حج السنة وعاشوراء الشيعة
9 محرم 1428

<p>هذا العنوان خاطئ، فالحج هو الركن الخامس في الإسلام، وعاشوراء يوم عظيم في التقويم الإسلامي لسبب، وهو أنه يوم نجا الله تعالى فيه موسى عليه السلام، والمسلمون كما أخبرهم نبيهم صلى الله عليه وسلم أولى بنجاة موسى عليه السلام من اليهود.<br />
الحج هو نقطة الذروة في السنة الهجرية، تجتمع فيه أسرار العبادات الإسلامية من عبادات بدنية ومالية ونفسية وفكرية، فالمسلم يطوف ويضحي ويدعو وينقطع عن الدنيا، فهو ذروة فقهية، وفيه يرجم الجمرات خذلاناً للشيطان وينحر إذعاناً لأمر الله فهو ذروة العبودية، ويسعى بين الصفا والمروة التحاماً برسالة أبي الأنبياء، فهو ذروة أيديولوجية، وفيه يستوي الغني مع الفقير، والقوي مع الضعيف دون اعتبار للون أو لسان فهو ذروة حضارية.<br />
بعد أداء الفريضة يزور الحاج العاصمة الأولى لدولة الحضارة العربية الإسلامية للصلاة في المسجد النبوي وهناك يسلم على منقذ البشرية، وتسجيل الولاء للصف الأول من القادة الذين وضعوا أسس النظام السياسي الذي غير خريطة للعالم إلى غير رجعة، فهو ذروة سياسية. <br />
بشقي رحلة الحج هاتين تكتمل صورة الولاء عند المسلم، بشقيها الفقهي والسياسي.<br />
مقابل مشهد الحج، وبالكاد بعد أسبوع على انقضائه، ينعقد عيد غدير خم في النجف الذي يؤمه الشيعة من كل صوب. رسالة العيد هي أحد أركان المعتقد الشيعي، وهو: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى لعلي رضي الله عنه وأرضاه بالخلافة من بعده، وهي وصية لم تنفذ. بلغة العصر: انقلاب سياسي مبكر جداً وقع في دولة الحضارة العربية الإسلامية حال وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، قاده الخليفتان الأولان، وتمخض عن انحراف في انتقال السلطة منذ ذلك الحين.<br />
حرارة الجو السياسي تستمر في الارتفاع لتصل مداها في عاشوراء حيث اليراءة من النظم السياسية التي احتوت الحضارة العربية الإسلامية فيما بعد، وتوريثها وزر مقتل الحسين رضي الله عنه وأرضاه، في مشهد دموي من لطم الخدود وضرب الأجساد بالسلاسل، ويتكرر المشهد في الذكرى الأربعين لاستشهاده رضي الله عنه.<br />
مشهد الدماء واللطم والإغماء والموت أحياناً ولافتات الوعيد التي شاهدها العالم الإسلامي حية على الهواء للمرة الأولى بعد سقوط العراق لم تكن محط إعجاب كبير لدى شريحة رجل الشارع في العالم العربي والإسلامي لاسيما على خلفية مشهد الحج، وربما ساهم في انسداد الشهية الفكرية عند هذه الشريحة ـ وهي الأغلبية في كل مجتمع ـ هي أنها تبني قناعاتها بناءً على المشاهدة وليس القراءة، والبون الشاسع بين المشهدين لم يترك هامشاً واسعاً للاختيار.<br />
يبقى السلوك العام للجماعة والفرد هو أولى الاعتبارات التي يوليها الرأي العام قبل تقرير علاقته مع أية فكرة سياسية، مهما كان المجتمع بسيطاً، فعناد قريش الفكري مع الدين الجديد كسره في أحايين عدة رصيد الرسول صلى الله عليه وسلم الأخلاقي قبل الرسالة، ثم شخصه صلى الله عليه وسلم بعد البعثة، الذي وصف بأنه كان &quot;قرآناً يمشي على الأرض&quot;.<br />
يذكر في هذا المقام أن انتشار الإسلام بين شعوب شرق آسيا لم يتحقق على أيدي دعاة أو ساسة أو مطبوعات ملونة، وإنما أوصله تجار كانت مؤنتهم الدعائية الوحيدة هو سلوكهم وهيبة شعائرهم الدينية، التي صادفت الفطرة الإنسانية لتلك الشعوب، فاستهواها الإسلام بناءً على مشهد أخلاقي وروحي، ثم نظرت إلى ما وراء ذلك المشهد، فارتضته منهاج حياة.<br />
التحول العميق في حياة شعوب شرق آسيا لم يكن قراراً سهلاً، فهم أول من دان بدين سماوي في ذلك الركن من العالم الذي لم تعرف أقوامه غير الديانات البوذية. الأهم من ذلك هو أن التحول حدث واستمر دون سلطان سياسي، أو حراسة أمنية، وهي حالة أقرب ما تكون للمثالية والنظريات الاجتماعية منها إلى الواقع.<br />
