رهبة غزة
15 جمادى الثانية 1427

لم تضع الحرب في غزة أوزارها لكنها وضعت أوهامها, أوهام القوة التي حاول الكيان الصهيوني منحها قبلة الحياة عبر عملية أمطار الصيف المتدحرجة فأخفق لحد الآن, أسقط ضحايا ونفذ عمليات جبانة, غير أنه لم يكن بمقدوره أن يخفي وجه الحقيقة, وهي أنه عاجز عن مواجهة شريفة في ميدان نزال. <BR>"لأشفين وساوسهم بخالد" قالها الصديق _رضي الله عنه_ لما رأي الروم مزهوة بقوتها البالغة في اليرموك 240 ألف جندي, وأتى خالد اليوم ليشفي وساوس الصهاينة, وتتمكن كتائبه من تبديد الوهم الصهيوني, في عملية نوعية, وفي تصديهم لطلائع الغزو الصهيونية لغزة. <BR>لغزة رهبة, لا يعرفها إلا جنود "إسرائيل" الذين فاجأهم قرار قيادة جيش العدو بالاستعداد لعملية أمطار الصيف, فاستبدت بهم المخاوف, ومهما يكن من تفسير لإحجام الكيان الصهيوني لحد الآن عن توسيع العمليات في غزة؛ فإن هذه الرهبة لها حجمها في الشعور الصهيوني برمته على صعيدي قيادتيه العسكرية والسياسية. <BR>ولابد هنا من التوضيح قبل الحديث عن حساسية الموقف السياسي لـ"أزمة" الجندي الصهيوني الأسير بأن المقارنة بين المعسكرين المتحاربين على أرض الرسالات تغدو جد ظالمة إذا ما نسبت للنتائج المادية للحملة العدوانية على غزة والضفة, فدون ذلك عدة اعتبارات ينبغي أن تؤخذ باهتمام, منها: <BR>[] أنه من الناحية العسكرية: هناك مبادرتان عسكريتان, إحداهما نفذتها ثلاثة أجنحة عسكرية لفصائل فلسطينية, أسفرت عن سقوط ستة صهاينة ما بين قتيل وجريح وأسر سابع, لكنها لا تقاس نتائجها على أية حال بهذا النحو, بل بمردودها المعنوي والسياسي والعسكري, فما تخلف عنها: شعور جنود الاحتلال بفقدان الأمان داخل الثكنات العسكرية الصهيونية الحصينة التي تجد نفسها مضطرة إلى التيقظ دوماً مخافة أن تأتيها الصواريخ الخفيفة من الجو أو مجموعات الاقتحام الفدائية من فوق سطح الأرض أو من باطنها, والنيل من سمعة الجيش الصهيوني وشفاء وساوسه وأوهامه بالتفوق التسليحي عبر عملية تتجلى فيها استراتيجية "الحرب غير المتوازية", عابرة إلى محاولات لتحويل الحرب غير المتوازية تلك إلى حرب شبه نظامية شيئاً فشيئاً, وهو ما ليس من شأنه فقط أن يخلق توازن رعب مثل هذا الذي أحدثته استراتيجية المهندس يحيى عياش من خلال العمليات الاستشهادية, بل إيجاد آليات جديدة تأخذ بيد المقاومة ربما لأبعد من منطقة التوازن, ففي عملية الوهم المتبدد انقشع غبارها عن عملية عسكرية متكاملة أسفرت عن قتلى وجرحى وأسرى, وأسيرها سيق من داخل ثكنة عسكرية حصينة, والكوماندوز المقتحم أقام عملية دائرية رأسية ربما لم يشهد لها التاريخ نظيراً على هذا المنوال.. اقتحام من نفق ومن ثم ثقب السور والنفاذ منه, وقام فيها كل عناصر الاقتحام بواجبهم القتالي على أكمل وجه سواء من قضى نحبه أو من ينتظر. <BR>أما الأخرى, فهي عملية لجيش الاحتلال لم تتجاسر لحد الآن على تنفيذ أي عملية اقتحام كبيرة على الأرض, وإنما اكتفت بتوجيه غارات جوية وإطلاق قذائف مدفعية أرضية وتنفيذ بعض المناوشات على الثغور ـ إن جاز التعبير ـ, لم تفرق في كثير منها ما بين مدني ومقاوم, وبالتالي فنحن أمام معادلة مختلة, طرفاها مقدم وشجاع وفدائي, ينفذ عملياته في ميدان عسكري أصيل, والآخر خائر العزيمة, فاقد الشجاعة, يلوذ بقتل المدنيين والقصف الجوي من طائرات بعضها بدون طيار اتقاء لجَلَد خصمه العنيد. <BR>من الناحية العسكرية, لم تحقق العملية الصهيونية أهدافها من تحرير الجندي الأسير لحد الآن أو منع صواريخ المقاومة من السقوط على مدن وبلدات فلسطين 48 إلى الشمال من غزة, لا بل كشفت عن مدى أطول للصواريخ تلك وهدد مدناً لم تكن تهددها المقاومة من قبل, فيما حققت عملية الوهم المتبدد أهدافها حتى هذه اللحظة. <BR>[] أن خيار المقاومة قد غدا لدى الفلسطينيين الأكثر نجاعة وفعالية, بعدما