
قبل أن يتهيأ (لاعب الجودو الروسي السابق) فلاديمير بوتين لدخول أجواء المنطقة العربية، سدد عدة ضربات إعلامية إلى المنافس الأمريكي، فاستشاط غضب الأخير منها واستفزه إلى التعليق الفوري عليها عبر (وزير الدفاع الأمريكي) روبرت جيتس. <BR>ربما أراد الأمريكيون أن يأتي الرد من وزير دفاع دولة غارقة حتى أذنيها في مستنقعات غزواتها البائسة لإبداء قدر من التحدي العسكري الذي شعرت الإدارة الأمريكية أنه المجال المستهدف كنقطة ضعف أمريكية كانت هي السبب في انطلاق هذه المطامع الروسية التي بلغت حدود الإعلان والنقد العلني اللاذع. <BR>الرئيس الروسي ارتدى مسوح الرهبان وهو يتحدث عن العدالة والديمقراطية الغربية والعراق وما إلى ذلك، بينما سيضطر الغرب من جديد إلى تذكيره بمجازر الشيشان، التي قد تشهد بدورها تسخيناً من قبل الأمريكيين، وهذا وذاك معروفان، لكن المهم في هذه التصريحات أنها إنما أتت كتعبير عن حالة انتشاء روسية للإخفاقات الأمريكية في العالم، حدت بها إلى إظهار الشماتة من جهة، ومن جهة أخرى أخطر بكثير، أنها جاءت تتويجاً لجهود روسية في طرح الدب الروسي كبديل بوسعه إعلان التحدي العلني عن العم سام. <BR> ويبدو أن سنوات الانفراد الأمريكي بقيادة العالم التي لم تهنأ بها لمدة لا تزيد عن عقد ونصف قد غدت أقرب إلى الشيخوخة المبكرة ومن ثم إلى شروع العالم على جملة من الاحتمالات الآخذة في تصاعد متوازٍ يتمحور حول بروز قطب جديد ينازع الولايات المتحدة الأمريكية تفردها أو مجموعة من الدول تتساند لتبدي تحدياً آخذ في الارتفاع متناسباً عكسياً مع الإخفاقات المتسلسلة للدولة العظمى في ميادين العسكرية والاقتصاد والسياسة. <BR>فالتنين الصيني يستجمع اليوم قواه التي لم تستنزف في مغامرات عسكرية فيتنامية كالتي تورطت فيها الولايات المتحدة الأمريكية، يتمدد الآن اقتصادياً في إفريقيا ويوسع من أسواق إنتاجه ويتسلل نفطياً في إفريقيا وآسيا دون ضجيج، إلى جوار الدب الروسي الذي لا يخطئ المنصت وقع أقدامه تأتي حثيثاً، فالصحوة الروسية تبين في خط متصاعد للسياسة والدبلوماسية الروسية في المنطقة والعالم تواجه به حالة الانفراد الأمريكي بالقرار الدولي، ولعل الشواهد البادية على ذلك في أمريكا الجنوبية، والملف النووي الإيراني، والملف النووي الكوري، والموقف من الاحتلال الأمريكي للعراق، وصفقات الأسلحة مع سوريا وإيران.<BR>قبل شهور أصدر مكتب أبحاث الكونجرس تقريرا جديدا خصصه لمبيعات الأسلحة في العالم وتحديدا في الدول النامية. وعلى الرغم من أن الدراسة تشمل الفترة الممتدة من العام 1998 إلى العام 2005 إلا أن توقيت صدورها والخلاصة التي حرصت على الخروج بها لم تكن من قبيل الصدفة، فالتقرير ركز في شكل خاص على تقدم موقعي كل من الصين وروسيا في تجارة السلاح نحو دول العالم الثالث لينتهي إلى التحذير من عودة "الدب الروسي"إلى الشرق الأوسط من خلال أبرز "دولتين مارقتين" في المصطلح الأمريكي وهما إيران وسوريا. <BR>ولعل مشهد روسيا إبان حرب الخليج الثانية وما اتسم به من الضعف يغاير تماماً موقفها اليوم في أعقاب الإخفاق الأمريكي في الحرب الثالثة بالخليج، لا بل يمكننا أن نرى مقاربة أفضل في زمن قصير جديد لا يتعدى أربع سنوات، لزيارتين عقدتهما كونداليزا رايس (وزيرة الخارجية الأمريكية) لموسكو إبان الحرب على العراق حين عادت مظفرة من هناك وانتهت الحرب في أيام قلائل بعدها، وبين عودتها من موسكو قبل شهور مخفقة في الحصول على إجابات مرضية فيما يخص ملفات إيران وسوريا وكوريا.