واحدة من اخطر الدراسات التي تحدد توجهات أو اتجاهات إستراتيجية شديدة الوضوح في إظهار جوهر الخطة الأمريكية لتقسيم الدول العربية والإسلامية، فنحن لم نعد هنا أمام تكهنات يؤخذ منها ويرد بل نحن أمام خطط محددة. ونحن لم نعد أمام "نظرية مؤامرة"، بل نحن أمام أرقام وأعداد وأسماء وخطة استراتيجيه محددة هي الأوضح والأشد تحديدا.
والدراسة تحدد تقسيم إيران لمصلحة أذربيجان وتقسيم أفغانستان الحالية لضم جزء منها إلى إيران (الفارسية) وتقسيم باكستان لصالح أفغانستان جديدة وبهدف إنشاء دولة بلوشستان وتقسيم السعودية لإجراء تغييرات بتوسيع الأردن واليمن وإضافة الأجزاء الساحلية إلي الدولة العربية الشيعية، وتقسيم العراق لصالح دولة شيعية وأخرى كردية وثالثة سنية ... الخ هي أساس الانطلاق في المنطقة العربية. وعن تشكيل دولة فينيقيا الكبرى بدلا من لبنان الحالية وعن إعادة تشكيل دولة الإمارات العربية المتحدة ليذهب جزء منها إلى دولة الشيعة الكبرى مع بقاء دبي "ملعبا للأغنياء وملذاتهم".
والكاتب لا يستثنى نمن التقسيم والتغيير والتبديل للمكون السكاني والجغرافي إلا الكويت وعمان من كل الدول العربية والإسلامية في الجزء الممتد من باكستان حتى لبنان.
وهكذا يفكر الأمريكيون. إنهم يريدون تقسيم وتمزيق المنطقة حسب الأعراق والمذاهب وحسب الهوى والمصالح الغربية أيضا، إذ كل الدول الجديدة هي دول تنشا تحت الهيمنة والسيطرة السياسية والاقتصادية والعسكرية، للولايات المتحدة والكيان الصهيوني. وهكذا نحن أمام إعادة تقسيم جديدة تقوم بها الولايات المتحدة لتحقيق مصالحها الاستعمارية والعدوانية، وبنفس الآلية التي اعتمدها الانجليز والفرنسيين بعد الحرب العالمية الأولى. وان اخطر. ونحن نضع هذه الرؤية الأمريكية تحت نظر القاري لإحاطة الجميع علما بالمخططات الشيطانية التي يفكر فيها الأمريكان بالنسبة لنا.
وألان إلى قراءة الدراسة وبعدها نلتقي مجددا للحوار حولها.

حدود الدم
نحو نظرة أفضل للشرق الأوسط
رالف بيترز

" الحدود الدولية لا تكون أبدا عادلة بشكل كامل. وتختلف درجة الظلم التي توقعها هذه الحدود على الجماعات البشرية التي يفرض عليها الانفصال أو الاندماج بموجبها، بنفس درجات الاختلاف بين الحرية والقهر، وحكم القانون والإرهاب، والحرب والسلام.
وتعد أكثر الحدود الدولية تحكمية وتشوها في العالم هي تلك القائمة في أفريقيا وفي الشرق الأوسط؛ فالحدود الأفريقية التي رسمها الأوروبيون تبعا لمصالحهم الخاصة (رغم ما كان بينهم أنفسهم من مشاكل كافية في ترسيم حدود دولهم) تعتبر من أهم أسباب وفاة الملايين من الأفارقة حتى الآن، والحدود "الظالمة" في الشرق الأوسط تسبب من الأزمات ما يفوق قدرة المنطقة على احتمالها.
فالشرق الأوسط يعاني من مشكلات عديدة تفوق مسألة الحدود الدولية، ما بين جمود ثقافي وعدم مساواة كارثية وتطرف ديني، إلا أن المفتاح لفهم الفشل الشامل الذي تعانيه هذه المنطقة ليس الإسلام، وإنما الحدود المرسومة بشكل سيئ، والمقدسة في نفس الوقت إلى أبعد حد، تلك الحدود التي يحميها دبلوماسيونا.
