بعد المجزرة.. حتى لا يغتال هنية
7 محرم 1429

بعد ثمانية أيام من زيارة الرئيس جورج بوش للمنطقة العربية في مستهل شهر يونيو 2003، كانت الطائرات الصهيونية تُغِير على قطاع غزة بغية اغتيال الدكتور عبد العزيز الرنتيسي.. لم تفلح المحاولة، لكنها نجحت بعد تسعة أشهر، واستشهد الدكتور الرنتيسي خليفة الشيخ أحمد ياسين رحمهما الله. <BR>امتشق بوش هذه الأيام السيف ولوح به في الهواء، وهو يضحك.. لم يجرأ أحد من "خبراء الإرهاب الكاريكاتوريين" أن يقول أنه كان "يرسل لأتباعه بشفرة العملية"؛ فالشجاعة لا تسعفهم لقول ذلك، من جهة، ومن أخرى، لا يحتاج قائد الحملة الصليبية الجديد ـ الذي أدخل السيف العربي ضمن ترسانة أسلحته ـ لأن يرسل شفرات لأحد؛ إذ الجميع يعرف دوره جيداً. <BR>أضحت الحالة العربية من الهشاشة بحيث لم يكترث معها لا أولمرت ولا بوش بعودته إلى بلاده، وتأجيل المجازر ريثما يحط في البيت الأبيض مثلما كان الحال قبل خمس سنين. <BR>لقد كانت المحاولة الأولى لاغتيال الرنتيسي مؤشراً واضحاً لرغبة شارون في ذهاب هذا العملاق من الساحة الفلسطينية؛ فمثل هؤلاء الأبطال لا محل لهم من الإعراب في الحالة العربية، ولا ينبغي لهم إلا أن يكونوا تحت الثرى في معايير أهل الأرض، أو في حواصل طير خضر ـ نحسبهم كذلك ـ في معايير السماء، وإن الظرف الدولي والإقليمي والمحلي حين استشهاد الرنتيسي رحمه الله، كان أصعب منه الآن؛ إذ لا غضاضة عند قيادات بعضها عربي الآن في ألا يكون رئيس الحكومة الفلسطيني المنتخب إسماعيل هنية في زمرة الأحياء. <BR>عندما كان الرئيس بوش قبل خمس سنوات في شرم الشيخ مع عدد من القادة العرب، كانت اللمسات الأخيرة توضع لاغتيال الرنتيسي وقد حاولوا فكانوا على مرمى حجر منه بعد أسبوع فقط من ابتسامات اللقاء.. اليوم اقترب النصل من رقبة رئيس الحكومة الفلسطيني الشرعي، حيث التلويح بالاغتيال أخذ عدة مناحٍ جدية:<BR> <BR>1 ـ مجزرة غزة الرهيبة التي ارتقى فيها ما يقارب العشرين من حركة حماس شهداء، وجرح ما يقارب الخمسين، وغاب ـ أو بالأحرى شهد أو استشهد ـ بها نجل الدكتور محمود الزهار، حسام؛ هي إحدى هذه المناحي، إذ وصلت الرسالة على الفور إلى إسماعيل هنية.<BR><BR>2 ـ تسريب معلومات صهيونية ـ ليس فيها تقيّة! ـ تحدثت عنها مصادر في حكومة إسماعيل هنية لصحيفة الحياة اللندنية الصادرة أول من أمس "إن دولة أوروبية أبلغت حكومة هنية أن الحكومة الإسرائيلية وضعت ثلاثة من أبرز قادة حماس على لائحة الاغتيالات، وهم رئيس الحكومة هنية والدكتور محمود الزهار وزير الخارجية الفلسطيني السابق (الذي استشهد نجله اليوم)، ورئيس المكتب السياسي للحركة خالد مشعل، الذي يعتقد أنه زعيم حماس" وأضافت "أن إسرائيل أرجأت تنفيذ مخططها لاغتيال القادة الثلاثة إلى ما بعد انتهاء زيارة بوش". <BR><BR>3 ـ قيام طائرة استطلاع عسكرية "إسرائيلية" بدون طيار بإطلاق صاروخين على سيارة جيب كان يستقلها نشطاء من مجموعة جيش الإسلام بالقرب من منزل هنية، ولشدة قرب العملية من منزل إسماعيل هنية؛ فإن أول من هرعوا لإسعاف الجرحى وإجلاء القتلى كانوا عناصر الأمن الذين يحرسون منزله. <BR><BR>4 ـ لم تستبعد وزارة الداخلية الفلسطينية في قطاع غزة أن يكون الشخص الذي ألقي القبض عليه 12/1/2008 خلال محاولته إدخال عبوة ناسفة كبيرة إلى حفل تكريم حجاج قطاع غزة بأنها كانت محاولة لاغتيال رئيس وزراء الحكومة الفلسطينية إسماعيل هنية الذي كان حاضرا للحفل.