من مفردات الحرب ومخلفات "الحزب"
24 جمادى الثانية 1427

لا أود أن أفتح جدلاً حول أعداد قتلى حزب الله في هذه الحرب الدقيقة وأعداد قتلى الجيش اللبناني وهوية الأسيرين الدرزيين, وما أريد الحديث عن الجسور التي بناها الراحل رفيق الحريري, كل ما يساور النفس من شكوك حول تفجير هذه الحرب وجدواها ومبتغاها ينبغي أن يظل حبيس النفس حتى تضع الحرب أوزارها, إذ ليس من العدل أن تقرأ الخريطة وهي بعد لم تزل مرسومة بخطوط الرصاص, فالحبر لا ينبغي في هذه الحالة أن يسبق الرصاص. <BR>وليس الرجم بالغيب هو درب من دروب الحذق المعرفي, فمعظم المعلومات حول هذه الحرب لا نزعم أنها قد خرجت من أروقة الحكم في تل أبيب وواشنطن وطهران ودمشق, ولم تتسلل من شفاه جنرالات الاستخبارات الإقليمية والدولية.. <BR>إنما ما يمكننا الحديث عنه الآن هو محض اجتهادات أو لمحات موحية أو مقاربات لفهم مخلفات هذه الحرب ومفرداتها, وأيضاً كيفية تعاطي الأمة مع القضية, وفي صدر ذلك مسألة معالجة الأزمات وفقهها والإلمام بأهدابها اتقاءً للشرود الفكري أو الانسياق العاطفي.<BR>وما ينبغي أن نرى الثمرة ولا نشاهد جذر النبتة أو نتتبع ساقها على الأقل, وساق النبتة يسوقنا إلى البداية حيث تشكل "حزب الله" أوائل الثمانينات كفصيل لبناني يرفع شعار المقاومة, بدعم من سوريا وإيران, والذي يتتبع تأريخ نشأة الحزب واحتضان الحرس الثوري الإيراني له ودعمه مالياً بميزانية ضخمة (تقدرها بعض المصادر الغربية بنحو 100 مليون دولار سنوياً من دون أن تملك أي جهة دليلاً على صحة الرقم وإن أثبتت الشواهد ضخامة الدعم), وتقديم سوريا الدعم اللوجيستي وتأمين خط ساخن عسكري بين طهران وجنوب بيروت عبر الطريق الرئيسي الحالي والسابق والذي تسيطر عليه دمشق حتى وقت قريب, ـ وينظر للحزب على هذا النحو, تتجه به عين الإعجاب إلى طهران ودمشق اللتين استطاعتا تجهيز هذا الحزب ليكون ذراعهما الطويلة, هذا الإعجاب الذي يفرط العاطفيون حينما يمنحونه لحسن نصر الله وحزبه ويغدقون عليهما من كلمات الثناء والإعجاب كما لو كانوا إزاء فصيل مقاوم "عصامي".. حزب الله حقق إنجازاً عسكرياً وتنظيمياً وحركياً وشعبياً بمساندة هائلة من حلف طهران ـ دمشق ويبقى كل هذا الإنجاز منسوباً لفاعليه وتبقى هذه القوة التي أنشئوها وفية لأرباب نعمتها ومحركيها الحقيقيين, ولا يعيبهم بالمرة أن يسعوا إلى تحقيق أهدافهم السياسية عبر أوراق كثيرة منها حزب الله, فهذا حذق سياسي ومهارة تطبيقية, وهو أمر محمود لفاعليه قياساً إلى طموحات إيران وسوريا, بيد أن القياس إلى أهداف الأمة وطموحاتها وما إذا كانت قوة حزب الله هي قوة مضافة إلى رصيد الأمة أم مطروحة منه فهذا أمر آخر ومخالف تماماً للحسابات المختلطة والعاطفية المتأرجحة.. <BR>محمود لإيران وسوريا أنهما لا تهزلان فيما يتعلق بأمنهما القومي وهما قد سعتا إلى تكوين ذراع عسكرية محكمة التنظيم شديدة الترابط, فيما لم تقم الأمة الإسلامية السنية والعربية بمثل ما قامت به هاتان الدولتان أو بالأحرى نظاما هاتين الدولتين, ولا يعني هذا الإعجاب أننا نشاطرهما الأهداف والسياسة والعقيدة, ولا أن نعتبر ما يقومان به منسحباً على المعلن من الأهداف, فشخصياً لا أستبعد أن تنجلي الأزمة اللبنانية بكل حزونها وجراحها في يوم ما ثم أصحو في اليوم التالي لأسمع إعلان طهران عن نجاحها بتخصيب اليورانيوم بنسبة عالية تسمح باستخدامه كوقود نووي أو إعلانها عن تجربة نووية أهم ألف مرة لدى الحلف الطائفي من أفراد لبنانيين قليلين ما زالوا يقبعون في السجون الصهيونية, ودعوني أعقد بعض المقارنات وأطرح عدداً من التساؤلات بهدوء هنا من دون أن أثير نقعاً في وجه الحالمين برفع الأعلام والهتاف لـ"المقاومة".