رغم ذلك فإن تعديل الحدود لن يحل كل مشكلات الأقليات الموجودة في المنطقة، لكن الحدود المقترحة في هذا المقال تصحح الأخطاء المرتكبة بحق جماعات عانت كثيرا مثل الأكراد والبلوش والشيعة العرب، لكنها لا تفيد كثيرا مسيحيي الشرق الأوسط أو البهائيين أو أقليات أخرى كثيرة أقل عددا. ومع هذا، فإن غياب مثل هذه المراجعات للحدود لن يمكننا أبدا من أن نرى شرق أوسط ينعم بالسلام.
تغيير حدود دول الشرق الأوسط
لم يطور فن العلاقات الدولية أبدا وسائل فعالة لتصحيح الحدود الخاطئة سوى الحرب، إلا أن إعمال العقل في اقتراح حدود متناسقة في الشرق الأوسط يساعدنا على التوصل لفهم أكبر للصعوبات التي نواجهها هناك. إننا نتعامل في هذه المنطقة مع حجم هائل من التشوهات التي صنعها الإنسان، والتي لن تتوقف عن توليد الكراهية حتى يتم تصحيحها.
البعض يرفضون التفكير "فيما لا يمكن التفكير فيه"، فهذه الحدود وضعت وانتهى الأمر، لكن هذا القول مردود عليه بأن الحدود لم تكن أبدا جامدة، فهي لم تتوقف عن التغيير على مر القرون، وكثير من الحدود يتغير فعلا من الكونغو وحتى القوقاز، مرورا بكوسوفو. وسر آخر صغير: التطهير العرقي يستخدم منذ 5 آلاف سنة.
نبدأ بتعديل الحدود الأكثر حساسية للقارئ الأمريكي، فلكي يكون هناك أمل لدى إسرائيل في أن تحيا بسلام مع جيرانها عليها أن تعود لحدودها قبل عام 1967، مع تغييرات داخلية أساسية لأسباب أمنية مشروعة. أما قضية الأراضي المحيطة بالقدس، مدينة ملطخة بآلاف السنين من الدماء، فقد يستعصى حلها فيما هو أبعد من مدة حياتنا. في القدس جعلت كل الأطراف من ربها "تاجرا للعقارات"، ونزلت في حلبة للصراع تفوق صراعات الطامعين في المال أو الثروات النفطية. لذلك سنترك هذه القضية جانبا مع كل ما تلاقيه من بحث واهتمام ونتطرق لقضايا أخرى مهملة تماما.
تعد أكثر حالات الظلم وضوحا في المنطقة الواقعة بين جبال البلقان والهيمالايا، غياب دولة كردية مستقلة. هناك ما بين 27 و36 مليون كردي يعيشون في مناطق متجاورة في الشرق الأوسط (والرقم هنا غير دقيق؛ لأن أيا من الدول لم تتح أبدا التعداد الحقيقي لهم)، وحتى أقل التقديرات لعدد الأكراد تجعل منهم أكبر جماعة أثنية في العالم ليست لها دولة خاصة بها، فعدد جماعات الأكراد يفوق عدد سكان العراق حاليا. وتعرضت هذه الجماعة للقهر من كل حكومة سيطرت على مناطق الجبال التي يعيشون فيها.
فرصة تقسيم العراق
فرصة عظيمة لتصحيح هذا الظلم، ضيعتها الولايات المتحدة وشركاؤها في التحالف بعد سقوط بغداد؛ فالعراق الدولة التي تشبه شبح فرانكنشتاين دولة مكونة من أجزاء يصعب دمجها، كان يجب تقسيمها مباشرة إلى ثلاث دول بعد سقوط بغداد، إلا أننا فشلنا في ذلك بدافع الخوف وغياب الرؤية، وأجبرنا الأكراد على تأييد الحكومة العراقية الجديدة. والحقيقة أنه إذا أجري استفتاء عام في ذلك الوقت، فإن 100% من الأكراد كانوا بلا شك سيصوتون لصالح الاستقلال.
كذلك سيؤيد هذه الدولة أكراد تركيا الذين عانوا منذ زمن طويل من التمييز والقمع العسكري العنيف ومحاولات القضاء على الهوية الكردية. ورغم أن أنقرة قد خففت قبضتها عن الأكراد في العقد الماضي، فإن القمع قد تصاعد مجددا حتى أصبح الخمس الشرقي من تركيا وكأنه أرض محتلة. أما أكراد سوريا وإيران فسوف يركضون أيضا للحاق بهذه الدولة إن استطاعوا.