<BR><BR>غير أن الأهم من تلك الشواهد جميعها، والذي يسبق أي تحليل سياسي، مهما كان بارعاً، أن هنية هو رئيس الحكومة العربي الذي يخطب الناس الجمعة ويصلي بهم ويؤذن لهم، ويجلس على الرصيف بانتظار دوره في العودة إلى بلاده، ويقيم في منزل عادي في الطرف الجنوبي من مخيم الشاطئ للاجئين، ويتقاضى راتباً عادياً لا يسيل العاب ولا يغل اليد عن حرية النضال والانطلاق، ولا يمكن كبح جماح استقلاله عن الأمريكيين والصهاينة بمال يرشى به، أو ملف يهدد به، ويحمل كفنه على راحته، بانتظار أجله دون وجل أو خوف.<BR><BR>إن هنية كما الزهار وقبله فلذتا كبديه وصفُ من العظماء لابد وأن يواروا الثرى، لكونهم نجحوا في تخطي ألاعيب دحلان ومحمود ميرزا (أبو مازن)، وكشفوا عن شجاعة وثبات وعقيدة منقطعة النظير، فلا الترهيب يخوفهم ولا الترغيب يدجنهم.. <BR>"إن إرادة المحتل ليست قدراً على الشعب الفلسطيني وكلمة الأمريكان ليست سيفاً مسلطاً على رقاب شعوب الأمة ونحن قادرون على كسر إرادة المحتل وكلمة الأمريكان".[قال هنية أول من أمس].. نعم إن هذا هو أكبر ما يخشاه أولمرت وبوش، لأن بوسع بوش أن يلوح بسيفه، لكن هؤلاء لا يرهبونه، وبوسع أولمرت أن يتحدث عن نجاحات أو عمليات قتل روتينية (كتلك التي وصف بها الجريمة)، لكنه أبداً لن يخالف شعوراً سيلازمه كما لازم سلفه شارون، الذي كان يظهر صلفاً وعتواً فائقاً لكن الرعب أحاط به حتى في نومه وكوابيسه التي كان يرى فيها ـ كما حكت سكرتيرته الشخصية الأسبوع الماضي ـ أنه مقيدٌ عارٍ، يطوف به رجال الانتفاضة وبراعمها في طرقات غزة الأبية!! تجسيداً لقول الحسن البصري رحمه الله: "إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين، فإن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه".. إنه ذلك الصغار والذل الذي يشعره الأقزام جوار العمالقة؛ فيتمنوا لو أطاحوا برؤوسهم وما تحتها لتتساوى الهامات، وشتان..<BR><BR>ثم تاليا، تسعى "إسرائيل لاغتيال هنية والزهار وغيرهما لأنهما عنوانا الصمود، ومفشلا المشاريع، وحيث تنقل الصورة هذه الشعبية وهذا العرفان من شعب يأكل الزعتر وزيت الزيتون ـ كما قال هنية من قبل ـ ولا يبيع دينه وقضيته في "ذكرى" انطلاق حماس، وحيث يتجسد الصمود في تلك الوجوه البارقة؛ فإنه حتماً لابد من غيابهما حتى لا تبقى إلا الوجوه الكالحة عنواناً لمرحلة الهوان.. <BR><BR>إن التحذير لابد أن تفهمه حركة حماس اليوم ـ إننا نصرخ بملء أفواهنا ـ : لقد وضعوا الأصبع على الزناد، والفوهة مصوبة على رأسي هنية والزهار، والاستفزاز ـ ربما ـ غرضه استدعاء رد قوي من القسام ليكون مبرراً دولياً لمحاولة اغتيال مرتقبة، لاعتبار أن العنف من الطرفين، والهدف أن تنهار المقاومة ويتبعثر الأمل، وتتراجع القسام بعد أن نجحت في تحقيق التوازن الذي كان يرجوه الشيخ ياسين رحمه الله، الذي روى بدمه هذه الأرض لتنبت هذا النبت المبارك.."والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون".. <BR><br>