كيف أضعفت الولايات المتحدة "أونموفيك"؟
23 محرم 1425

عقب حل اللجنة الخاصة للأمم المتحدة (أونسكوم) نتيجة القصف البريطاني-الأمريكي والاختراق الأمريكي للوكالة، ألفت هيئة جديدة للبحث عن أسلحة الدمار الشامل العراقية في ديسمبر 1999م، بموجب قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم (1284)، وهي لجنة الأمم المتحدة للمراقبة والتحقق والتفتيش (أونموفيك)، وما انفكت واشنطن تتعمد تقييد أونموفيك وإضعافها، وتتدخل لحرف مسار المفاوضات التي كان يمكن أن تؤمن عودة وكالة التفتيش الجديدة إلى العراق. </br> </br> <font color="#0000FF">تقويض أونموفيك (1): إعاقة العمل </font><BR>كان الرأي العام العالمي يؤيد تجديد عمليات التفتيش وإعادة إدخال أونموفيك، كحل للغموض المحيط ببرامج الأسلحة العراقية المزعوم، ولكن الولايات المتحدة كانت تحرض ضد عمليات التفتيش، نظراً لوجود إجماع داخل الإدارة الأمريكية مفاده: لن يكون هناك جهد آخر لإحياء نظام التفتيش الذي سحب في أواخر عام 1998م. </br> لم تكن هذه هي المرة الأولى التي حاولت فيها الولايات المتحدة منع مفتشي الأسلحة من تأدية عملهم. ففي أغسطس 1998م، أوردت جريدة "واشنطن بوست" مقالة تحت عنوان: "الولايات المتحدة تعيق أعمال أونسكوم". وما إن تفككت أونسكوم من خلال قرارات السياسة الأمريكية حتى رأت الولايات المتحدة أن عمليات التفتيش غير ضرورية، ونشرت "واشنطن بوست" أيضاً في يناير 2000م: "لا شك في أن صدام حسين كان يطور أسلحة بيولوجية أو كيميائية أو نووية في السنة التي تلت طرد مفتشي الأمم المتحدة من بغداد، بيد أن الدكتاتور العراقي سيستخدم هذه الأسلحة في الظروف الحرجة فقط ، وهو لا يشكل الآن تحدياً مباشراً للقوات الأمريكية، ويمكن الانتظار أكثر منه. هذه هي طبيعة الحساب الذي أجراه الرئيس كلينتون ومستشاره للأمن القومي المتكيف سياسياً، ساندي برغر تجاه العراق".<BR>لقد ألفت أونموفيك بالتدريج، الأمر الذي أفضى إلى سلسلة تالية من العناوين في "واشنطن بوست" في منتصف عام 2000م:<BR>- "فريق تفتيش جديد مستعد للذهاب إلى العراق"... 22 أغسطس 2000م.<BR>- "العراق المتمرد لن يسمح بدخول مفتشي أسلحة جدد"... 24 أغسطس 2000م.<BR>- "أعضاء مجلس الأمن يحضون الوكالة على عدم مواجهة العراق"... 31 أغسطس 2000م.<BR>كانت الولايات المتحدة واحداً من هؤلاء الأعضاء في مجلس الأمن، وقد كتب ديليب هايرو في جريدة "الأبزرفر" البريطانية في 24 سبتمبر 2000م أن وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت "أعلنت مؤخراً أن واشنطن لن تستخدم القوة لإرغام العراق على قبول مفتشي أونموفيك التي شكلت حديثاً، ثم انضمت إلى سفراء روسيا وفرنسا والصين في الأمم المتحدة في حث رئيس أونموفيك، هانز بليكس، على عدم فرض حل معين". <BR><BR><font color="#0000FF">تقويض أونموفيك (2): رفع العائق </font><BR>في إبريل 2002م انضم طوني بلير إلى الرئيس بوش في المطالبة بأن يعطي صدام حسن حرية كاملة لأي نظام تفتيش جديد، قائلين: "عليه أن يدع المفتشين يعودون: أي فرد، في أي وقت، وأي مكان!". وطبعاً ليس هذا هو الأساس الذي عملت لجنة أونسكوم بناء عليه، فقد توصلت أونسكوم إلى اتفاق مع بغداد يحدد عدد المفتشين الذين يستطيعون الدخول إلى "مواقع حساسة"، ويشترط وجوب مرافقة دبلوماسيين أجانب رفيعي المستوى عند تفتيش المواقع الرئاسية.