<BR>• بعد العديد من المجازر التي نفذها الكيان الصهيوني الغاصب على الأهل في غزة والضفة وتحمل الأطفال لقسم كبير من الفاتورة البشرية إضافة إلى كوادر وقيادات فلسطينية مقاومة أبرزها (القائد العسكري للجان المقاومة الشعبية) العقيد جمال أبو سمهدانة, ومن أجل تحريك قضية 10 آلاف أسير, وبعد أن نقضت "إسرائيل" الهدنة بينها وبين الفصائل الفلسطينية وفرضت حصاراً اقتصادياً محكماً على الحكومة الفلسطينية, وعمدت إلى التوغل في كل من الضفة والقطاع, سعت حركة حماس الفلسطينية إلى الإعلان عن إلغاء الهدنة ومن ثم نفذت عملية "الوهم المتبدد" النوعية من أجل تحرير الأسرى الفلسطينيين. وفي المقابل وإذ كانت الجبهة اللبنانية هادئة سعى حزب الله إلى تسخين الجبهة عبر أسر الجندي الصهيوني بعملية "الوعد الصادق" النوعية أيضاً, والإعلان عن مطلبها بتحرير الأسرى اللبنانيين والعرب في السجون "الإسرائيلية", والذين تشير صحيفة السفير اللبنانية(14 مايو 2001) إلى أنهم لا يجاوزوا بضعة عشرات من اللبنانيين. وبحساب رياضي يسير يتضح أن لبنان دفع ـ حتى اللحظة ـ 10 "شهداء" و40 جريحاً عن كل أسير لبناني (نحو 300 قتيل لبناني و1000 جريحاً), فيما دفعت فلسطين شهيداً عن كل 100 أسير, والمقارنة جديرة بالتأمل, بل والتحقيق. <BR>• لا يكاد يجادل أحد في أن الدولة السورية وجنرالاتها في لبنان هم حكامها الحقيقيون إلى أن صدر القرار الأممي 1559, وكان الطريق الواصل من طهران وحتى الجنوب اللبناني مؤمناً ومعبداً لإيصال الدعم اللوجيستي, ومنذ إطاحة ميشيل عون وسمير جعجع لم تبق في الحقيقة أية عوائق تكبح الطموح السوري في لبنان, وكان الجميع مدركاً أن بوسع غازي كنعان وغيره من جنرالات سوريا تعيين هذا الوزير ـ أو من يعلوه منصباً ـ أو إطاحته, ومع إمساك طهران ودمشق بمعظم خيوط اللعبة في لبنان لم تشأ تجهيز جيش لبناني لا طائفي قوي في لبنان, ووضع البيض العسكري كله في سلة حزب الله, ليس على سبيل المصادفة أو الحمق, وهما لوما أرادتا أن تجعلا "المقاومة" غير رسمية وغير مقيدة بقواعد اللعبة السياسية الرسمية فقد كان بإمكانهما توسيع نطاق المقاومة وتشجيع كل الفصائل الوطنية في لبنان وعدم الاقتصار على حزب طائفي واحد يمنع غيره من مشاركته "شرف المقاومة", ومن هنا يبدو المهللين حول صمود الحزب يتجاهلون هذه الحقيقة رغبة في أحسن الأحوال في رؤية مشهد عزة حيث الأنظمة ذليلة في السائد والشعوب تنسحب عليها أو تتبعها وتواطئها ذلة وانكساراً, ويتشبث الكثيرون من المتحمسين بأي صورة تعكس نوعاً من رد الفعل الشجاع على الاعتداءات الصهيونية, ونحن لا ننكر أن رجال الحزب شجعان ويتصدون ببسالة دفاعاً عما يعتقدونه ويحيون من أجله, والذي قد يتقاطع مع مصالح الأمة الإسلامية أو يتعاكس معها, لكنه على أي حساب لا يتعمد هذا التقاطع, وإلا فما علينا إلا أن نعود إلى مجزرة جنين وإلى الاجتياح الصهيوني (السور الواقي) وإلى العديد من الملاحم الفلسطينية والتي شهد برودة لافتة للجبهة اللبنانية حينها. <BR>• هل يمكن أن يكون ثمن تخفيف الوطأة عن فلسطين هو تدمير لبنان؟ هذا سؤال هادئ لابد وأن يضيع وسط قعقعة السلاح ويطأطئ الرأس, لأنه "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"!! <BR>• هل أتت عملية "الوعد الصادق" لتدعم "الوهم المتبدد" أم لتخطفها؟ هناك الآن مطلب لحركة حماس الفلسطينية دعت فيه الإعلاميين عبر بيان نشرته في موقع المركز الفلسطيني للإعلام (19/7) إلى "إبداء أكبر قدر ممكن من التوازن المهني والموضوعي حيال تغطياتها الصحفية والإعلامية للشأنين اللبناني والفلسطيني، وعدم الانصراف إلى متابعة الشأن اللبناني الأكثر سخونة على حساب الشأن الفلسطيني، مؤكدة أن الإقلال من تغطية ورعاية الشأن الفلسطيني، والانشغال بجبهة الصراع الشمالية مع لبنان، كفيل بإغراء الاحتلال ودفعه نحو تصعيد عدوانه بحق الشعب الفلسطيني ومقدراته الوطنية.", ولاشك أن الحركة قد أدركت خطورة غياب الإعلام نسبياً عما يجري في غزة والضفة (لاسيما مع مجازر غزة وتوغل الصهاينة في البلدة القديمة بنابلس).<BR>• إذا بلغ عدد الأسرى السوريين في السجون الصهيونية 14 أسيراً, فكم يبلغ تعداد المعتقلين السياسيين في السجون السورية, وأيهما أيسر على السوريين وذراعهم اللبناني في منحه نعمة تنسم هواء الحرية؟<BR>• هذه "حرب الرسائل" وكل هدف يضرب فيها يحمل رسالة معينة, وحين كشف الحزب عن مدى صواريخه وتعمد ضرب أهداف بحرية وعسكرية بدقة واحتراف؛ فإنه يكون قد أرسل رسالة هامة لواشنطن وتل أبيب يقول فيها لا تنزعجوا من طول مدى صواريخ شهاب المتطورة في إيران فلدينا صواريخ أقل مدى يمكنها الوصول إلى تل أبيب بطرق مختصرة جداً في الجنوب اللبناني, فعالجوا القضية بروية واحترام كبير للخصم الذي يمكنه فعل الكثير واللعب بكافة أوراقه دفعة واحدة إذا ما استدعى الأمر, وأمنكم في القبول بطموحاته النووية دون استفزاز لفيالقه هنا أو هناك, لأن الأفضل أن نتعامل كأنداد على أن نتعامل كخصوم متناحرين, لقد انطلق السهم النووي الإيراني ولن يعود إلى قوسه, وعلى الغرب أن يدرك هذه الحقيقة. <BR><BR>وغير تلك الأسئلة والمقارنات, ثمة ما هو أهم منها فيما يخص نظرتنا للأحداث وتعاطفنا أو عدم تعاطفنا مع هذا الطرف أو ذاك: <BR>فأولا: لا يعني سرورنا وابتهاجنا بتلطخ وجه العسكرية الصهيونية بالتراب أن ننتقل كلية إلى معسكر لا يتفق معنا في ثوابتنا وأصولنا التي نستمسك بها, وإذا كان المثال هنا مغايراً للواقع الآن إلا أننا نسوقه للتقريب فقط: هل فرح المؤمنين بغلبة الروم على الفرس الذي قال عنه القرآن "ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله" كان مانعاً لهم أن يقفوا بوجه الإمبراطورية الرومانية العاتية المتسلطة؟ إن الأمر في الحقيقة حينها لم يتعد قدراً من المفاضلة بين أعداء لا تنقل بهجة النصر أحدهم إلى مصاف الحلفاء. وفارق أن تفرح بالفعل وأن تفرح لفاعله. <BR>ثانيا: قد جرى العرف الجماهيري أن تتعاطف الشعوب بقوة مع الطرف المنتصر أو الذي يبدي مقاومة عالية في الصراع ولا ينكسر بسهولة, وتفتر حماستهم كلما خارت قوى "بطلهم", وهذا قد يكون مفهوماً من الجماهير لكنه غير مقبول من النخبة السياسية والقيادات الشعبية والحزبية والقوى الإسلامية والوطنية التي انجرف معظم سيلها ليتحدث عن "قائد الأمة" و"السيد" و"مجاهدي حزب الله", من دون أن تعالج هذه الأسباب التي جعلتهم مكبلين وغيرهم مطلق اليد والسراح , ومن دون أن يعون حقائق الصراع وأدواتهم وأوراقه ومعطياته. <BR>ثالثا: يخطئ دوما من يظن أن عليه أن يختار بين موقفين أحدهما يرتمي بأحضان إيران وحزب الله, وآخر ينساق وراء المتخاذلين أيا كانت مسمياتهم, فالموقف العربي الرسمي الخانع وعجزه وانكفائه على سلامه الاستراتيجي أو تحويله ملف الأزمات من الجامعة العربية الميتة إلى مجلس الأمن المتواطئ لا يقدم أي مبرر لمتخندق في جحره الذليل, ومن جهة أخرى لا يعني تهييج الحزب لعش الدبابير الصهيوني في زمن يخدم طهران أكثر مما يخدمنا أن ندخل في سرداب الحزب منتظرين خروج مهدييه أو منصاعين وراء كلمات "السيد" مقتفين آثاره.<BR>رابعا: وصول الصواريخ الإيرانية إلى حيفا وعكا وصفد والهجوم على القيادة الشمالية الصهيونية وتدمير دبابة الميركافا "الإسرائيلية" وتغيير معادلة الصراع بين الحزب والكيان الصهيوني هو حافز كبير للمقاومة الفلسطينية لأن تحذو حذو الحزب عسكرياً ـ لا عقائدياً ـ في تطوير ما في جعبتها من أسلحة, وما يقوم به الحزب الآن في الجنوب ينبغي أن يدرس عسكرياً لإفادة المقاومة السنية منه في فلسطين والعراق, ومبشر لهاتين المقاومتين أنهما من الناحية الاستراتيجية على الطريق الصحيح, وأن الطريق الشاق له علامات منيرة ويوشك من يقطع به الأميال أن يتمه ما دام متحلياً بالصبر والمصابرة والمرابطة.<BR>خامسا: ليس هناك مبرر لأن ننسى الأهل في لبنان من مساعينا الحميمة لوقف هذه الحرب المجنونة التي يدفع ثمنها الأطفال والنساء والمدنيين من كافة الطوائف وتهدد حياة الآمنين الذين نفزع لرؤية صورهم والتي يحاول الصهاينة تخويف الإعلام العربي حتى لا يرصد جرائمها التي تنفذها آلتهم الحربية الغاشمة, والتي تنفرد بقتل المدنيين من دون حزب الله الذي سعى لعسكرة المعركة قدر الإمكان, لكن الكيان الصهيوني لا يعرف للحرب أي حدود أو قواعد أخلاقية, بل ورط أطفاله هم فيها إذ طلب إليهم التوقيع على الصواريخ التي تصيب الصغار في لبنان أكثر مما تصيب الكبار, وتنحرف عن الحزب إلى الجيش اللبناني والمدنيين, ولذا لابد من تفعيل دور الهيئات العاملة على تجفيف دموع الثكالى واليتامى والمكلومين ومد يد العون للأهل في لبنان, والضغط على الحكومات العربية والدولية من أجل العمل على وقف هذه الحرب الطاحنة وتجنيب الأهل في لبنان ويلاتها. <BR><BR>وإجمالاً, فعند الحرب لا نملك إلا نتعاطف مع الأهل في لبنان ونسعى لوقف الاعتداءات الصهيونية الغاشمة ونتمنى لو كان الحزب قد أفسح السبيل لغيره ليقاوم هذا العدو الغاشم في الوقت الأنسب الذي يخفف الضغط على المقاومة الفلسطينية ليخدمها لا ليوظفها ويجير نضالها لصالحه, وقد كان الأجدر بمن ملكوا زمام الحكم بلبنان لعقود أن يسعوا لقيام جيش لبناني قوي يملك إرادته ويستقل عن مصلحة هذا الطرف أو ذاك وينفذ معاركه في الظرف الذي يلائمه هو ويتسق وأهدافه الوطنية.<BR> <BR><br>