إن رفض ديمقراطيات العالم مناصرة استقلال الأكراد يعد خطيئة ضد حقوق الإنسان أكبر بكثير من تلك الأخطاء الصغيرة التي تثير وسائل الإعلام لدينا بشكل متكرر. وللعلم، فإن كردستان حرة، تمتد من ديار بكر حتى تبريز، ستكون أكثر الدول المؤيدة للغرب في المنطقة الواقعة بين بلغاريا واليابان.
إنشاء دولة لبنان الكبرى (إحياء فينيقيا من جديد)
سيترك ترسيم الحدود بشكل أكثر عدالة في العراق ثلاث مناطق ذات أغلبية سنية في شكل دولة مقطعة الأوصال، قد تقرر في النهاية الاتحاد مع سوريا التي ستفقد سواحلها، طبقا للخريطة المقترحة لصالح لبنان الكبرى ذات التوجه المتوسطي (فينيقيا التي بعثت من جديد).
أما الجنوب الشيعي للعراق القديم فسيكون أساسا لدولة عربية شيعية تطوق معظم الخليج الفارسي. وستحتفظ الأردن بأراضيها الحالية، مع بعض التوسعات باتجاه الجنوب على حساب السعودية، التي ستعاني مثلها مثل باكستان من التفكيك باعتبارهما دولا اصطناعية.
فأحد أسباب الجمود الكبير في العالم الإسلامي هو تعامل أسرة آل سعود الملكية في السعودية مع كل من مكة والمدينة باعتبارهما خاضعتين لسلطانها؛ حيث تقع أهم الأماكن الإسلامية المقدسة تحت سيطرة دولة بوليسية تعتبر من أشد نظم العالم قمعا، وحكما يحوز قدرا هائلا من الثروة النفطية غير المكتسبة، التي استطاع عبرها السعوديون أن ينشروا خارج حدود دولتهم ذات الرؤية الوهابية المتشددة للإسلام.
إن زيادة ثروة السعوديين ومن ثم تأثيرهم كان أسوأ شيء حدث للعالم الإسلامي كله منذ زمن النبي محمد، وللعرب منذ تعرضهم للغزو العثماني.
إنشاء فاتيكان "إسلامي"!
ورغم أن غير المسلمين لا يستطيعون تحديد شكل إدارة الأماكن الإسلامية المقدسة، فلنتخيل كم سيصبح العالم الإسلامي أكثر صحية إذا صارت مكة والمدينة محكومتين بمجلس يضم ممثلين للمدارس والحركات الإسلامية الكبرى، وتكون رئاسته بالتناوب، في دولة إسلامية مقدسة تشبه فاتيكانا إسلاميا، حيث تتم مناقشة مستقبل أحد أكبر الأديان في العالم، بدلا من الخضوع لنظام يصدر الأوامر.
العدالة الحقيقية، والتي قد لا نحبها، تقتضي كذلك منح حقول البترول الساحلية في السعودية للشيعة العرب الذين يسكنون هذه المناطق، بينما الربع الجنوبي الشرقي يتم ضمه إلى اليمن. سيصبح بيت آل سعود أقل قدرة بكثير على إيذاء الإسلام أو العالم ككل عندما تقتصر دولة السعودية المستقلة على تلك الأراضي المتبقية حول الرياض.
تقسيم أفغانستان وإيران وباكستان
أما إيران فستخسر جزءا كبيرا من أراضيها لصالح أذربيجان الموحدة، وكردستان الحرة، والدولة العربية الشيعية، وبلوشستان الحرة، لكنها من جهة أخرى ستضم إليها الأقاليم المحيطة بـ"حيرات" في أفغانستان الحالية، وهي منطقة ذات ارتباط تاريخي ولغوي ببلاد فارس. إيران في الحقيقة ستصير دولة أثنية فارسية مرة أخرى، وسيكون السؤال الأصعب هو ما إذا كانت ستحتفظ حينئذ بميناء بندر عباس أم ستسلمه للدولة الشيعية العربية.