<BR>وإذا سلمنا بأن هذا هو خط أكثر تشدداً من الخط الذي اتبعته أونسكوم، فإن مطالبة بلير وبوش بأعمال تفتيش ينفذها "أي فرد، في أي وقت، وأي مكان" هي ولا شك محاولة مقصودة لتقويض الجهد الدبلوماسي بشأن تأمين عودة المفتشين، ومطالبة تجعل الفشل محتوماً، فبغداد لن تتحمل إلغاء اتفاقات "المواقع الحساسة"، وخصوصاً في ضوء الدليل المتعلق باختراق الاستخبارات الأمريكية لأونسكوم. <BR>وجاء في جريدة "التايمز" يوم 16 فبراير 2002م أن "شخصيات رئيسية في البيت الأبيض تعتقد أن مطالبة صدام حسين بإعادة السماح لمفتشي الأسلحة التابعين للأمم المتحدة بالدخول، ينبغي أن تفرض على نحو مبالغ فيه، بحيث يعجز عن الاستجابة لها إلا إذا أعطى المسؤولين حرية كاملة"، وقال مسؤول في الاستخبارات الأمريكية في الشهر ذاته إن البيت الأبيض "لن يتلقى رداً إيجابياً"!.<BR><BR><font color="#0000FF">تقويض أونموفيك (3): تسريب إستراتيجي </font><BR>كان (الأمين العام للأمم المتحدة) كوفي عنان يحاول معالجة عودة مفتشي الأسلحة إلى العراق، وعندما سُرب في يونيو 2002م أن وكالة الاستخبارات الأمريكية أمرت باعتقال صدام حسين أو قتله، علق سكوت ريتر بقوله: "الآن بما أن بوش فوض قوات عمليات سرية أمريكية على وجه الدقة بخلع حسين، فإن العراقيين لن يثقوا أبداً بنظام تفتيش أظهر نفسه فيما سبق أنه سهل الاختراق والتلاعب به من قبل أجهزة استخبارات معادية للعراق، بصرف النظر عن أي ضمانات يمكن أن يقدمها الأمين العام للأمم المتحدة"، وبالنسبة إلى ريتر، الذي كشف مدى اختراق الاستخبارات الأمريكية لأونسكوم، فإن "خطة العملية السرية" المسربة والخاصة بوكالة الاستخبارات المركزية تقضي على أي فرصة لعودة المفتشين إلى العراق، وتقطع الطريق على الفرصة الأخيرة لتسليط ضوء على الوضع العام الحقيقي المتعلق بأي تهديد في هيأة أسلحة دمار شامل عراقية.<BR><BR><font color="#0000FF">تقويض أونموفيك (4): تسريب أُحسن توقيته </font><BR>في 4 يوليو 2002م، وهو اليوم الأول من جولة كوفي عنان الثالثة من المفاوضات مع دبلوماسيين عراقيين بشأن عودة أونموفيك، سرب مسؤول مدني في البنتاغون إلى جريدة "نيويورك تايمز" خطة حربية مفصلة أعدها البنتاغون، توضح بعضاً من الخيارات العسكرية المطروحة للدرس، فوثيقة القيادة المركزية الأمريكية بشأن "مسارات العمل" تدعو قوات جوية وبرية وبحرية إلى مهاجمة العراق من ثلاثة اتجاهات (الشمال، والجنوب، والغرب) في حملة للإطاحة بصدام حسين، والوثيقة تضع تصوراً "لعشرات الآلاف من جنود مشاة البحرية والقوات البرية ينفذون على الأرجح غزواًَ من الكويت، وتقوم مئات من الطائرات الحربية المرابطة في ما يناهز ثماني دول، بما فيها ربما تركيا وقطر، بشن هجوم جوي ضخم على آلاف الأهداف، ومنها مطارات وطرق ومواقع اتصالات بكوابل ألياف بصرية".<BR>وعلقت جريدة "إندبندنت أون صنداي" بالقول: "يبدو أن التسريب إلى (نيويورك تايمز) - فهذا النوع من الوثائق لا يبرز مصادفة في أي حال من الأحوال - محاولة واضحة لإثارة مراهنات بعد فشل جولة جديدة من المحادثات في فيينا بين العراق والأمم المتحدة في التوصل إلى اتفاق بشأن عودة مفتشي الأسلحة التابعين للأمم المتحدة".