العدالة الأمريكية بين "أوجي" و أبي تركي
27 رجب 1427

لعل من رحمة الله تعالى بالبشرية عموما والمسلمين خصوصا أن كل دين أو مذهب أو فكر يخالف صراطه المستقيم لابد أن يقابل بامتحانات عسيرة تبين مصداقيته وتختبر قدرته على البقاء في أذهان الناس وقلوبهم فضلا عن واقعهم. وهذا الأمر يستوي فيه المنتسبون للإسلام وغيرهم. ولكن حكمة الله جعلت للباطل عمرا يفتن الله تعالى به الناس حتى يميز الصادقين في إتباعهم لطريقه القويم ممن تتخطفهم الأهواء والمظاهر التي لا تحمل في طياتها إلا الخواء والبلاء.<BR>وقد كان الغرب فيما مضى من عقود موئلا لكل من فقد الأمن والعدل في بلاده من أنحاء العالم قاطبة، وما ذاك إلا لأنهم اتبعوا أنظمة قضائية ساوت بين الناس أمام القانون، وجعلوا الحرية أساسا للتعامل بين أفراد مجتمعاتهم. ولكن الغرب، وخصوصا أمريكا، بقيت فيه رواسب العنصرية والاستعلاء على الآخر بشكل مقيت. فحتى الستينات الميلادية عاش الأمريكيون من أصل أفريقي في ظروف في غاية السوء، لقد كان إرهابا حقيقا ما عايشوه على أيدي العصابات العنصرية مثل منظمة "كو كلكس كلان" التي قتلت بعض السود وأحرقت منازل آخرين بشكل وحشي، بل إن بعض أفراد القطاعات الأمنية الحكومية كانت تشارك أو تتستر على القتلة والمعتدين تضامنا معهم.<BR>وفي الوقت الذي فرضت فيه ظروف الاقتصاد والسياسة العالمية التخلص من بقايا العنصرية المخالفة للدستور الأمريكي نفسه الذي ينص في أولى فقراته على كفالة الحرية للمواطنين (!!!) نال السود شيئا من حقوقهم وأصبحوا في الظاهر يتمتعون بالحقوق المدنية نفسها التي يتمتع بها البيض. وإن كانت بقايا العنصرية الخفية لا تزال موجودة في قلوب كثيرين من أبناء الشعب الذين يرسلون أبناءهم إلى دول مختلفة في العالم قد يفقدون أرواحهم في سبيل إهدائها الحرية التي لم يذوقوا طعمها الحقيقي كأفغانستان والعراق الحرة!.<BR>قبل أكثر من عشر سنوات (في صيف عام 1994) قام لاعب كرة أمريكي أسود -أصبح ممثلا بعد اعتزاله اللعب- يدعى "أو جي سيمسون" بقتل طليقته الشقراء "نيكول براون" مع عشيقها اليهودي "رونالد غولدمان" ذبحا بالسكين. يُعتقد أن دافع الجريمة غير المعلن كان خشيته من أن تشاركه في ثروته خاصة بعدما رأى عشيق مطلقته يقود سيارة كان يمتلكها "أو جي" مما أثار حنقه ورغبته في الانتقام. انتشر خبر الجريمة في أرجاء أمريكا مباشرة، ثم جاوز حدودها لينتشر في جميع أنحاء العالم، خاصة لحظة اعتقاله "الهوليودية" عندما طاردته سيارات الشرطة وهو مصوب مسدسه نحو رأسه في نقل تلفازي حي عبر طائرة هليوكوبتر.<BR>كانت محاكمة "أو جي" أبرز أخبار أمريكا في تلك المدة التي امتدت تسعة أشهر، وكانت محطات إخبارية شهيرة (مثل سي إن إن) تنقل مداولات المحاكمة كاملة يوميا من قاعة المحكمة، مما جعلها تسمى بـ "محاكمة القرن". اكتسب المشاركون في المحاكمة، كالقاضي والادعاء والشهود بل وحتى المحلفين شهرة كبيرة أثناء وبعد انتهاء المحاكمة، أما المحامي "جوني كوكران" فاشتهر عالميا وأصبح في مصاف النجوم الكبار.