المثال الآسيوي هو عكس المثال الإيراني، الذي قادت فيه الدولة الصفوية انقلاباً أيديولوجياً غير أبيض في القرن العاشر الهجري ونشرت المذهب الشيعي، وقامت أجهزتها بحراسة بوليسية للأيديولوجيا الجديدة، التي أخرجت إيران من دائرة المذهب العام للحضارة الإسلامية بعد أن كانت معقلاً له، ووقفت الأجهزة الأمنية منذ ذلك الحين حاجزاً أمام محاولات حقيقية للحد من الشرخ مع الخط العام للحضارة العربية الإسلامية وتصفية روادها.<br />
ما دلت عليه فصول التاريخ هو أن المذهب الشيعي بأيديولوجيته وطقوسه قد يمسك بالجغرافيا لكنه لا يمسك بالتاريخ، فقد حكم العبيديون ( الفاطميون) شمال أفريقيا زهاء قرنين من الزمان، لكن التشيع، بشقيه الفقهي والسياسي زال لحظة زوال الكيان السياسي للدولة العبيدية، وعادت مصر إلى الخط العام للحضارة العربية الإسلامية بشقيه الفقهي والسياسي وسط احتفالات شعبية، ربما على غرار احتفالات أوربا الشرقية بعد زوال النظم الاشتراكية، وكان لذلك التحول تبعات سياسية إستراتيجية بالغة الأهمية في المنطقة العربية، يمكن أن تفهم على ضوئها أحداث معاصرة.<br />
يمكن القول أن تمدد التشيع خارج مساحاته التقليدية يتطلب حراسة سياسية، أو مؤثر خارجي، أو الاثنين معاً، وأن انتشاره أو انحساره ديموجرافياً في مجتمع ما هو &quot;بارومتر&quot; للواقع الثقافي العام لذلك المجتمع، ولعالم الاجتماع العراقي الكبير الدكتور علي الوردي (وهو شيعي) رأي حول تأثر عملية التشيع بوجود عوامل سياسية تحرسها، تؤيده الأدلة الميدانية في تفسير ظاهرة تشيع قطاعات من عشائر الجنوب العراقي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في ظل حالة التردي الثقافي في العهود الأخيرة للدولة العثمانية.<br />
الأيديولوجية الشيعية ليست أيديولوجية رمادية، بل أيديولوجية أسود وأبيض، وهي سمة تسهل عملية الاختيار ويرغبها الناخب السياسي، لكن فترة خمسة عشرة قرناً من العمل السياسي تكفي للحكم على حظوظ مدرسة سياسية لا تتجاوز أسهمها أكثر من 4 -5%من مجموع الناخبين. <br />
ما ينتظره الناخب من أي مدرسة سياسية هو رؤية مشرقة وأجندة متجددة وقدرة على التطوير والخروج من الأزمات.<br />
من بين ما رصدته عين الصحابي الجليل عمرو بن العاص رضي الله عنه في هذا السياق من سمات حيوية عند الروم هو أنهم &quot;أسرع الناس إفاقة بعد مصيبة&quot;، وهي سمة بارزة عند الأوربيين المعاصرين الذين أقاموا مؤسسات للإفاقة الفردية والجماعية وإعادة التأهيل. <br />
العكس هو عندما تكون المصيبة هي الثقافة، والحداد هو سمتها، والطقوس هي الضامن على استمرار المصيبة، وهي التي تنكأ الجراح كلما أرادت أن تندمل.<br />
من هذا الباب أباح الإسلام الحداد، لكنه نهى عن إطالته، فلا حداد فوق ثلاث، لما في الإطالة من شل للقدرات وإماتة للنفوس وضياعاً للطاقات، والمجتمع أولى بسرعة الخروج من الصدمة واستعادة الحيوية والالتحاق بركب الأمم.<br />
<font color="#ff0000">والحج إفاقة لكل &quot;من حج ولم يرفث ولم يفسق&quot;، وإعادة تأهيل للنفوس التي أحبطتها الأخطاء والهموم، وهذا هو الفرق بين ثقافة تستقبل عامها الجديد بالنظر إلى الأمام وإلقاء الهموم، وأخرى تنظر إلى الوراء، وتراكم الهموم وتستقبل عامها بالعزاء. </font><br />
<br />
ليس من شطط الكلام القول أن ارتباط أيديولوجية التشيع بالحداد ارتباطاً عضوياً، واعتبار القبر واحة للفكر تنهض حوله التجمعات السكانية ومعاهد العلم، وإدامة التوتر النفسي تجاه المحيط الاجتماعي العام وتحميله وزر مأساة القرن الأول الهجري، استهلك قدرات هذه المدرسة عبر القرون، وحال دون خروجها من هذه الحلقة المفرغة، والتطور في اتجاه برامج وأجندات أكثر شمولية، وأبقاها خارج الحياة السياسية والثقافية العامة للحضارة العربية الإسلامية، وخارج خيارات الناخب، وظلت خصومتها مع النظم السياسية المتعاقبة على هذه الحضارة موضع اهتمام القوى الخارجية.<br />
