العلاقة بين قادتي الانقلاب الفكري والانقلاب العسكري (2/ 2)
16 رجب 1427

[email protected]<BR><BR><BR> في الحلقة الماضية بيّنا صفة وعينة كل من القائد العسكري ، والقائد الفكري ، وحاجة الأول للثاني ، والسياسة التي يسير عليها القائد العسكري مع قادة الفكر ، نواصل في هذه الحلقة جوانب من تلك العلاقة . <BR><font color="#0000FF"> ( 6 ) </font> العلاقة قد يعكر صفوها الكدر ، فتتقلب ما بين شد وجز ، فبعدما ما يتم التمكن من الرقاب ، القادة العسكريون لا يضيرهم انكشاف الحقيقة ، فتبدأ المرحلة الثانية ، وهي الاستبداد ، فالحاكم لا يريد أحداً أن يعارضه ، أو حتى أن يراجعه في أمر من أموره ، فلا يرضى من أعوانه ومواطنيه إلا أن يكونوا آلة مسخرة مطيعين لأوامره ؛ كيفما كانت مذعنين لإرادته ولو انحرفت عن السبيل ، يريد منهم أن يجيدوا فن التهليل والتكبير والتبرير ، ومن لم يكن كذلك فإخلاص وولاؤه فيه دخل ، بهذا يكون مقياس الإخلاص والولاء . ومع أن الحاكم يَطرب لمثل هذا الولاء ؛ إلا أنه في قرارة نفسه أن منه نفاق وتزلف ، فهذا الحجاج بن يوسف يعد أحد دعائم دولة بني أمية في عهد عبد الملك بن مروان ، لم أساء الأدب في مجلسه ، وزاد على جرعة الوقاحة ، خاطبه عبد الملك بقوله : إن في بعض الولاء نفاق ، وفي بعض الجرأة وقاحة ، ولا يشفع ولاؤك لوقاحتك . أما قادة الفكر فمنهم الرجل الأبي مقياس الإخلاص عنده لسلطانه مصارحته ، وإرشاده ، ومكاشفاته ، وأنه تربى على عدم الاستكانة ، والخنوع للمخلوق الفاني مهما علا شأنه ، وعظم سلطانه . ولو استرجعن الذاكرة إلى الوراء لقدح في ذهن كل واحد منا سعيد بن جبير ، وأحمد بن حنبل ، والعز بن عبد السلام ، وابن تيمية ، والمنذر بن سعيد البلوطي ، وقائمة لا حصر لها . وما دفعهم لسلوك هذا المنهج ؛ إلا دِيانة وصدقاً ، وحباً للخير ، مع يقين كل واحد نتيجة فعالهم هذه . والتاريخ يعيد نفسه فما عليك إلا أن تقلب ناظريك في العالم من حولك بدأً بالأقرب ثم الأبعد ستجد هذه الصور حية ، وتجد أن هناك سجون بنية لهذا الغرض ، وسيوف سلت للغرض ذاته . <BR><font color="#0000FF"> (7) </font> القادة السياسيون مما يكدر خاطرهم ، ويزعجهم ، ويقلقهم أن يوجد بين ظهرانيهم علماء لهم إحساس مرهف ، وتفكير مستنير ، يعون أسلوب الخداع ، قادرين على كشف الحقائق للأمة ؛ لتعرفه ، فتحدد موقفها من ذلك . ويتهيأ ذلك للمفكر إذا لم يتطلع إلى منحهم ، وزهد فيما بين أيديهم ، وكان صادقاً صريحاً في ذلك ، عنده اليقين الجازم أن الرزق والإنعام من رب العباد ، ويعلنها صريحاً مدويةً مخاطباً من منع المعاش \" الله يرزق الخشاش\" ، \" بالحق واليقين تنال الإمامة في الدين \" بعيداً عن امتطاطها ، وجعلها شعاراً يحقق بغيته من خلالها ، شاعراً بذلك أو لم يشعر ؛ فإنه سرعان ما تنكشف الحقائق . فيضق بذلك الحكام صدراً ؛ فيسارع إلى حجب هذه الأصوات الصادقة ، وتجفيف منابر الأصوات الواعدة ، وتكميم الأفواه الصريحة ، والحيلولة بين