<BR>رغم ما كان واضحا في مرحلة متقدمة من المحاكمة من أن "أو جي" هو من قام بالجريمة، إلا أنه خرج منها بحكم براءة بأغلبية أراء المحلفين! كان السبب واضحا للمحللين والمراقبين، فقد عقدت المحاكمة في إحدى ضواحي مدينة لوس أنجلس بولاية كاليفورنيا أغلب سكانها من السود، ولذلك جاء الاختيار العشوائي للمحلفين بنسبة 9 سود من 11 محلفا! أظهرت هذه المحاكمة وجود تعاطف عنصري عرقي تجاوز الجريمة ذاتها من قبل المحلفين السود مع شريكهم في اللون أمام العنصرية البيضاء التي يعيشون تحت سياطها وإن كانت غير معلنة. <BR>كانت المحاكمة الأولى جنائية رفعها الادعاء العام للولاية القضية ضد "أو جي"؛ فقام والد عشيق زوجة "أو جي" رفع قضية مدنية ضده ولكن في ضاحية أخرى معظم سكانها من البيض تفاديا للتعاطف العنصري مع "أو جي"، وربما توظيفا للعنصرية البيضاء التي ظهرت في مداولات وسائل الإعلام وبدت ظاهرة في صورة غضب لتبرئة مرتكب جريمة واضحة! ولذلك جاءت نتيجة المحاكمة الأخيرة إدانة "أو جي" بجريمة القتل بأغلبية آراء المحلفين وحكم عليه القاضي بغرامة مقدارها ثلاثة وثلاثين ونصف مليون دولار لصالح والد القتيل، مما اضطر "أو جي" إلى بيع قصره الفخم حتى يتمكن من دفع تلك الغرامة.<BR>لم يكن للقضاء بعد تلك المرحلة الحق في إدانة "أو جي" بجريمة القتل لأن الحكم صدر ببراءته جنائيا!، وكان هذا الأمر مستغربا لمن لم يعش تناقضات "العدالة" الأمريكية! إذ كيف يكون الشخص بريئا ومذنبا في آن واحد، وفي ظل نظام قضائي واحد، بل في الولاية والمدينة نفسها؟! ولكنه نظام يلعب فيه رأي القاضي وموظفو المباحث الفيدرالية (FBI) والمدعي العام وربما المحكمة العليا (Supreme Court) دورا مؤثرا في إمضاء أجندات خفية تخدم مصالح فئات أو نخب من أبرزها اللوبي الصهيوني (الذي يشترك فيه بعض النصارى مع اليهود) المناصر لما يسمى بإسرائيل والمعادي للمسلمين في الوقت نفسه. ربما لو أدين "أو جي" سيمسون بالقتل المتعمد لطليقته وعشيقها لما نال حكما بالسجن المؤبد. ولكن لأن قضيته لم يكن الإسلام وتعاليمه طرفا فيها، فالأمر يسير بالنسبة للوبي الصهيوني، حتى ولو كان المقتول يهوديا!<BR>عندما سمعنا عن قضية السعودي حميدان التركي "أبو تركي" المبتعث لدراسة اللغويات في ولاية كولورادو الأمريكية ظهر منذ البداية استناد الإدعاء على تهم التضخيم والمبالغة فيها واضحان. وهذا ما ظهر في ابتزاز الخادمة وترهيبها التي شاء الله أن يجعلها مطية لذئاب الـ (FBI) المسعورة ضد العرب و المسلمين لافتراء قضية يدان بها حميدان. إذ بدأ الأمر من قضية صغيرة كانت آلاف القضايا مثلها تمر على دائرة الهجرة دونما حتى إثارة تساؤل، ألا وهي قضية انتهاء الإقامة وعدم تجديدها في الوقت المطلوب.كانت قضية مخالفة أنظمة الهجرة مدخلا نفذ من خلاله موظفو المباحث الفيدرالية (FBI) إلى منزل حميدان لاحتجاز جميع ممتلكاته والبحث فيها عن ما يمكن أن يُحوَّر ويُوظف كتهمة توجه إليه. فالجريمة ليست موجودة أصلا ولكنها العنصرية المتزايدة ضد العرب والمسلمين، وخاصة السعوديين مؤخرا.<BR>كان وجود الخادمة مع حميدان وأسرته أيسر طريق لتحقيق هذا الهدف المبيت، فقد حاول المحققون أن ينتزعوا من الخادمة قولا ضد حميدان أو أسرته فلم يفلحوا، وذلك عبر إحدى عشرة محاولة باءت كلها بالفشل. حتى إذا جاءت المرة الثانية عشرة رضخت الخادمة وقالت ما يريدون -نتيجة لترغيب أو ترهيب- ولكنها ما لبثت أن تراجعت عن أقوالها فجاءها التهديد صريحا بأن تحافظ على أقوالها وإلا نالت عشرين سنة في السجن عقابا لها على إعطاء السلطات معلومات كاذبة!