<BR>فأما كوريا فإن روسيا لم تبد راضية عن حصار الغرب بحرياً لها، وأما إيران وسوريا فقد غدت روسيا محركاً بخارياً لهما، وإذا كان التعاون مع إيران مستمر على نفس الوتيرة، فقد بدأ التعاون مع سوريا يأخذ منحى جديداً لافتاً، ففيما تحدثت بعض المصادر عن انضمام موسكو إلى محور طهران- دمشق أشارت أخرى إلى قيام محور جديد مواز هو محور موسكو- دمشق يعمل بتعاون وثيق مع طهران فيما يمنح للروس امتيازات في سورية تقترب مما حصلت عليه طهران... وكل ذلك مقابل تعهد بحماية النظام السوري ومساعدته على مواجهة مخططات الهيمنة الأمريكية على المنطقة.<BR>روسيا الآن كما يتراءى للمراقبين تتحرك بخطى وئيدة ليس في اتجاه طهران فحسب باعتبارها الطرف الأقوى والمهيمن في حلف طهران ـ دمشق، وإنما أيضاً باتجاه الأخيرة، <BR>لقناعتها بحيوية المرور ببلد عربي لتحقيق مشروع الاختراق الروسي للمنطقة العربية، كما أنها بالتأكيد لا تغمض عينيها عن الحراك الطائفي والقومي المتصاعد في المنطقة والذي قد يفقد الروس شراكة العرب "السنة" في حال تمادوا في توثيق علاقاتهم بالإيرانيين. <BR>بوتين اليوم في الرياض والدوحة، وبالأمس القريب كان الرئيس المصري في موسكو، أما دمشق فغير بعيدة عن الطموح الروسي الجديد، حيث تواترت أنباء منذ شهور عن اتفاقية عسكرية للدفاع المشترك وقعت بين موسكو ودمشق تم بموجبها إلغاء الديون السورية المستحقة عليها في مقابل فتح دمشق لأبوابها أمام العقود والصفقات والتجارية مع روسيا وكان أبرزها صفقات استخراج نفط وبناء مصنع وخط أنابيب غاز بقيمة 270 مليون دولار علاوة على السماح بتمركز الأسطول الروسي في المياه السورية وبناء الروس لمحطات تصنت ورادارات متطورة جدا لحماية النظام السوري وفى ضوء هذه الاتفاقية بدأ المهندسون والخبراء الروس في تجهيز مرفأ طرطوس واللاذقية لتمركز الأسطول الروسي في المتوسط وعودة الخبراء الروس إلى سوريا. <BR>دمشق التي أدارت ظهرها إلى فرنسا لفترة من الزمان ومنحت عقوداً نفطية للأمريكيين قابلوها بمزيد من الضغوط على السوريين، رأت أن تيمم وجهها شطر موسكو، المتعطشة إلى رد الصاع للأمريكيين الذين باتوا يهددون الحدود الروسية من كل مكان لاسيما مع منظومة الصواريخ الأمريكية، وتمركز الأمريكيين تالياً في دول محاذية لروسيا مثل جورجيا وأوكرانيا بعد ضمهما إلى حلف شمال الأطلسي أو بإقامة قواعد عسكرية في بعض الجمهوريات السوفيتية السابقة في آسيا الوسطى.