<BR>حقاً لم يكن التسريب مصادفة بحتة، لكنه لم يأت بعد فشل المحادثات، بل أتى في منتصف المحادثات، فبعد اليوم الأول من المحادثات، أعلن كل من مسؤولي الأمم المتحدة ودبلوماسيين عراقيين أن تقدما قد تحقق، وقال عنان: إنه كان راضياً عن الجلسة، وعندما ألح عليه بالسؤال عن تكهناته، همهم فقط ، وقال بالعربية: "إن شاء الله". واستخدم (وزير الخارجية العراقي) ناجي صبري، الكلمة نفسها عندما سئل عما إذا كان قد حصل ما كان يبتغيه من المفاوضات، وقال مشاركون في المحادثات، لاحقاً: إن الخطة الحربية المسربة والمنشورة في "نيويورك تايمز" كانت "غير ذات جدوى"، ولم يكن هناك ابتسامات عريضة في نهاية المطاف، والأهم هو أن عنان وصبري لم يظهرا معاً بعد المحادثات، ولم يحددا موعداً ولا مكاناً للقاء آخر عالي المستوى. <BR>وعلقت جريدة "ديلي تلغراف" في 6 يوليو بأن فشل الأمم المتحدة سيكون مصدر ارتياح لكثيرين في البنتاغون، حيث يخشى مسؤولون كبار أن تمنح عمليات التفتيش شكلاً من أشكال الدخول، فتعطي صدام شهادة حسن سلوك لا يستحقها. هذا أمر مفشل لما هو خفي، فالحكم بما إذا كان العراق يستحق "شهادة حسن سلوك" ليس حكماً يمكن إصداره على نحو يسبق عمليات تفتيش ميدانية أو يتعارض مع الدليل المثبت من قبل مفتشي الأسلحة، والواقع هو أن "زمرة الحرب" تخشى أن تحرمها الحقيقة بشأن أسلحة العراق فرصة الهجوم.<BR><BR><font color="#0000FF">تقويض أونموفيك (5): أسئلة لم يُرد عليها </font><BR>من المشكلات المربكة لمفاوضات الأمم المتحدة-العراق، لائحة بتسعة عشر سؤالاً قدمتها بغداد إلى كوفي عنان في يوليو 2002م، وتراوحت هذه الأسئلة بين أسئلة تقنية وأخرى سياسية، بما فيها تساؤلات حول نوع الأسلحة التي سيعمل المفتشون على إيجادها في العراق، وهموم تتعلق بالطلعات الجوية الأمريكية والبريطانية في شمال العراق، وأسئلة حول إنشاء "منطقة خالية من الأسلحة" في الشرق الأوسط، ولما لم يكن عنان في وضع يسمح له بالإجابة عن الأسئلة، قام بتقديمها إلى مجلس الأمن، ولكنه لم يتلق أي رد عليها، والمسألة المركزية كانت تطلع المسؤولين العراقيين إلى ضمانات تفيد بأن الولايات المتحدة "ستلغي الحملة العسكرية إذا تعاونت بغداد مع مفتشي الأسلحة"، ورفضت الولايات المتحدة أن تجيب، مقوضة جهود التفتيش. <BR>أما الموقف الأمريكي البريطاني فهو: "إن من شأن محاولة الإجابة عن الأسئلة التسعة عشر أن يجعل زمام الأمر في يد العراق، ويضعف قدرة عنان على إقناع بغداد بالسماح للمفتشين بالعودة إلى البلد"، وهذا قلب للحقيقة بالتأكيد، فالطريقة الوحيدة لإقناع العراق بقبول استئناف عمليات التفتيش هي أن يقال بوضوح تام: ما طبيعة الصفقة الشاملة، وأن يقدم ما يضمن عدم وقوع اجتياح فيما تستمر عمليات التفتيش.<BR><BR><font color="#0000FF">تقويض أونموفيك (6): الشروع في تشويه السمعة </font><BR>في مطلع عام 2002م أمر (نائب وزير الدفاع الأمريكي) بول وولفوتز، وكالة الاستخبارات الأمريكية بالتقصي عن رئيس أونموفيك، هانز بليكس، مع تركيز خاص على سجله بصفته رئيساً للوكالة الدولية للطاقة الذرية من سنة 1981-1997م، وكان وولفوتز وزملاؤه من الصقور يأملون باستغلال فشل الوكالة الدولية للطاقة الذرية في كشف برنامج الأسلحة النووية العراقية قبل سنة 1991م كدليل على سذاجة بليكس، وبالتالي على عدم جدوى عمليات التفتيش، ومن سوء حظ زمرة وولفوتز أن وكالة الاستخبارات المركزية استنتجت أن بليكس أجرى عمليات تفتيش بشأن المنشآت النووية العراقية "بصورة تامة ضمن حدود عمله" كرئيس للوكالة الدولية للطاقة الذرية، ولم يجر تفكيك برنامج الأسلحة النووية العراقي إلا عندما سمح للوكالة الدولية بإجراء تفتيش ومراقبة أكثر تشدداً بعد سنة 1991م، ووفقا لجريدة "واشنطن بوست" فقد استشاط وولفوتز غضباً عندما بدا تقرير وكالة الاستخبارات مؤيداً لدفاع بليكس القائل: إن الوكالة الدولية لم يتسن لها إجراء عمليات تفتيش