ما بعد الجماعات
23 ربيع الثاني 1426

يسر موقع المسلم أن ينشر هذه المقالة المميزة لكاتبنا الكبير الشيخ محمد العبدة والتي خص بها الموقع. كما يسر الموقع أن ينشر عن قريب حوارا موسعا مع الشيخ العبدة حول هموم الدعوة و التربية على ضوء الأحداث <BR><BR><font color="#0000FF">مدخل: </font><BR>ليس هذا المقال دعوة لإلغاء الجماعات الإسلامية الموجودة على الساحة اليوم، ولا لتجاوزها إنكاراً لجهودها، ولكن للمحافظة على مكتسباتها والتقدم بها نحو بنية تحقق المزيد من العمل والمزيد من الأمل، التقدم نحو مرحلة تستطيع هذه الجماعات أن تجترح الحلول للمشكلات القائمة، وان تتجدد في الأهداف المرحلية ومعرفة الواقع(1).<BR><BR>القضية اليوم ليست قضية جماعات، وإنما قضية أمة لم يعد لها كلمة مسموعة، وليس لها ثقل سياسي تفرضه على الآخرين، ولا نتكلم هنا عن الغايات والنوايا، ونرجو أن تكون سليمة، ولكن نتكلم عن الوسائل والمراحل والنظر الى المستجدات والتحديات، والتجديد في الفكر والهيكلية. إن وجود تجمعات وجمعيات داخل جسم الأمة الإسلامية ليس أمراً غريباً أومستحدثاً، بل قد يكون واجبا في بعض الظروف وذلك عندما تحدث تحولات كبرى وتقام دول وتسقط أخرى. وأصل وجود مثل هذه التجمعات شيء مطلوب داخل المجتمع، قال تعالى: "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ" [آل عمران/104] وقال تعالى: "وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ" [الأعراف/159] والتعاون على البر والتقوى مامورٌ به شرعاً.<BR><BR>وتكون التجمعات أحياناً من الأمور الفطرية، فكما أن في الإنسان غريزة حفظ الذات، فكذلك عنده غريزة حب التجمع وحب الانتماء والشعور الجماعي في حدود الأسرة أو القبيلة أو الحزب... الخ. ومن هنا جاء تأسيس الجمعيات والجماعات بعد سقوط الدولة العثمانية، وبعد تقسيم العالم العربي وفقدان المرجعية السياسية، ومحاولات التشويه والتغريب الذي تعرض لها المسلمون عن طريق الاستشراق أوالتبشير والمدارس الأجنبية، فكان رد الفعل تأسيس الجماعات دفعاً لهذا البلاء النازل، وفوائد الجمعيات كثيرة جداً، خاصةً عندما يتسنى لها الثبات على مشروعها مدة طويلة مما لايفي به عمر الفرد. <BR><BR>وقد وجد في المجتمع الإسلامي زمن الدولة العباسية والدولة العثمانية تجمعات كانت تساعد المستضعفين في المدن، وكانوا يسمون في بغداد بـ(الفتوة) وفي دمشق بـ(الأحداث)، هذا عدا عن وجود التجمعات المهنية حيث يكون لكل مهنة رئيس يشرف على أفرادها ويفض الخصومات فيما بينهم ويعلم المنتسبين الجدد. يقول ابن تيمية رحمه الله عن التجمعات وشرعيتها (فمن تكفل بأمر طائفة فإنه يقال له: هو زعيم، فإن كان قد تكفل بخير كان محموداً على ذلك، وإن كان شراً كان مذموماً على ذلك، وإن كان أهل الحزب مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة أو نقصان فهم مؤمنون لهم مالهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا ونقصوا، مثل التعصب لمن دخل حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم سواء كان على الحق أو الباطل فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم)(2).