<BR>عزف الادعاء في قضية حميدان على وترين يعلم أثرهما على الأمريكيين: الاستعباد وحرية المرأة! فتاريخ أمريكا يحمل ذكريات مؤلمة في قضية العبودية التي عانى منها السود ردحا طويلا من الزمن حتى ألغي الاستعباد، ثم مرت فترة من الزمن لم يكن السود فيها عبيدا ولكنهم لم ينعموا بحريتهم كبقية المواطنين حتى أقرت أنظمة المساواة في العرق والجنس واللون. فعندما استدعيت الخادمة "تحت الترهيب" لتدلي بأقوالها تصف شيئا من حالها عند حميدان وأسرته، جاء المدعي بأسئلة ماكرة تكون إجاباتها مفزعة للمواطن الأمريكي العادي. فقد جعل الحجاب الذي ارتدته الخادمة برضاها –ربما استجابة لرغبة مخدوميها- إجبارا عليه، وجعل نومها في القبو حبسا لها، وجعل جمع أموالها المستحقة كرواتب -برغبتها- حرمانا من الأجر واستعبادا كاملا لها. هذه التهم كلها لا يتقبلها عاقل عرف السعودية وأهلها وأساليب تعاملهم مع الخادمات، وإن كانت هناك تجاوزات لا تنكر من قلةٍ منهم.<BR>أحضرت دمية ملفوفة بالسواد لتمثل حال الخادمة التي أجبرت على ارتداء ملابس "مهينة" طوال عملها معهم، لإعطاء مشهد درامي تمقته نفوس الأمريكيين الذين اعتادوا على رؤية المرأة بأقل لباس ممكن! فحبكت المؤامرة، وتظافرت جهود أعداء حميدان ليصبح مجرما في عين العدالة الأمريكية! كيف لا وهو الذي أتى من بلاد رجالها متوحشون ضد أمهاتهم وزوجاتهم وأخواتهم وبناتهم فكيف بخادمة أجيرة مستضعفة أحضرها من بلاد بعيدة ليستعبدها في بلاد الحرية!<BR>وفي حقيقة الأمر فكل ما يحتاجه الادعاء العام في أي ولاية لإدانة أي شخص ثلاثة أمور، أولا: قاض منحاز أو متأثر بما قيل -ولو قليلا- ضد المسلمين، وهذا متوافر في أغلب القضاة بعد الحملة الإعلامية الشرسة ضد المسلمين، وثانيا: عدد من الشهود الذين يؤكدون أقوال الادعاء منهم أفراد الـ (FBI) القادرين على وصف "مسرح الجريمة" بشكل درامي وخبراء منتقون بعناية لتأكيد أقوالهم، وثالثا: محلفين من عامة الشعب لا يعلمون حقيقة الحملة الظالمة ضد المسلمين، خاصة عندما يؤكد على أن المتهم ينتمي للبلد نفسها التي أتى منها 15 فردا شاركوا في ضرب البرجين في الحادي عشر من سبتمبر!<BR>من المفارقات العجيبة أن المحاكمة جرت في مقاطعة أرباهو (Arapaho) وهي التي تقارب الأحرف الأربعة الأولى منها كلمة "عرب"، ليصدر الحكم بإدانة حميدان من محكمتها وهو العربي المسلم القادم من بلاد الحرمين الشريفين ليكون نصرا للوبي الصهيوني في أمريكا المتشدقة بالحرية التي رأينا أطرافا واضحة منها بدأت في سجن قلعة جانجي بأفغانستان، ومعتقل جوانتانامو وتوجتها في سجن أبو غريب بالعراق، التي فاقت معسكرات الاعتقال النازية والشيوعية اللتان كانت أمريكا تتهكم بتلك الدول لأجلها.<BR>ربما يصعب علينا القول إننا نستشعر معاناتك أبا تركي في كل لحظة ونحن ننعم بالدفء بين أزواجنا ومع أطفالنا ننام ملء جفوننا، وأنت تقبع عالي الهامة في سجن فراعنة هذا الزمان الذين كشروا عن أنيابهم وكفروا بمبادئهم لأجل إدانة برئ ليس له ذنب سوى أنه من أمة عظيمة تركت دفة قيادة العالم لغيرها فأفسدوا أكثر مما أصلحوا. كما نقول: لست أول ضحايا أمريكا ولا يبدو أنك ستكون الأخير! ربما لو كنت قاتلا أو سارقا لنالك أقل مما أرادوا لك، ولكنهم اختاروك لتصبح كبش فداء لتنفيذ هجمة ظالمة وشرسة على الإسلام والمسلمين عموما، وعلى السعوديين خصوصا. فاصبر واحتسب أبا تركي وما صبرك إلا بالله، الذي نسأله تعالى أن يظهر براءتك ويعيد كل معتقل مظلوم إلى أهله سالما في القريب العاجل.<BR><BR>---<BR>عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود<BR>ورئيس تحرير مجلة الأسرة<BR><br>