<BR>كما لم يفت الروس أن الضعف الذي يعانيه السوريون نتيجة للعزلة، والأمريكيون نتيجة للفشل المتوالي في العراق وأفغانستان هما جواز المرور إلى العبور نحو المياه الدافئة التي لم تكتف روسيا منها بالدول متوسطة الدخل كسوريا، فاتجهت مؤخراً إلى الأغنياء في الخليج. <BR>وفي قناعة العديد من الخبراء أن اهتمام بوتين بورقتي إيران وسوريا يلحظ استخدامها في تحسين أوراقه التفاوضية مع الأمريكيين سواء لإبعادهم عن الجوار الروسي أو لتسريع دخول بلاده في منظمة التجارة الدولية أو لاستعادة بعض أمجاد الإمبراطورية السوفيتية.<BR>بوتين تحدث بالأمس للجزيرة بمرارة عن إعدام صدام ـ وإن مر على ذكره سريعاً ـ لكن ليس من الناحية الإنسانية أو القانونية وإنما طعم المرارة يستشعره بوتين بعد فقدان حليف كان يناوش به الأمريكيين في الخليج أحياناً.<BR>بيد أن بوتين بدا كأنه نشط ودولته من عقال التفرد الأمريكي والهيمنة شبه المطلقة خلال عقد أو يزيد، وغدا بسبيل النفاذ من ثغرات "أوسطية" وعربية جديدة لتحدي الأمريكيين، وفي قلب هذه الثغرات تكمن فلسطين بكل ثقلها الروحي والإسلامي على المنطقة، التي حاول بوتين أن يبدو في سياق الدفاع عن خيارها، فكأنما امتدح حماس التي سبق وأن استقبل وفدها الرسمي بحفاوة في موسكو في أعقاب فوز حماس بالانتخابات النيابية العام الماضي. <BR>وما يظهر من خلال ذلك أن روسيا قادمة، ويوم استقبلت خالد مشعل زعيم حماس غداة انتصار حماس في الانتخابات النيابية الفلسطينية كانت تضع قدمها لا في المياه الدافئة فحسب بل في قلب هذا العالم وفي موضع شديد الحساسية للولايات المتحدة الأمريكية أين منه جورجيا أو أفغانستان، ولاعب الجودو الروسي، ولو أنه حرص على أن لا يستفز الولايات المتحدة الأمريكية كلياً ويترك لها هامش المفاوضة معه، إلا أنه رغب في إبلاغ رسائله إلى الأمريكيين وغيرهم بإعلان عودة القوة الروسية للمجال الدولي كقوة فاعلة ذات مصالح مرعية، وانتهاء عصر الانفراد بالقرارات الدولية وتوجيه رسالة إلى الاتحاد الأوروبي ودوله الرئيسية تلفت إلى إمكانية التحرك الفعال ضد الاستئثار الأمريكي بمقدرات السياسة الدولية، ويبدو أن فرنسا على الأقل قد تسلمت الرسالة، وعودة اللاعب الروسي إلى المياه الدافئة، وبؤرة الطاقة العالمية الرخيصة بعد تداويه من جراح الانفراط.<BR>وقد لا يكون بوتين بحاجة إلى تذكير الأمريكيين بما يجري في الحديقة الخلفية للولايات المتحدة الأمريكية، في أمريكا الجنوبية، التي تراها الولايات المتحدة الأمريكية تنسل من بين يديها من دون أن تجد ما يمكنها فعله حيالها لاسيما في فنزويلا وكوبا وبوليفيا ونيكاراجوا التي توشك أن تتخذ قراراً تاريخياً بالوحدة على غرار الاتحاد الأوروبي يصب في صالح الروس، ويفقد الأمريكيين امتداداها الاقتصادي والاستهلاكي الجنوبي الذي ترقبه الصين اقتصادياً، وروسيا أيديولوجياً وعسكرياً. <BR>وإنما كان بحاجة في هذا التوقيت إلى فعل أي شيء لإبداء قدر من التحدي لمشروع استقلال جمهورية كوسوفا المسلمة عن جمهورية الصرب الموالية تاريخياً لموسكو، والذي يدرس خلال هذه الأيام، فكانت دغدغة مشاعر المسلمين من قبل بوتين حول الديمقراطية التي جلبت حماس للحكم والتي يقبل بها من دون الغرب، وقد لا يرضينا هذا النفاق الروسي لكننا بالتأكيد نقر بأن بوتين قد سدد بقدمه ولسانه ويده ضربة قوية للإستراتيجية الأمريكية الآخذة في الأفول.<BR><br>