<BR><BR><font color="#0000FF">واقع الجماعات والأخطاء التي وقعت فيها: </font><BR>لاشك أن الجماعات، وخاصةً الكبرى منها المعروفة، قد أدت دوراً إيجابياً قلَّ أو كثر، وأوجدت مناخاً إسلامياً عامَّاً، وأوجدت بفضل الله أجيالاً من الشباب المسلم يتفهمون الإسلام ويعملون من أجله ومستعدون للتضحية في سبيله، هذا مما لا خلاف فيه، وليس حديثنا اليوم عن الإيجابيات فهي معروفة.<BR><BR>سارت هذه الجماعات في طرق ودروبٍ طويلة وشائكة، أصابت وأخطات، ونشأت من خلال الأحداث محاولات للمعالجة ولكنها كانت جزئية ومحدودة الأثر، كان لكلٍ من هذه الجماعات منهجه ورؤيته للأحداث، وتظهر مدى اقترابه أو ابتعاده عن الثوابت والأصول، وكان لكل جماعة أهداف مرحلية قد تكون حققت بعضها وفشلت في البعض الآخر، ولكن عندما انتهت هذه الأهداف وجدت نفسها أمام جدار مسدود، ومع الزمن أصيبت بالجمود والتكلس والتصلب وخاصة في الهيكلية التي هي من معوقات الانتقال الى مرحلة أفضل وأقوى. لقد تغيرت الظروف، وسقطت إمبراطوريات ودول، وجاءت ثورة المعلومات وجاءت (العولمة) سيئة الذكر وكبرت التحديات، ولكن طرائق وأساليب الجماعات في التربية والإعداد والنظرة الى الحاضر والمستقبل لم تتغير كثيراً. <BR><BR>هناك مبررات تستدعي هذا الانتقال والتحول، مبررات من داخل الجماعات، هناك أخطاء وأمراض مزمنة لا فكاك منها إلا بالانتقال إلى حال أخرى، ومن هذه الأخطاء:<BR><BR>1- <font color="#0000FF">الحزبية: </font><BR>إنني أعتقد أن طريقة تأسيس الجماعات والهيكلية التي بنيت عليها (وكانت في زمن وظروف معينة)، هذه الطريقة تحمل في داخلها جراثيم الحزبية، سواء قلت أو كثرت، لأن الجماعة عندما انفصلت عن جسم الأمة ولم تحاول بعدئذٍ تجديد نفسها والارتباط بجمهور الأمة مرة ثانية، وإقامة المؤسسات الفكرية والعلمية لاستيعاب القدرات والأذكياء، فلابد أن ينشأ مرض الحزبية، وهو مرض عضال، أضر كثيراً بالجماعات الإسلامية وفرقها وأضعفها، لأن الفرد عندما يكون داخل مجموعة صغيرة، ويقال له: منهجنا هو الأصوب، فسيكون إنساناً منغلقاً متعصباً لجماعته، لا يقبل بسهولة ما عند الآخرين، والطريقة الحزبية تكون دائماً لاهثة وراء كسب الناس، فإن لم ينصتوا إليها تقوقعت على نفسها واتهمت الآخرين.<BR><BR>وفي الطريقة الحزبية يقفز أنصاف المتعلمين ليبعدوا المؤسسين الأوائل ويتظاهرون بالحماس الزائد للوصول إلى المناصب، وقد يكون خارج هذه الحلقات الضيقة من هو أكثر تقىً وعلماً، ولكن لأنه لم يلتزم بالجماعة فلا يستفاد منه، ويضغط المتعالمون الذين يظنون أن بانتسابهم إلى الجماعة وتغنيهم بشعاراتها وقراءة كتبها يرتفعون إلى درجة الفكر والمفكرين (ومن ملاحظات علوم الإدارة في الشركات التي فقدت المرونة أن الابتكارات تأتي غالبا من أشخاص لا يعممون في الشركة أو من أولئك الذين تعتبرهم الشركة غير منضبطين بأنظمتها)(3).<BR><BR>يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (ليس لأحد أن يعلق الحمد والذم، والحب والبغض، بغيرالاسماء التي علق الله بها ذلك، فمن كان مؤمنا وجبت موالاته من أي صنف كان، ومن كان كافراً وجبت معاداته من أي صنف كان، والذي يبني محبته وبغضه ومعاداته ونصرته على الانتساب لاسماء معينة أو مذهب معين أو جماعة أو حرفة فهذا من أمور الجاهلية المفرقة بين الأمة)(4).