ستخسر أفغانستان لصالح إيران في الغرب، بينما ستكسب أراضي في الشرق، حيث سينضم أعضاء القبائل الموجودة على الحدود الباكستانية الشمالية الغربية إلى إخوانهم الأفغان. والفكرة هنا ليست رسم الخرائط كما نريدها نحن، ولكن كما يفضلها سكان هذه المناطق. باكستان، وهي دولة اصطناعية أخرى، ستفقد أيضا أراضي البلوش لصالح بلوشستان الحرة، أما باكستان "الطبيعية" المتبقية فستكون بالكامل شرق الهند باستثناء جيب في الغرب قرب كاراتشي.
في حين سيكون مصير دول المدينة في الإمارات العربية المتحدة مختلطا؛ فبعضها سيدخل في الدولة العربية الشيعية التي ستطوق معظم منطقة الخليج الفارسي (وهي دولة من المتوقع أن تصبح موازنة لقوة إيران الفارسية عن أن تكون حليفة لها). ولأن كل الثقافات المتزمتة تعتمد على الرياء، فستكون دبي ضرورة، وسيسمح لها بأن تظل في مكانتها كملعب للأغنياء وملذاتهم. أما الكويت وعُمان فستظل كل منهما في حدودها الحالية.
في كل حالة، تعكس الحدود الافتراضية المطروحة هنا نوعا من علاقات النسب الإثنية أو نوعا من الطائفية الدينية أو كلاهما معا في بعض الحالات. وربما يكون تعديل الحدود بشكل يعكس رغبات الناس مستحيلا الآن، لكن مع الوقت، وبحار الدماء المتأهبة التي لا يمكن منعها، ستظهر حدود جديدة وطبيعية.
كيفية معالجة التشوهات الحدودية
وفي نفس الوقت، فإن نساءنا ورجالنا في زيهم العسكري سيستمرون في الحرب لتحقيق الأمن في مواجهة الإرهاب، ولنشر الديمقراطية، ولتأمين الدخول لموارد النفط في منطقة مكتوب عليها أن تحارب بعضها.
إن خطوط التقسيم الحالية التي تفصل قسرا بين جماعات بشرية، وتجبر جماعات أخرى على التوحد، مضافا إليها كوارث المنطقة ومشاكلها، تخلق تربة خصبة للتطرف الديني، ولثقافة اللوم ولتوظيف الإرهابيين تبعا لرغبة أي طرف. فعندما ينظر الرجال والنساء بحسرة إلى حدودهم، يصبحون مستعدين بحماس للبحث عن أعداء.
ما بين زيادة المعروض في العالم من إرهابيين، وقلة الإمدادات النفطية، فإن التشوهات القائمة في الشرق الأوسط تعد بالمزيد من تدهور الأوضاع. وعلى الولايات المتحدة وحلفائها، وقواتنا المسلحة من قبلهم، أن تدرك أنها ستواجه أزمات بلا نهاية، في منطقة لم تبد فيها سوى أسوأ مظاهر القومية، وتتجه فيها أكثر المعاني المغشوشة للدين نحو السيادة في ظل الإحباط الذي يعانيه هذا الدين. ورغم أن العراق يقدم نموذجا للأمل، بشرط ألا نترك أرضه قبل أن تنضج، فإن بقية المنطقة تطرح مشاكل متفاقمة على كل الجبهات تقريبا.
وأخيرا، إذا لم يتم تعديل الحدود في الشرق الأوسط الكبير لتعكس روابط الدم والروابط الدينية الطبيعية، فإن بحار الدماء في المنطقة ستستمر، بما فيها دماؤنا نحن.