مزاولة الأقلية الفكرية لأدوار الأغلبية في ظروف استثنائية يجعلها تحت دائرة الضوء، وتحت تدقيق شعارات وصكوك فكرية أصدرتها، لا رصيد لها في خزائن التاريخ، ويحتم عليها استئناف أدوار في العلن كانت تزاولها في الظل.<br />
فإيران الحوزة التقت مصالحها مع مصالح قوى عالمية ضد جاريها المسلمين ثلاث مرات خلال عقدين، تارة مع الشيوعية في أفغانستان، وأخريين مع المسيحية المتصهينة في أفغانستان والعراق. <br />
<font color="#ff0000">التقاء مصالح التشيع الفارسي تاريخياً مع مصالح قوى خارجية كروسيا والبرتغال وأوربا بشكل عام ضد مصالح الجغرافيا الإسلامية ليس سراً دفيناً، ومكانها أراشف التاريخ لمن أراد الوصول إليها، لكن الحقيقة هي أن أحداً لم يشأ الوصول إليها، أما اليوم فهي مبتغى الجميع. </font><br />
لقد حققت المدرسة الشيعية إبان قرون أمضتها في المعارضة نجاحات على صعيد الاستقلال الذاتي المالي والثقافي، ومحاولات استعطاف الرأي العام العربي والإسلامي، وتسويق أيديولوجية المظلمة، وانتزعت ولاءً قوياً من الشارع الشيعي. لكن أشهراً قليلة في موقع الحكم الجديد في العراق كانت كافية لإطلاق مسلسل الأخطاء القاتلة لمدرسة أمضت حياتها السياسية في معسكر المعارضة. الأهم من ذلك هو تآكل المصداقية أمام الشارع الشيعي العربي الذي ولد ونشأ واشتد عوده على شعارات تتساقط الواحدة تلو الآخر أمام الواقع. <br />
<font color="#ff0000">يبقى من حق الشيعة ممارسة طقوسهم التي حفظتها لهم التعددية الثقافية والفقهية للحضارة العربية الإسلامية على مر العهود، ولكن ليس من حق المذهب الشيعي تقديم نفسه في لحظة اختلال في تاريخ هذه الحضارة على أنه هو وجه الإسلام الصحيح. </font><br />
<br />
أما أهل السنة اليوم، فمن حق حضارتهم وتاريخهم عليهم الإفاقة، والإدراك أن المعني بصراع الحضارات على الدوام هي الألوان الأساسية للحضارات العالمية وليست أطيافها، وهم أحد تلك الألوان. وحسبهم أن الجيوش الأمريكية والأوروبية عندما تدخل المنطقة العربية، فهي ليست بحاجة إلى من يذكرها أي ديار وطأت، وأي أنف مرغت، وأي مناهج تغير، ومؤازرة من تحتاج، وللقارئ متعة الاسترسال بهذه التساؤلات التي تضع الكثير من النقاط على الحروف.<br />
الحديث عن السنة والشيعة ليس حديثاً طائفياً، وإنما تعاملاً مع الواقع السياسي الحقيقي للمجتمع، وحسبنا أن تقسيم الأمريكان للمجتمع العراقي لم يكن على أساس البعث والشيوعية والليبرالية، لقناعتهم بأن هذه طلاءات خارجية، وأن الدين هو الانتماء السياسي الأول الذي يفطم عليه البشر. <br />
ولا زالت أوروبا العلمانية تقارن بين البروتستانتية والكاثوليكية وحتى هذه اللحظة، لكنها ليست مقارنة بين فروقات مذهبية، وإنما عن مآلات نمطين مختلفين من الفكر؛ مدرسة متصلبة أعجزها التجديد والتطوير فأفلت في الأفق السياسي العالمي، وأخرى براجماتية متجددة هي المسؤولة عن المدنيات التي تسود العالم اليوم كأمريكا وبريطانيا وكندا واستراليا ونيوزيلندا.<br />
وعندما تتنافس حضارات العالم الكبرى (الكونفوشية واليابانية والسلافية وغيرها) مع العولمة، فإنها في حقيقة الأمر تتنافس مع المسيحية الأنكلوسكسونية البروتستانتية، أما فرنسا فلم تنجها أمومتها للعلمانية من قذف العالم لها بالكثلكة في قضية منع الحجاب.<br />
لا خلاف أن هذا الموضوع ليس مادة مثالية لجدالات برامج الإثارة الفضائية الحية، أو برنامجاً انتخابياً لحزب من الأحزاب السياسية، أو حتى حديثاً لناطق باسم هيئة، لكن تجاوزه في المطبخ السياسي لأية حركة سياسية يحرق الطبخة، وحسبنا أن الذين رشقوا فرنسا بالكثلكة هم المفكرون في حين صمت السياسيون!</p>