<BR><BR>2- <font color="#0000FF">القيادة: </font><BR>ربما لا يشك أحد بأن هناك مشكلة في القيادة، وربما يتذكر الدعاة والقراء شعار مجلة الفتح لصاحبها محب الدين الخطيب رحمه الله (المسلمون إلى خير ولكن المشكلة في القيادة) فما هي جذور هذه المشكلة التي تظهر خاصةً عندما يذهب المؤسس الأول أو عندما يغيب عالم كبير؟.<BR><BR>إن غياب الممارسة الحقيقية للشورى، وغياب الممارسة العملية للادارة والقيادة من قبل الصف الثاني، وعدم التأسيس لهذا الجيل هو أحد هذه الأسباب، فالقيادة ليست موهبة فقط، بل يمكن أن تأتي بالتعليم والممارسة مع وجود العناصر الأخرى الضرورية. ومن الأسباب أن المجتمعات الإسلامية وبسبب تخلفها الحضاري ما تزال تحلم بالرجل الأوحد والبطل الملهم الذي تتركز كل الأمور بيده، ويطلب منه أن يحل كل المشاكل، فمثل هذا الشخص ـ إن وجد ـ وأرضى غرور الناس، ولكنه لا يستطيع في الواقع أن يقوم بشيء كبير.<BR><BR>إن القيادة عندما تتحمل الأعباء الكثيرة ولايتهيأ لها العوامل المساعدة من الأفكاروالأشياء، فربما تسير مرحلة وفترة معينة يكون فيها نشاط، وفيها عمل وإنتاج، ولكنها ستتوقف بعدئذ ثم ينكفأ العاملون على أنفسهم وتتحول الاهتمامات إلى شؤون أكاديمية بحتة. <BR><BR>والملاحظ أنه لا يوجد في البرامج التربوية شيء من المقارنة والنقد، ولا توجد هذه الصلة العميقة بين القيادة والأجيال الجديدة، ومن المؤسف أن تجري الأمور على الشكل التالي: <BR>الذي يتقرب من المسؤول أو على الأقل يسكت، فهو المرضي عنه ويصعد إلى أعلى المسؤوليات، وأما الذي يناقش ويسأل فهو(مشاغب) غير منضبط، ولا يفهم السرية والعمل الحركي ويجب أن يفصل!!.<BR><BR>ومن التأملات العميقة في طبيعة الاجتماع الإنساني لمؤرخنا الكبير ابن خلدون، أن بعض الدول بعد أن يستقر بها الحال تبدأ بإبعاد من شاركوا وساهموا في التأسيس حتى لا يكون لهم مَّنة ودالَّة على الدولة، وتأتي بأناس بعيدين لا حول لهم ولا طول، ينفذون ما تريده الدولة، وبعض الجماعات تفعل مثل هذا. <BR><BR>إن بعض القيادات لا يحبون الظهور العلني، ولكنهم يريدون التحكم في الدعوة من وراء ستار، فيضعون واجهة ضعيفة هي القيادة في الظاهر وأمام أعين الناس، وهكذا تفعل بعض الطغم العسكرية في البلاد المتخلفة. <BR>وفي كثير من الأحيان كان المعيار في تفوق فلان ليكون قائداً وزعيماً (مدى الحياة) هو تفوقه في الخطابة، وعندما تكون الأمة في حالة تخلف فإنها تسحرها الكلمة الخلابة والصوت العالي.<BR><BR>3- <font color="#0000FF">المنهج: </font><BR>لم تستطع الجماعات الإسلامية تطوير مدرسة تربوية واعية بتحديات العصر ومشكلات الواقع، قادرة على إنزال (آيات الكتاب) على الواقع القائم، ولم تبلور مشروعاً نهضوياً متكاملاً، وما قامت به من دروس علمية وتربية خاصة لإيجاد الشباب الصالح، فهذا شيء لا ينكر بل يشكر، وهو عمل جيد ولكنه لا يكفي لمشروع كبير، وبعض الجماعات التزمت بالعموميات في المنهج العلمي والعقدي حرصاً على تجميع أكبر عدد من الأنصار، سواء كانت أفكارهم صحيحة أم فيها انحراف عن المنهج القويم. <BR><BR>وبسبب الاضطراب وعدم الوضوح في المنهج، دخل البعض في معارك سياسية قبل أوانها، وكانت نتائجها وخيمة، وكانت ردة الفعل إما الابتعاد كلياً عن الشؤون العامة أو