* انتهت الدراسة*

تعقيب وتوضيحات:
إذا دققنا النظر وراجعنا كثير من التطورات فى المنطقة نجد هذه الدراسة هي الأشد توضيحا لكل ما يجرى أو هي الكاشف والمفسر والمذكرة التفسيرية لما نراه متفرقا على الأرض، فهي توضح ارتباط طرح الشرق الأوسط الكبير بفكرة الحرب على أفغانستان والعراق ولبنان، وتبين أسباب اعتماد خطة التقسيم الطائفي والعرقي والديني والدفع بالمكونات المختلفة حد التقاتل في عموم العالم الإسلامي وفى كل مكان فيه دون استثناء (كانت وزيرة الخارجية الأمريكية كوندليزا رايس قد اختارت توقيت القصف والتدمير الإسرائيلي للبنان لتتحدث عن صياغة شرق أوسط جديد-لم تذكر الكبير فى هذا التصريح- وبطبيعة الحال عن أن تقسيم سايكس بيكو البريطانى الفرنسي للمنطقة العربية، لم يكن كافيا)•
1- والدراسة نشرت فى موقع مجلة القوة العسكرية الأمريكية تموز 2006 ونشرت معها خارطة جديدة للشرق الأوسط الجديد هذا ،وهى تقوم على فرضية أن الحدود بين الدول غير مكتملة وغير عادلة فى الشرق الأوسط الملتهب والمتوتر منذ عقود، هذه الحدود التي شكلتها أوروبا "الفرنسيون والبريطانيون" في أوائل القرن العشرين ومن قبل الدولتين اللتين كانتا تعانيان من هزائمهما في القرن التاسع عشر فجاء من عدم الإدراك لخطورة هذا التشكيل الذي قسم قوميات على جانبي الحدود وأصبحت كتلا قومية كبيرة مبعثرة على جوانب الحدود لعدة دول حيث أصبح الكيان السياسي المستقل لكل دولة يضم اثنيات وطوائف متناحرة•وبهذا فإننا أمام محاولة أمريكية لإعادة تقسيم المنطقة، لكنها أبدا لم توضح البعد القانوني أو القمى الذي تستند إليه الولايات المتحدة في إعادة التقسيم هذه، إذ أننا إذا افترضنا "الخطأ" البريطاني والفرنسي في أسس تقسيم الدول، فما الذي تستند أيه الولايات المتحدة في القيام بإعادة التقسيم مجددا؟ وهل هو "نفس الحق" الاستعماري الذي على أساسه جرة التقسيم الأول؟!
2- والدراسة ترى إن حدود الشرق الأوسط تسبب خللا وظيفيا داخل الدولة نفسها وبين الدول وبعضها البعض وان أعمالا لا أخلاقية تمارس ضد الأقليات القومية والدينية والإثنية أو بسبب التطرف الديني أو القومي والمذهبي• وتصل إلى إن لم الشمل على أساس الدين والقومية في دولة واحدة لن يجعل الأقليات في وضع القوميات متوافقة الطوائف كذلك، لكنها تطرح إشكالية بالنسبة للدولة القائمة على إعادة التشكيل نفسها، سواء لأنها لا تقوم هي ذاتها على نفس "المبادئ والقواعد"-بل هي تتباهى بأنها دولة حرية الأقليات والأطياف الدينية-أو لأنها تعلن في سياستها الخارجية أنها مع حرية الشعوب في اختيار نظمها الديمقراطية حيث الديمقراطية هي التعددية لا غيرها• وهنا فان كاتب الدراسة لم يشر فيها إلى وجود مطالبات من الشعوب أو القوميات بهذه التقسيمات. كما هنا يبدو الفارق بين التقسيم الأنجلو فرنسي الذي اعتمد السرية في عقد اتفاقية سايكس بيكو وبين الجبروت الأمريكي الذي يعلن انه سيقسم ويعيد تشكيل عشرات الدول ودفعة واحدة .هل هو غرور أم أن هناك معطيات من القوة لدى الولايات المتحدة لهذا الفعل؟
3- والأساس في الدراسة وفي الرؤية التي تضمنتها والتقسيمات التي أشارت لها، أنها ليست مبنية على أساس خرائط معدة مسبقا بل أعدت على أساس وقائع ديموغرافية "الدين، القومية، والمذهبية" ولأن إعادة تصحيح الحدود الدولية يتطلب توافقا لإرادات الشعوب التي قد تكون مستحيلة في الوقت الراهن ولضيق الوقت المتاح للولايات المتحدة للقيام بهذه الجريمة الاستعمارية مجددا، فهنا يأتي دور سفك الدماء للوصول إلى هذه الغاية وفى ذلك فان الكاتب هنا يفسر لنا لم كان العدوان الأمريكي على العراق وأفغانستان والعدوان الصهيوني على لبنان، كما هو يقدم التفسير الاستراتيجي لخطة الفتنة الشاملة في المنطقة والتي يجرى دفعها ودعمها وإشعالها وتعميمها في المنطقة. وربما هو يكشف لنا عن حالة الغفلة الإستراتيجية السارية في عقول الأمة.