تلك الصيحات ، وجموع الأمة خوفاً من التأليب ، وخشية التأثير على جماً غفيراً ، وأناسي كثيراً ، وتغير موجات تفكير الجموع ، وإثراء العقول بما لا يراد لها ، والنقلة فيما تريده الأمة . <BR><font color="#0000FF"> (9) </font> قادة الفكر عند القيام بتفتيش قاموس القادة العسكريون ؛ والنظر في تاريخهم يؤمنوا بقول من يقول : ليس في هذا القاموس سياسة \" مسك العصا من الوسط \" ، و سياسة \" إنصاف الحلول \" ، ولا منهج \" أقل القليل \" . فالسلطان يريد منك الرضا بسياسته بحلوها ومرها ، مظهراً الحب والولاء والمناصرة له ، مدعوماً ببرامج عملية ، والاستمرارية على طول الطريق ، وبذل الجهد في ذلك حتى النخاعة ، وهذا هو واجبه عليك ، وما تقتضيه طاعة الولي والسلطان ، ودليل صدق ولائك له ، وانتماؤك لبلده . ولو عرف بعض المفكرين حقيقة ذلك لم وُجد من يتذمر من حال السلطان معه ؛ حيث لم يكافئه على ما بذله مما فيه مناصرته ومؤازرته بكل مااستطاع ؛ لرؤيته أن ذلك قليلاً في حقه ، بل يريد المزيد في ذلك . ولما وُجد من المفكرين من يندب حظه مع السلطان ؛ حيث أحس بأنه غير مرغب في قربه ؛ لأن الدور الذي من أجله قربه قد أداه ، وما عاد هناك خسارة للسلطان عندما يركله ، ويستغني عنه ، مع أن هذا المفكر كان يترقب اليوم الذي يُتوجه فيه السلطان ؛ حيث يضعه في المكان المناسب لعلمه وصدقه ، وما بذله في خدمة دينه ومليكه ، ومجتمعه ؛ مكافأة لصنيعه ذلك ؟ ! <BR><font color="#0000FF"> ( 10) </font> إذا كان ما سبق هو حال السلطان مع المفكر الذي لم يظهر أياً من المعارضة لسلطانه ، وعرش ملكه ابتداءً ، فما ظنك بمن أظهر شيئاً ولو كان كلاماً يشم منه القدح في الملك ؛ حتى لو كان باسم الإصلاح والصدق مع السلطان . فإذا كان عندهم هاجس الخروج على الملك ممن لم يبدي لا اعتراضاً ولا موافقة ، فماذا سيكون موقفهم ممن أبداء اعتراضاً ونقداً وقدحاً في سيرتهم في الملك . قال أبو جعفر المنصور : الملوك تحتمل كل شيء من أصحابها إلا ثلاثاً : إفشاء السر ، والتعرض للحرمة ، والقدح في الملك . فيا أيها المفكر الذي سبق له أن قدح في سياسة الملك ، وقدمت نقداً ولو كان بناءً ؛ وقد ظهر منك نوايا حسنة تجاه هذا الملك من تملق في الحديث ، وإطراء مصطنع ، وأسف على صنيع السابق ؛ فمن ضروب الخيال أن يُغض الطرف عنك ، وأن ترفع عنك الرقابة ، وأن يزال الخوف من جنباتك ؛ فضلاً أن تلقى حفاوة ، وتقديراً ؛ هذا إذا سلمت هذه النوايا الحسنة من أن تفسر تفسيراً سيئاَ ؛ بأن المراد منها المكر والخداع !!. وهناك رؤية لبعض من تفتخر بالانتساب إليهم من المفكرين مفادها : أن من أصيب بالانهيار الداخلي ، والهزيمة النفسية تجاه من يعاديه ؛ فإنه سيحاول جاهداً بقدر المستطاع أن يثبت بأنه محب له ومسالم ، فلا بأس أن يهدي له كلمات المحبة والود والإخاء ، ولو كان ذلك على حساب عقيدته التي ينتمي إليها ويستظل بظلها . <BR><font color="#0000FF"> (11) </font> حب السلطة والهيمنة غريز