الدخول بفكر وعقل ذرائعي ليس له حدود ولا ضوابط. ومازال العمل الإسلامي ومؤسساته يسيرون على نظرية (إذا صلح الفرد صلحت الأمة) وهي مقولة تذكر وكأنها بديهية من البديهيات، وظاهرها صحيح ولكن فيها تبسيط لقضية كبيرة. وكانت نتيجة هذه النظرية أن وجد عدد غير قليل من الأفراد الصالحين ولكن ليس لديهم فقه (بناء الأمم) فالبناء المرصوص ليس حجارة وإنما هو حجارة مصقولة مشدودة بالإسمنت والحديد، وحسب قوانين هندسية تتعلق بعمق الأساس وسمك الجدار... وهناك عوائق ومؤثرات ثقافية واجتماعية تعيق الفرد إذا لم يوضع ضمن مشروع متكامل. <BR><BR>ومن الاضطراب في المنهج رفع الشعارات الكبيرة التي يصعب تحقيقها في الواقع وتحول الوسائل إلى غايات، فالجماعة بنظمها ومؤسساتها هي وسيلة للعطاء، وخميرة للنهوض، ولكن هذه النظم تحولت إلى غاية يجب الحفاظ عليها ولو بالانغلاق عن الأمة، وعدم الاستفادة مما عند الآخرين، فكل شيء يجب أن يقبل بإسم (التنظيم) والمصلحة. مع أن حفظ الدين والعقيدة أهم من حفظ الجماعة وحفظ النفس والمال، والدليل قصة موسىعليه السلام حين قال لأخيه هارون: "اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ " ولما رجع موسى عليه السلام وجد قومه يعبدون العجل، فقال مخاطباً هارون عليه السلام: " مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِ، أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي؟ قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي " طه 92-94. <BR><BR>قال الشيخ الطاهر بن عاشور: (هذا اجتهاد من هارون في سياسة الأمة، إذ تعارضت عنده مصلحتان: مصلحة حفظ العقيدة ومصلحة حفظ الجماعة من الهرج، وحفظ الأنفس والأموال فرجح الثانية، وكان اجتهاده مرجوحاً، لأن حفظ الأصل الأصيل للشريعة أهم من حفظ الأصول المتفرعة، لأن مصلحة صلاح الإعتقاد هي أم المصالح التي بها صلاح الاجتماع.....)(5). <BR><BR>ومن الاضطراب في المنهج أو النقص فيه، ما يلاحظ من معالجة أعراض المرض وعدم معالجة جذوره، فالوعظ والإرشاد يتجه دائماً إلى مشاكل سطحية تظهر في تصرفات أفراد المجتمع، ولكن لا ينظر إلى الأسباب العميقة التي أوصلت المجتمع إلى هذه المشاكل أوهذا التفلت الأخلاقي. <BR><BR>بعض التجمعات الإسلامية الصغيرة تمثل حالة اغتراب وانسحاب من الواقع ربما لأن المجتمعات الإسلامية مصابة بحالة (الشح) العلمي أو الخيري.<BR><BR>4- <font color="#0000FF">التجدد: </font><BR>من أخطر الأمور التي تواجه المجتمعات أو الجماعات أن يسيطر الجمود الذهني فلا تعود هذه الجماعات عندها القابلية للتجدد والتحسين عندها تسيطر مقولات وقوالب لا تناسب الواقع، أوتسيطر عادات وتقاليد يصعب تركها. والنهوض الحضاري لا بد له من قدرة على تحقيق التوازن بين الثوابت والمتغيرات، وإلا فقدت الجماعة المرونة والحيوية. أعرف أناساً يرددون كلام مؤسسي الدعوة أو بعض المفكرين الذين عاشوا قبل عقود من الزمن، وكأن كلامهم منزل ويبدو من حال هذا الذي يردد كلامهم أنه لم يقرأ شيئاً جديداً منذ عشرين سنة، ولم يطلع على فكرٍ أوعلم، ولم يوسع من ثقافته أو يمارس عملية الانفصال والاتصال، الانفصال عن مفاهيم واشكال وأطر وتنظيمات عفا عليها الزمن، واتصال بالثوابت والعلم والمستجدات وكيفية