4- الدول المستهدفة بالتقسيم والاستقطاع هي إيران، تركيا، العراق، السعودية، وباكستان وسورية والإمارات، ودول ستوسع لأغراض سياسية بحتة، اليمن، الأردن، وأفغانستان•
والدول الجديدة التي ستنشأ من تقسيم العراق تنشأ ثلاث دويلات "كردستان" ودولة سنية في وسط العراق ودولة شيعية في الجنوب لكنها بداية الخيط في التقسيم، إذ الدويلة الكردية ستصبح "دولة كردية كبرى" باعتبار أنها ستشتمل على كردستان العراق وبضمنها طبعا كركوك النفطية وأجزاء من الموصل وخانقين وديالي، وأجزاء من تركيا وإيران وسورية وأرمينيا وأذربيجان وستكون أكثر دولة موالية للغرب ولأمريكا•
والدولة الشيعية وان بدأت بجنوب العراق فهي ستكون احد حالات إعادة ترتيب المنطقة باجماليتها (وهذا ما يفسر لنا مواقف الشيعة في التعاون مع الاحتلال في العراق) إذ هي ستشمل جنوب العراق والجزء الشرقي من السعودية والأجزاء الجنوبية الغربية من إيران "الأهواز" وستكون بشكل حزام يحيط بالخليج العربي. والدولة السنية التي ستنشأ على ما تبقى من أرض العراق ربما تدمج مع سورية أو الأردن. و"دولة بلوشستان الجديدة" التي ستقطع أراضيها من الجزء الجنوبي الغربي لباكستان والجزء الجنوبي الشرقي من إيران• ستكون دولة جديدة تماما (وهو ما يفسر عودة ظهور حركة بلوشستان الآن وقتالها ضد القوات الحكومية).

إيران ستفقد أجزاء منها لصالح الدولة الكردية وأجزاء منها لصالح دولة شيعية عربية وأجزاء لصالح أذربيجان الموحدة وستحصل على أجزاء من أفغانستان المتاخمة لها (الأقاليم الناطقة بالفارسية) لتكون دولة فارسية•
أفغانستان ستفقد جزءاً من أراضيها الغربية إلى بلاد فارس (من المتحدثين بالفارسية)، وستحصل على أجزاء من باكستان وستعاد إليها منطقة القبائل•
السعودية ستعاني من اكبر قدر من التقسيم كالباكستان. السعودية ستقسم الى دولتين، دولة دينية "الدولة الإسلامية المقدسة" على غرار الفاتيكان (فاتيكان إسلامي على يد الرئيس بوش) وتشمل كل المواقع الدينية المهمة لمسلمي العالم، ودولة سياسية "السعودية" وسيقتطع منها أجزاء لتمنح إلى دول أخرى "اليمن والأردن"•
وستنشأ دولة جديدة تبنى على جغرافية الأردن القديم بعد أن تقتطع أراضي لها من السعودية وربما من فلسطين المحتلة لتشمل على كل فلسطيني الداخل والشتات "الأردن الكبير"•
اليمن سيتم توسعته من اقتطاع أجزاء من جنوب السعودية.
وسوريا ستفقد سواحلها على البحر الأبيض لصالح دولة لبنان الكبرى الجديدة (فينيقيا الكبرى) وهذا على ما يبدو ما يفسر بالدقة مواقف جنبلاط وغيره في لبنان وهذا الاستئساد لتفكيك سوريا. إذن لو امسكنا بتلك التقسيمات في أيدينا وراجعنا كل التحركات الجارية في المنطقة بالمقابل، واحدة واحدة، نجد إن كل ما يجرى من دعم وتحريك أمريكي فيها جميعا هو ضمن هذا الإطار لا خارجه، حتى بغض النظر عن أهداف الفاعلين أنفسهم.
