
[email protected]<BR><BR>عند النظر في تاريخ الأمة حاضره وماضيه نجد أن من يقوم بالانقلابات العسكرية الشجعان المغامرون ؛ سواءً كانون على عقل تام ، أم دون ذلك ، وسواء كان الباعث لهذا الانقلاب تحقيق مبادئ وأفكار لابد أن تتحقق ، أو لدافع حب السلطة ، أو لحقد شخصي ، أو لإرجاع مورث الآباء والأجداد ، أو إيعاز من الغير . أما التغير الفكري ، ونقلة المجتمع لا يقوم به إلا الشجعان العاقلون المفكرون ، المؤثرون على أنفسهم ، الغيورون على مجتمعهم لنقله إلى أفضل . والفرق بين قادة الجحافل ، وبين قادة الفكر ، أن قادة الانقلاب العسكري إذا لم يكون أصحاب مبادئ وأفكار ؛ فإن سيطرتهم لا تكون إلا سيطرة وحشية ، يحكمون بها الرقاب عن طريق الحديد والنار ، متبعين سياسة الترغيب والترهيب ، شعارهم لا يفل الحديد إلا الحديد . أما قادة الفكر والتغير فإنهم يسيطرون على القلوب ، ويهيمنون على العقول ، ويملكون الأفئدة ، ويَسِدون بالمجتمع ، وتكون لهم الصدارة بطروحات وأفكار صادقة . فقادة الانقلاب العسكري بحاجة ماسة إلى علماء ومفكرين ؛ فلن يتحقق لهم النصر والاستمرارية بالسلطة إلا بهؤلاء القادة المفكرين ، والتاريخ شاهد لذلك ، فما من ثورة ، وتغير عسكري إلا مُهد لها بدعاة ومفكرين بتنقص السلطة الحالية ، وتأليب المجتمع عليها ، وإطار وتمجيد للثورة القادمة والقائمين عليها ، وإذا لم يكن ذلك فستنحر هذه الثورة في مهدها ، والتاريخ طافح بتلك الشواهد والأمثلة . وهذا ناتج من مكانة المفكر لدى الناس وثقتهم به لعلمه وطرحه وماضيه ، ولحسن ظنهم به عن أطماع الدنيا ، فالثورة تستغل هذا وتتكئ عليه كلما حست بسقوط مصدقتيها لدى المجتمع ، ولتقرب به المجتمع كلما ابتعد عنها جماعات ووحداناً ، وتفرق ، وتشرذم ؛ استخفافاً بعقول الأمة واستتغفالاً لها.<BR><font color="#0000FF">(2) </font> وقادة الثورة ترفع شعارات براقة ، ووعود مطمئنة ، وطروحات تدغدغ مشاعر السامعين ، ودعايات ساحرة ، تشرأب الأعناق إليها بدأً بالسياسة ديمقراطية ، وشورى ، ومررواً بالاقتصاد غناءً ورفاهيةً ، وانتهاء بالأمن سلامة الأوطان ، ولا أخال ناسياً إحياء الشعائر الدينة إن كانت ثائرة في موطن يترقب أهلها ذلك . وتستمر هذه الشعارات إلى أن تحطت الثورة رحلها وتضع أوزارها وتسكن ، وتمسك زمام الأمور ، ويُتمكن من الرقاب . فألقت عصاها واستقر بها النوى كما قر عيناً بالإياب المسافر ومع ذهاب الأيام قبل السنون ينكشف الغطاء ويظهر المستور ، ثم لا يُر لهذه اللافتات أثراً في الواقع ، وإنما يُسمع جعجعة ولا يُر طحناً . دون مراعاة لشعور الناس الذين نفد صبرهم من طول انتظارهم لهذه الوعود التي دغدغت مشاعرهم . مستغلين ما تتقرر في أنفسهم أن المجتمع مصاب بسطحية التفكير ، وضحالته ، وقلة الوعي ، وأنه تمشي عليه بساطة الأمور فكيف بعظامها ، وأنه يجيد سرعة الاقتناع . مستعينين بقادة الفكر الذي رضوا أن يكنون جسراً يُمتطى لتحقيق تلك المآرب ، ولهذا وغيره يُعرف السر في حرص القادة العسكريون على تنوع القادة الفكرية لتشمل مختلف الأطياف والاتجاهات والمشارب ، وكلما كان للمفكر مكانة في أوساط بلده كلما اتجهت إليه الأنظار لتقريبه . لابُد للمرء مما ليس منه لهُ بُدُّ وإن طالتِ الأيامُ والمُدَدُ <BR><font color="#0000FF">(3) </font>والقادة العسكريون يسيرون على وتيرة واحدة لا تتغير ، ورثها خلفهم عن سلفهم ؛ سياسة تقوم على أساسين لا ثالث لهما : \" سياسة الترغيب والترهيب \" والترغيب يكمن بجميع أشتات المنح : من رغد بالأصفرين ، وإغراء بالملذات ، والتقريب من أجل نيل الجاه والمنصب . وهذه المنح بمثابة امتحان يجريه بعض الحكام للعلماء ؛ لمعرفة مقدار الولاء لهم ، ولأَسرِهم به ، وتأمين جانب سخطهم ، وعن طريق ذلك يستملى آخرون . وهذا الإغراء قد سلكه كفار قريش مع محمد  ، فحين أحزنهم امتداد دعوة محمد ، وكثرة من استجاب له ، فما من بيت إلا وقد دخله دعوة محمد ، اُنتدب عتبة بن ربيعة فأتاه ، فقال له عتبة : يا محمد أنت خير أم هاشم ، أنت خير أم عبد المطلب ، أنت خير أم عبد الله فلم يجبه ، قال : فيم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا ؛ فإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا لك ألويتنا فكنت رأسنا ما بقيت ، وإن كان بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختار من أي أبيات قريش شئت ، وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك . فالقادة العسكريون يؤمنون بأن المفكر كبقية البشر ، حب المال والحرص على كسبه غريزة متأصلة في طباع بني الإنسان ، فمن مستكثر ومن مقل قال عز من قائل : "وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا" وبالمثل القائل : \" أحسن إلى ما شئت تكن أميره \" وبما أن هناك من قادة الفكر من يسيل لعابهم وراء المادة ، ويجهلون أو يتجاهلون الشطر الأخر من المثال السابق ، وهو : \" وأقبل معروف من شئت تكن أسيره \" نجدهم يقعون بالفخ سواءً شعروا بذلك أم لم يشعروا . فالأمة مخطئة إذا فهمت أن ما يفعله كثير من القادة العسكريون من التملق من حب قادة الفكر ، وأنهم يقربونهم ليستنيروا برأيهم ، وينهلوا من علمهم ، و إلا ماذا يعني تجاهلهم في كثير من الأمور سيما ما له علاقة بالعلم والديانة . وما هو السر الذي جعل السلطان يبذل للمفكر المنح المتنوعة ، والمزيد من الأموال ؛ مع أنه في أيام سابقة ضيق عليه في معيشته ، وكسبه ، وقطع عنه ما يستحقه من المعاش بتهمة استغلالها لمناوئته ، ودعم معارضيه ؟ ! وكان من قادة الفكر من عرف قصد السلطان من هذه المنح له ؛ فكان على حذر منها خشية مداهنتهم أو السكوت على الإنكار عليهم ، قال سفيان الثوري : ما أخاف من إهانتهم لي ، وإنما أخاف من إكرامهم فيميل قلبي إليهم . ويُستبعد على من أصبح وأمسى وهو يتنعم بهذه المنح ، وبطول الجلوس مع أصحابها أن يكون صادق في نصحهم ، ولقد قيل : \" إذا كثر الإمساس ، قل الإحساس \" . كتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصري أنصحني . فكتب إليه إن الذي يصحبك ، لا ينصحك ، والذي ينصحك لا يصحبك . وقال سفيان الثوري : ما وضع رجل يده في قصعة رجل إلا ذل له. <BR><font color="#0000FF">(4) </font>هناك قول للغزالي في \" الإحياء \" يسلط الضوء على سر منح السلاطين لقادة الفكر ؛ حيث قال : فأما زمننا الآن فلا تسمح نفوس السلاطين بعطية إلا لمن طمعوا في استخدامهم ، والتكثر بهم ، والاستعانة بهم على أغراضهم ، والتجمل بغشيان مجالسهم ، وتكليفهم المواظبة على الدعاء ، والثناء ، والتزكية ، والإطراء في حضورهم ، ومغيبهم ، فلو لم يذل الآخذ نفسه بالسؤال أولاً ، وبالتردد في الخدمة ثانياً ، وبالثناء والدعاء ثالثاً ، وبالمساعدة له على أغراضه عند الاستعانة رابعاً ، وبتكثير جمعه في مجلسه وموكبه خامساً ، وبإظهار الحب والموالاة والمناصرة له على أعدائه سادساً ، وبالستر على ظلمه ومقابحه ومساوي أعماله سابعاً ؛ لم يُنعم عليه بدرهم واحد ولو كان في فضل الشافعي ـ رحمه الله ـ مثلاً ؛ فإذاً لا يجوز أن يؤخذ منهم في هذا الزمان ما يعلم أنه حلال ؛ لإفضائه إلى هذه المعاني فكيف ما يعلم أنه حرام ، أو يشك فيه ، فمن استجرأ على أموالهم وشبه نفسه بالصحابة ، والتابعين فقد قاس الملائكة بالحدادين . علق عليه عبد العزيز البدري الذي أريق دمه ظلماً وعدواً على أيدي قادة الانقلاب العسكري في بلاد الرافدين بقوله : وواقع حالنا اليوم ؛ كحال أولئك الحكام الذين حكم الغزالي بحرمة منحهم وأعطياتهم ، إن لم نقل أشد سوءاً وأعظم إثماً . ومن قبل الغزالي سفيان الثوري ، نظر إليه رجل ، وفي يده دنانير ، فقال: يا أبا عبد الله ! تمسك هذه الدنانير ! ؟ قال: اسكت، فلولاها لتمندل بنا الملوك. قال ابن الجوزي : سادساً من تلبيس إبليس على السلاطين ؛ أنه يحسن لهم الانبساط في الأموال ظانين أنها بحكمهم ، وهذا تلبيس يكشفه وجوب الحجر على المفرط في مال نفسه ، فكيف بالمستأجر في حفظ مال غيره ، وإنما له من المال بقدر عمله فلا وجه للانبساط ، تلبيس إبليس ، قال ابن عقيل : وقد روي عن حماد الرواية أنه أنشد الوليد بن يزيد أبياتاً فأعطاه خمسين ألفاً وجاريتين ، قال : وهذا مما يروى على وجه المدح لهم ، وهو غاية القدح فيهم لأنه تبذير في بيت مال المسلمين . وإنه لمن المفارقات حقاً أنك تجد المترجِم لأحد قادة الفكر في السابق عندما يستهل ترجمته يتوجها بمدحه والثناء عليه ؛ بأنه أبى أخذ أي شكل من أشكال منح السلطان ، مما يبرهن على صدق دعوته ، وأنه لم يحقق طلب السلطان بالقدوم عليه لنصحه وإرشاده ومجالسته ليستنير من علمه ، وأن مقابلاته للوالي معدودة ، أحدها مصادفة إما في الطواف في بيت الله الحرام ، أو حين خروجه من الجامع ، أو في مشهد جنازة . أما في الآونة الأخيرة فعلامة صدق المفكر ، وسلامة عقيدته ، ومكانته في مجتمعه تقريب السلطان له ، وقُبل منح وهبات السلطان ، وأنه كثير ما يزور السلطان في ديوانه ، وأن الوالي استجاب لدعوة وليمة أعدها له ، وأنه قدّم له مساعدة في خصوص أزمنة حلت به من نائبات الحياة . <BR><font color="#0000FF">(5) </font>فإذا لم تُجدي سياسة الترغيب والإغراء ؛ لأن من قادة الفكر من نفسه أبية كريمة ، ذات معدن طيب آنّا لها أن تُغرى بمال ، أو أن يسيل لعابها على فتات الدنيا ؛ يُسلك أمر آخر يتسم بالعنف والشدة بدأً بتكميم الأفواه ، من أجل الحيلولة بينه وبين جموع الأمة ، والعزلة من أوساط مجتمعه ، ومروراً بقطع المال والتضييق عليه بالعيش ، وانتهاءً إلى نقله إلى عالم آخر قد ينتهي به المطاف إلى مفارقة الحياة . وما دفعهم لذلك إلا نظرية سائدة تقول : \" لا يفل الحديد إلا الحديد \" فهي نظرية يسخر منها الصبيان ، ويشهد التاريخ بعدم جدواها لا سميا مع العلماء الربانين . قال ابن تيمية عن الإمام أحمد بن حنبل : فهذا الإمام صار مثلاً سائراً يضرب به المثل في المحنة والصبر على الحق ؛ حتى صار اسم الإمام مقروناً باسمه في لسان كل أحد ، فيقال : قال الإمام احمد ، وهذا مذهب الإمام أحمد ؛ لقوله تعالى : <font color="#ff0000">"وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ" </font>. وقد تداوله \" ثلاثة خلفاء \" مسلطون من شرق الأرض إلى غربها ، ومعهم من العلماء المتكلمين ، والقضاة ، والوزراء ، والسعاة ، والأمراء ، والولاة من لا يحصيهم إلا الله . فبعضهم بالحبس ، وبعضهم بالتهديد الشديد بالقتل وبغيره ، وبالترغيب في الرياسة والمال ـ ما شاء الله ـ وبالضرب ، وبعضهم بالتشريد والنفي ، وقد خذله في ذلك عامة أهل الأرض حتى أصحابه العلماء والصالحون والأبرار ، وهو مع ذلك لم يعطهم كلمة واحدة مما طلبوه منه ، وما رجع عما جاء به الكتاب والسنة ، ولا كتم العلم ، ولا استعمل التقية بل قد أظهر من سنة رسول الله  وآثاره ، ودفع من البدع المخالفة لذلك ما لم يتأت مثله لعالم : من نظرائه ، وإخوانه المتقدمين ، والمتأخرين ولهذا قال بعض شيوخ الشام : لم يظهر أحد ما جاء به الرسول ؛ كما أظهره أحمد بن حنبل . فإلى حلقة قادمة _إن شاء الله_ . <BR>والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته<BR><br>