بناء الأمم. فهناك تحديات كبيرة لا ينفع معها اللجوء إلى النظم والهياكل التي لا تصلح للعمل من خلالها. <BR><BR>وهذا لا يعني أنه لم يقع تجديد أبداً، بل كانت محاولات ولكنها جزئية ولم تستطع على التجدد المتكامل، ولذلك نرى ونسمع بين كل فترةٍ وأخرى انسحاب مفكر أو مثقف من الجماعة الفلانية لأن طبيعة تكوينها ونظمها لا تساعد في ـ الغالب ـ على استيعاب أهل الفكر والعلم، ولا تساعد على تهيئة كل الأجواء المناسبة لأداء دورهم، وهكذا تخسر الجماعات صفوة المجتمع. ومن العجيب أن بعض هذه الجماعات تستمر في التعيش على سمعة هؤلاء المفكرين أو العلماء، وفي الوقت نفسه تحذر أعضائها من أفكارهم وقراءة كتبهم!. <BR><BR>ربما كان استمرار بعض هذه الجماعات يعود إلى أنها تسير بالدفعة الأولى، فعندما يكون المؤسس قوياً ومخلصاً يعطي العمل دفعة قوية، ولكنها مع الأيام تضعف وتهرم بسبب عدم التجدد. <BR><BR>إن تطلعات المسلمين وحركة التاريخ لا تنتظر أمثال هؤلاء (المحنطين) الذين يعيشون على أمجاد فتراتٍ معينة من الزمن الماضي. <BR><BR>5- عندما تكون النتائج ضعيفة، رغم الجهود الكبيرة التي بذلت وتبذل خلال عقود من الزمن، فلا بد أن في الأمر شيئاً، لابد من وجود خلل ما في الوسائل أو المراحل، وأما مقولة نحن عملنا وليس من الضروري أن تقع النتائج، فهذه حيلةٌ نفسية لإرضاء الذات، لأن الله سبحانه وتعالى وعد بالنصر والتمكين للذين ينصرونه، وربما يؤجل هذا النصر لأسباب، وربما تكون هزائم وانتصارات، أما أن لا يكون هناك انتصارات، فهذا يحتاج إلىمراجعة شاملة وصريحة، للمنهج وطرق التربية، ومراجعة شاملة لصدق النوايا وأعمال القلوب والأخلاق المطلوبة.<BR><BR><font color="#0000FF">ماذا نريد؟!</font><BR>بعد هذا الجمود أو الفتور الذي نلحظه، وشعور الجميع بأنه لا أحد يستطيع وحده أن يقوم بالمهمة الكبرى، ألا يجب إن ننتقل إلى مرحلة أقوى وأكبر؟، مرحلة تزال فيها هذه السدود التي صُنعت، وهذه الجدران العالية التي بنيت، ويتحول العمل الإسلامي إلى تيار يعتمد على مؤسسات ذات خبرة فقهية وثقافية وسياسية واقتصادية. يشارك هذا التيار في صنع الأحداث وحتى لا يبقى المسلمون ينظر إليهم على أنهم من المستضعفين الذين تفكر كل جهة حاقدة في تحجيمهم وضربهم. <BR><BR>لماذا لا يتحول العمل الإسلامي إلى تيارشعبي، الكل يحمل هم الإسلام وحتى لا تبقى الدولة جسماً منفصلاً عن الأمة، جسماً يشعر الفرد ازاءها وكأنه ذرة رمل تطحنها آلة جبارة. إن العلاقة بين الجماعة والأمة هي كالعلاقة بين الشجرة والتربة، وانقطاع الصلة بينهما سيكون من بعده اليبوسة، قلت لاحد الأخوة وكان يكلمني عن ضعف الموارد المالية عند الجماعات، قلت: عندنا ثروة بشرية، لماذا لا نسخرها في سبيل الأهداف السامية التي نحملها، عندنا شباب ذكي متعلم، أينما توجهه يأت بخير، لماذا لا ندفع هؤلاء الشباب لخوض معركة الحياة؟ معركة الحق والباطل، ففي هذا العصر الذي تطرح فيه مسالة (العولمة)، لا بد أن تكون المبادرات كبيرة وغير مبعثرة، يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي: (إن رجل الشعب يمارس الأفكار بقلبه وعقله معاً، بينما لايقرا (المثقف) عندنا إلا بعقله، فرجل الشعب يتمتع بالبداهة الصادقة)(6).