5- لماذا يتم عرض هذه الخارطة الآن؟ وما هو الغرض من عرضها في موقع عسكري أمريكي رسمي؟
الإدارة الأمريكية كانت قد طرحت مبادئها وتصورها عن شرق أوسط "ديمقراطي" جديد ،يبدأ بإلغاء الخرائط الاستعمارية القديمة التي أنشأها الاستعمار الفرنسي والبريطاني في بداية القرن العشرين لانتفاء الحاجة إليها بسبب المتغيرات القومية والطائفية الجديدة للبلدان المعنية بالتقسيم•وهذا هو المفهوم الحقيقي والشامل لخطة الشرق الأوسط الكبير، الذي هو كبير في ضخامة إعادة تشكيله، وكبير بحكم تضخم حجم التعديلات التي ستدخل عليه. لكنه كبير أيضا بالنظر إلى عدد الدول التي ستنشأ فيه، ولذلك كانت التسمية الجديدة التي أطلقتها رايس خلال العدوان على لبنان: الشرق الأوسط الجديد. وهذا هو الفارق بين الكبير والجديد. لكننا أمام إشكالية حقيقية هنا، هي ببساطة أن الدول والشعوب والمجتمعات تبدو وفق هذا التصور مجرد قطعة زبد أو جبن، يقسمها الأمريكان بسكين القدرة العسكرية والاقتصادية والسياسية.
6- وفى الجوهر فان التقسيم والاقتطاع وسيلة لإضعاف الدول التي تتعرض للتقسيم والدول الجديدة التي ستنشأ ستكون موالية تماما للإدارة الأمريكية بحكم العرفان بالجميل من العناصر الانفصالية المستفيدة والتي ستحكم هذه الدول، والأهم أن هذه الدول الجديدة سيجرى تشكيلها وفق قواعد الارتباط بالاقتصاد الأمريكي وستكون محط القواعد الأمريكية الدائمة بلا مشكلات. ويهمنا هنا أن نشير إلى أن مشروع التقسيم والضم والأردن الكبير سيكون الحل الأمثل للمشكلة الفلسطينية واللاجئين الفلسطينيين وفق خطة جوهرية لتخليص "إسرائيل" من مشكلة تواجهها باستمرار وهي التغيير الديموغرافي للسكان لصالح الفلسطينيين في حال تطبيق قرارات مجلس الأمن ذات الصلة•

7- لكن محاولة مثل هذه لابد أنها ستواجه عقبات وصعوبات جمة. إن محاولة تقسيم العراق بأيدي عملاء عراقيين باتت معروفة وكشفت معظم خيوطها وتجرى مواجهتها على الأرض بفعل المقاومة العراقية، بل أن هذه المقاومة قد أوقفت زحف المشروع، فهل يمكن أن تجرى نفس اللعبة مع الدول الأخرى بالطريقة نفسها؟

أ- فهذا المشروع في مواجهة دولة كبيرة مثل تركيا، فهل يمكن أن يمر ببساطة مشروع الدولة الكردية في كردستان العراق المقترح خلقها في حال فشل المشروع الأمريكي السياسي والعسكري في العراق لتكون كردستان المكان الآمن لقواتها في حالة انسحابها•(ملاحظة: كما يتضح من المقالة جهل بيترز بوضع الأكراد في تركيا ففي حين تعطي "الخريطة الجديدة" أرضا من تركيا لدولة "كردستان الحرة" على ساحل البحر الأسود فان غالبية السكان الأكراد في تركيا يقيمون في محافظات أضنة ومرسين على البحر المتوسط، وليس البحر الأسود)

ب- ونحن هنا أمام قوة كبيرة أخرى مثل إيران، فهل يمكن لايران هكذا ببساطة أن تقف مكتوفة الأيدي أمام عملية تقسيمها لعدة أقسام؟
ج- ونحن أمام السعودية بثقلها الديني والمالي والسياسي والعسكري أيضا، فهل ببساطة يمكن للسعودية أن تترك هذا المشروع يمر أو يتحقق؟
د- وهذا المشروع في مواجهة دولة نووية مثل باكستان•• فهل يمكن أن يترك الجيش الباكستاني بلاده تتفكك وهو يملك كل هذه القدرة والارتباط بالإسلام الذي هو محتوى تشكيل الدولة والمجتمع الباكستاني منذ انقسامها عن الهند؟