دقيقة، ولذلك لم تستطع كشف برنامج الأسلحة، ويبدو أن وولفوتز كان قلقاً من احتمال أن تنسف عمليات تفتيش جديدة خطط زملائه في البنتاغون بخصوص عمل عسكري لإسقاط صدام حسين من السلطة. <BR><BR><font color="#0000FF">عرض رُفض: </font><BR>ليس الأمر مقصوراً على الولايات المتحدة، فبريطانيا أيضاً أبدت من حين إلى آخر عدم اهتمامها بعمليات التفتيش، ففي مارس 2002م دعا العراق بريطانيا إلى إرسال مفتشين، وقال ناطق رسمي عراقي في جريدة "الثورة": إن "العراق مستعد لأن يستقبل في الحال أي فريق بريطاني يرسله بلير مصحوباً بوسائل الإعلام البريطانية ليظهر للعالم أين يطور العراق مثل هذه الأسلحة وكيف". وقد تم تجاهل هذا التصريح الهام من قبل الحكومة ومعظم وسائل الإعلام البريطانية. <BR>وكان من المستحيل تجاهل العروض اللاحقة التي قدمت للكونغرس الأمريكي في أغسطس 2002م، فقد عرض العراق السماح لأي عضو في الكونغرس بالمجيء إلى العراق مع خبراء أسلحة لتفتيش أي منشاة أو مبنى يشكون في تورطه في برامج أسلحة محظورة، فرفضت الحكومة الأمريكية العرض بلا تردد، ومثل هذه العروض ينبغي استطلاعها لا تجاهلها.<BR><BR><font color="#0000FF">استنتاج: </font><BR>لقد تأرجحت بغداد حيال استئناف التفتيش، فتارة رفضت عمليات تفتيش جديدة رفضاً تاماً، وتارة أخرى قبلتها في مقابل رفع العقوبات، ثم في أحيان أخرى عرضت السماح بدخول هيئة تفتيش جديدة مثلاً "إذا حددت المواقع التي يراد تفتيشها، وإذا وضع جدول زمني واحترم"، وقال محللون استشارتهم جريدة "فايننشال تايمز" في 6 يوليو 2002م إن العراق "سيحاول إطالة العملية السياسية، ومن المرجح أنه سيوافق على السماح للمفتشين بالعودة فقط عندما يشعر بأن هجوماً عسكرياً أمريكياً وشيك الحدوث".<BR>إن الولايات عزمت منذ البداية على نسف الجهود الهشة التي وجهتها الأمم المتحدة من أجل استمرار عمليات التفتيش في العراق. وكانت التسريبات الإستراتيجية المتعلقة بالخطط العسكرية الأمريكية - والتي تحولت إلى حرب حقيقية واحتلال للعراق فيما بعد - ورفض الإجابة عن أسئلة عراقية معقولة، والمطالبات المتطرفة بإعطاء عمليات التفتيش حرية كاملة، إستراتيجية لإحباط فرق التفتيش المختلفة وآخرها أونموفيك.<BR>وإذا استخدم المرء تجربة النظر إلى النتائج بعقلانية، يمكن القول أن موت فرق التفتيش كان سياسة أمريكية خطط لها بعناية كجزء من الترويج للحرب، وما يجعل هذا أشد تأثيراً هو أن ريتشارد بتلر نفسه اعتقد في ديسمبر 1998م أن أونسكوم ستستغرق شهرين على الأكثر لإنجاز عملية التفتيش، وكان بتلر قد التقى( وزير الخارجية الروسي) إيغور إيفانوف في موسكو في 4 ديسمبر 1998م، ومما قاله في مذكراته عن هذا اللقاء (في الصفحة 217): "سألني وزير الخارجية كم سيمضي من الوقت عبر مراجعة شاملة، قبل أن نتمكن من إعلان أن العراق مجرد من الأسلحة، وبالنظر إلى القضايا الرئيسة الباقية في مجالي الصواريخ والأسلحة الكيميائية، أجبت: ربما سيكون لدينا تقدير جيد بشأن برنامج أسلحة الدمار الشامل العراقية في غضون ستة إلى ثمانية أسابيع".<BR>وبدلاً من ذلك، خربت الولايات المتحدة وكالة التفتيش (أونسكوم)، وأعاقت عمل خليفتها (أونموفيك)، وأحدثت فجوة زمنية مدتها ثلاثة أعوام قبل أن تجري مفاوضات جدية بين العراق والأمم المتحدة بشأن إعادة إدخال مفتشي الأسلحة، وخلال تلك المفاوضات، بذلت الولايات المتحدة ما في وسعها لتهديم فرص قيام أونموفيك بوضع برنامج تفتيش ومراقبة يستطيع ضمان نزع أسلحة العراق. <BR><br>