<BR>ويلاحظ أحد المفكرين أن (الجماعات عاملت المجتمع الإسلامي على أنه متلق للخطاب النهضوي، ولم يعامل على أنه يمكن أن يكون فاعلاً في التعبئة لذلك الخطاب..)(7).<BR>ويرى الشيخ طاهر الجزائري أنه لابد من تثقيف (العامة) لأنهم برأيه أطوع للحق من كثير من المنتفعين بالدين، خاصةً إذا تتبع المصلح الحكمة في دعوتهم وأعطاهم من العلم ما تطيقه عقولهم. <BR><BR>عندما يعطي تصرف الجماعة انطباعاً بأنها هي المسؤولة عن الإسلام، فهذا يجعل بقية المسلمين يركنون إلى شيءٍ من الراحة والكسل وعدم تحمل المسؤولية، ومن الأمور التي تساعد على تشكيل هذا التيارالعريض:<BR>1- الاهتمام بالجمعيات والمؤسسات المدنية بشتى أنواعها سواء كانت خيرية أوعلمية أو اجتماعية أو اقتصادية، فهذه كلها قوى للوطن وللأمة ومنابع حياة لها.<BR><BR>2- الاستفادة من الكيان القبلي كمؤسسة اجتماعية فطرية، والإسلام كما هو معلوم، لم يحطم التنظيم القبلي، بل رشَّده وأدمجه في نطاق الأمة، وطهره من المفاهيم الجاهلية. (والجماعات الاسلامية لم تستفد من هذا الكيان، ربما للشعارات الكبيرة التي رفعتها (الوحدةالاسلامية..) أو كرد فعل علىالدعوات القومية)(8). <BR><BR>3- جمعيات العلماء:<BR>وهم أهل العلم والخبرة الذين ينظرون في مصالح المسلمين ويصدرون عن تشاور، وهم يجتهدون في النوازل المعاصرة، حتى لا تتحول الاجتهادات الفردية إلى فوضى علمية، فالخلافات بين أولي الألباب مهما اشتدت تظل محكومة بأخلاق أهل العلم وتسامحهم بينما نجد في العقلية الحزبية إذا ما حصل خلاف فإن الكبار يوجهون الصغار لممارسة أبشع ألوان الأذى والضرر للخصوم، مع تتبع العورات، وتفجر المؤامرات داخل الجماعة الواحدة.<BR>لابد للمسلمين من هيئة تنظر في أمورهم، مع علمنا أنه ليس أحدٌ بعد الرسول صلى الله عليه وسلم من يدعى له العصمة، ولكن في عمل المؤسسة يحصل النقاش وتبادل الآراء، وفي النظام الحزبي لا أحد يناقش أفكار الزعيم، والقرآن الكريم يوجه لهذه المكانة لهؤلاء: "فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122).<BR>والأمة إذا فقدت قيادتها الربانية فإنها تتعرض لشياطين الإنس ليجتالوها عن عقيدتها وهويتها، وإذا كان لابد من تكامل بين أهل العلم وأهل الثروة، فالقيادة يجب أن تكون لأهل العلم.<BR><BR>4- الاهتمام بالثروة البشرية وخاصة (أولي الألباب) والاذكياء من الشباب الذين يطورون النظريات التربوية، ويقودون المؤسسات، وهكذا كان جيل الصحابة، الذين أكرم الله بهم نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا أذكياء نابهين عقلاء، فلما جاء الاسلام كانوا كما قال تعالى: "نورٌ على نور".<BR><BR>_______________<BR>(1) حدثني أحد الأخوة الثقات أن أحد شيوخ هذه الجماعات طلب من القيادة اجتماعاً لبحث مشكلة كانت قد انتهت وانتهى أصحابها، فقال له شاب: يا شيخ كأنك لم تقرأ في القرآن قصة سيدنا سليمان عليه السلام مع الجن؟.<BR>(2) الرسائل والمسائل 1/161 <BR>(3) بشير شكيب الجابري: القيادة والتغيير /53<BR>(4) الفتاوى، مجمل اعتقاد السلف 3/342.<BR>(5) انظر: أحمد الريسوني (نظرية التقريب والتغليب) /381.<BR>(6) في مهب المعركة /187.<BR>(7) عبد المجيد النجار: عوامل الشهود الحضاري 2/287.<BR>(8) المصدر السابق 2/287.<BR><br>