هـ- وهل اليمن والأردن، يمكن أن يكونا هكذا ببساطة ساحة شطرنج ينقل إليها بشر. وهل الشيعة العرب يمكن أن يغريهم حلم الدولة إلى درجة "بيع" إيران في المزاد العلني؟ وهل الوطنية هكذا باتت أمر بلا مشاعر؟

و- وبكل هذه التحديات التي يواجهها المشروع –وغيرها كثير بطبيعة الحال- وبحكم ما آلت إليه الخطط الأمريكية في المنطقة من انكسارات وهزائم، فان ثمة احتمال أن يكون توقيت طرح هذه الإستراتيجية بهذا الوضوح الفج –ورغم اليقين الكامل بأنها المخطط الحقيقي– مرتبط بحالة تخويف لكل أقطار المنطقة، من استغلال الانهيار الأمريكي في العراق. فمثلا هي تخويف لإيران من الاندفاع الراهن في المنطقة، وهى كذلك بالنسبة لسوريا. وهى حالة ضغط حادة على السعودية التي انفتحت أمامها آفاق الحركة كدولة إقليمية، وهى ممارسة لمزيد من الضغط على باكستان لعدم استغلال الانهيار الأمريكي في أفغانستان للعودة للسيطرة هناك مجددا. كما يمكن القول أن نشر تلك الخطة إعلان أمريكي ان باليد من خلال الوضع في العراق تهديد الجميع .
ز- وأخيرا، فإننا بالإجمال وبالنظر إلى "السلوك الأمريكي" في رؤية شاملة، نجد أننا أمام "خطة استراتيجيه" متكاملة الأبعاد والأطر والاتجاهات والأساليب والأهداف، تعتمد معالم قوة الولايات المتحدة وتعمل على نقاط ضعف الأمة. وفى مواجهة حالة كتلك، فان أحد عوامل قوة الإستراتيجية الأمريكية هو بالتحديد في عدم وجود "خطة استراتيجيه شاملة مقابلة" تعمل على تعظيم عوامل القوة وعلى استثمار عوامل الضعف في الإستراتيجية الأمريكية. وهنا وفى ضوء عدم "وجود ظرف مهيأ" لتأسيس خطة إسلامية شاملة فان القوى المنوط بها الحفاظ على الأمة في مكونها الحالي، والدفع بها نحو "الحالة التوحيدية المستهدفة"، ينبغي لها أن تدرك الفارق الكبير بين محاولتها تحقيق أهدافها، وبين أن تجد نفسها تنفذ أهداف الولايات المتحدة. وبشكل واضح فان القلق يحوط بأي مفكر وباحث ومحلل الآن، من أن النشاطات التي تستهدف "تكسير قدرات الدول –وتفكيك المجتمعات " بنشاطات معينة، إنما هو أمر يخدم هذه الخطة الأمريكية في هذه المرحلة. وبشكل أكثر تحديدا فان كل مساهمة في "تفكيك المجتمعات والدول – دون قدرة على بناء كيان إسلامي موحد (نقول قدرة ولم نقل رؤية) إنما هي ستصب في صالح إنفاذ الإستراتيجية الأمريكية مهما حسنت النوايا. في العراق، فان إعلان جزء منه دولة أو إمارة لن يفيد إلا الولايات المتحدة. وفى باكستان فان أية حركة انفصالية مهما كانت عظمة شعاراتها لن تصب إلا في مصلحة الولايات المتحدة وخططها. وفى السودان ولبنان وكل قطر عربي وإسلامي، لا يجب النظر إلى آية حركة انفصالية أو تقسيميه –مهما حسنت النوايا – إلا باعتبارها في تماس أو تقاطع مع الإستراتيجية الأمريكية.
وهنا يجب التفرقة بين صحة الشعار والتوجه، وبين القدرة على تحقيق الهدف. إن صدق النوايا وصحة التوجه هي جزء من أية خطة، لكنها إذا لم ترتبط بمعالم قوة في تنفيذها، ولم تكن هناك معالم واضحة للقدرة على التعبئة من اجلها وان لم تجر وفق خطة شاملة سياسية وإعلامية واقتصادية.. فإن الشعارات والتوجهات تتحول إلى عمل خادع.