في الإنسان ، فالقائد العسكري يتطلع إلى أبعد من ذلك ، فهو يريد أن يكون الآمر والناهي ، المسير للأمور ، دون مشاركة لأحد ، ولا يريد أحداً أن ينافسه أو يزاحمه في سلطانه ، فكرسي السلطة لا يسع إلا لفرد ، كما أن السفينة لا يقودها إلا قبطان واحد ، فهم يطمع بالانفراد والاستبداد ولو أد به الأمر إلى أن يضحي بأعز ما يملك ، وأن يدفع في ذلك الغالي والنفيس ، فهو ينظرون إلى الاستمرارية في السلطة نظرة حياة أو موت . ولشدة حب السلطة تصل بالمرء إلى الهوس فيقطع جميع الوصال ، وينسى جميع العرفان ، فتتغير عنده الموازين ، فتنقلب الصداقة إلى عداوة ، ويكون النسب سبب للمفارقة من الحياة خوفاً ، وخشية من المزاحمة والمنافسة على سلطان الملك ، فليس عنده من الوقت والتاريخ إلا الساعة الحاضرة التي بين يديه ، فلا ينظر إلى الماضي ، ولا إلى المستقبل . انظر إلى الحاكم الأموي عبد الملك بن مروان مع مصعب بن الزبير ، فقد كان عبد الملك يحب مصعباً حباً شديداً ، وكان خليلاً له قبل الخلافة ، فلما قُتل مصعب رحمه الله ، ووضع رأسه بين يدي عبد الملك ، بكى ، وقال : والله ما كنت أقدر أن أصبر عليه ساعة واحدة من حبي له ، حتى دخل السيف بيننا ، ولكن الملك عقيم ، ولقد كانت المحبة والحرمة بيننا قديمة ، متى تلد النساء مثل مصعب ، ثم أمر بمواراته ودفنه . وتزيد همجية السلطان كلما قل علمه وبصيرته بما يصلح لسلطانه ورعيته ، وجهل بحال من سبقه من السلاطين ، قال بعض الحكماء : الملك إذا كان خلواً من العلم كان كالفيل الهائج لا يمر بشيء إلا خبطه ، ليس له زاجر من عقل ، ولا رادع من علم . <BR><font color="#0000FF"> (12) </font> أخيراً يا قادة الفكر : قد يفاجأ المرء بأزمات قاسية ، وامتحانات عنيفة لم يحسب لها حساباً ، فإذا لم يواجه تلك الأزمات ، وهذه المحن بعزيمة صادقة ، وإرادة قوية ، وشجاعة خارقة ، فإنه سوف يذهب ضحية رخصية . فنحن بحاجة إلى عزمات كعزمات ما ثناها لأقطعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف ، بل قالوا اقض ما أنت قاض ؛ إنما تقضي هذه الحياة الدنيا . ولتكن من شجعان العقول ، وشجعان الأزمات ، وكن ممن يتحمل على عاتقهم عبء المسؤولية ، فالأمة بحاجة لتلك العقول ؛ لشحتها وندرتها ، وتفنن رجالاتها بالتهرب من المسؤولية ، وإتقان إلقائها على عاتق الغير . فما أندر من يتحدى التحديات ، ولو كانت على حساب حياته ، دافعه في ذلك تحمل المسؤولية ، وإحقاق الحق ، بعيداً عن الشهرة والإشارة بالبنان . قال سفيان الثوري : صنفان إذا صلحا صلحت الأمة ، وإذا فسدا فسدت الأمة : الملوك ، والعلماء . ولنقرأ التاريخ ، ولنأخذ العبر ؛ فإن فيه أخبار من غبر . قال ابن خلدون : اعلم أن فن التاريخ فن عزيز المذهب ، جم الفوائد شريف الغاية ، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم ، والأنبياء في سيرهم ، والملوك في دولهم ، وسياستهم حتى تتم فائدة الإقتداء في ذلك ؛ لمن يرومه في أحوال الدين ، والدنيا.<BR><br>