نجح في إجبار الطرف "الإسرائيلي" على التفاوض حول قضية الأسرى, وأضفى على الخيار المقاوم مشروعية دولية لا يستطيع أي منصف في العالم إلا أن يقر بعدالتها, إذ لم تفلح كل المفاوضات السرية والعلنية لفريق أوسلو ومهندسه في تحريك هذه القضية التي خلقت فصائل المقاومة لها حضور لا يمكن تجاهله, لاسيما بعد أن أقر كبار القادة العسكريين الصهاينة بأن الجندي المفقود هو أسير حرب, وإخفاق محاولات الإعلام الصهيوني العالمي في نزع صفة الأسر عنه وإبدال الخطف بها, وهو ما انعكس إيجابياً على مسألة الأسرى في سجون الاحتلال الصهيوني, علاوة على أن إدارة الصراع على هذا النحو قد جردت "إسرائيل" سياسياً من حجج ظلت تلتحف بها على الدوام تبريراً لاعتداءاتها المتكررة على الفلسطينيين, ولا يمر كريماً على هذه القضية ما جرى في القناة الرابعة للتليفزيون البريطاني عندما أحرج المذيع البريطاني ضيفه الصهيوني حول تبرير قصف محطة كهرباء غزة وإظلامها لذريعة متهافتة, لا بل تنقلب عكسياً ضد مروجيها لما قيل عن الحؤول دون تهريب الجندي الأسير لمصر (حيث الظلام أدعى للتهريب من النور)!! ذات الشيء يقال عن وسائل إعلام غربية وعالمية بل وحتى عبرية لم تجد بحوزتها ما تستطيع تسويقه عن "إرهاب" الفلسطينيين و"دفاع" جيش الاحتلال, لأن إرهاب الدولة قد رصدته عديد من الأقلام حتى داخل الكيان الغاصب نفسه في مقابل عملية عسكرية نظيفة لا يمكن إدراجها عالمياً إلا في مساحة المقاومة الشرعية للاحتلال, فيما لم تجد منظمة العفو الدولية ـ على انحيازها ـ ما تقوله عن "أمطار الصيف" إلا أنها تعد "جرائم حرب" تنفذها "إسرائيل" ضد شعب تحت الاحتلال. <BR>[] أن ما سبق عملية الوهم المتبدد من جرائم صهيونية استهدفت الأطفال والمدنيين بالأصالة ثم تالياً عناصر المقاومة الفلسطينية ـ لاسيما مجزرة شاطئ غزة وما أعقبها ـ كانت أكبر حافز للشعب الفلسطيني والعربي لتقبل توقيت هذه العملية الرائعة التي أتت لتزيل وساوس الصهاينة, مثلما جاءت لتمحو عار التواطؤ الداخلي لبعض المنسوبين لفتح ممن شوهوا تاريخها النضالي وصاروا أدوات للاحتلال استعملهم في محاولة وأد المسيرة النضالية وكسر اللحمة الداخلية الفلسطينية, وتركيع حركة حماس وحكومتها المنتخبة؛ فمثلت تلك العملية ترياقاً لهذه الوساوس والأحلام الصهيونية والقوى المتعاملة معها. <BR><BR>لكن حساسية الموقف الأخير لجميع الأطراف يأخذنا باتجاه آنية الأزمة الصهيونية وأجوائها, فبعد أن صار لدى فصائل المقاومة أسيراً صهيونياً تم اصطياده وهو يحمل السلاح ويرتدي البزة العسكرية, جدت وفود الوساطة من مصر والجامعة العربية وتركيا وأوروبا الغربية السير باتجاه رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل وتقاطرت الوفود على دمشق إما ضغطاً عليها أو سعياً وراء تقديم حماس تنازلاً بلا ثمن أو بثمن هزيل, أو حتى للإنصات لمطالبه, وحوصر أبو مازن من قبل أصدقائه في تل أبيب, ثم تم تخفيف القيود عليه بعد تيقن الجميع أنه غير ذي فاعلية في هذه الأزمة وأن الضغط عليه لا يجلب إلا مزيداً من السمعة السيئة لـ"إسرائيل", ما جعله خارج سياق السياسة السرية في الأزمة الحالية, وغائب عن عدسات وميكروفونات التلفزة الباحثة دوماً عمن يملكون مفاتيح الأزمة ويمكنهم فعل شيء فيها, وبالتالي وجدت طرقها إلى خالد مشعل في دمشق وإسماعيل هنية (رئيس الوزراء الفلسطيني في غزة), وتوارى جرذان أوسلو مكتفين بدورهم الأصلي بوضع العلامات على سيارات المقاومين لإرشاد الطائرات "الإسرائيلية", وممارسة الإرجاف الإعلامي.. <BR>وبدا الجميع في مأزق ما عدا المقاومة التي لا يمكنها إلا أن تتم مشوارها الماراثوني المناضل, فليس بوسعها إلا أن تتحرك وفق تفويض شعبي أكده مركز القدس الإحصائي (برغم ما يعتري حياده من شكوك لغير مصلحة حماس) من أن خيار التمسك بخيار مبادلة الأسرى وتأييد أسر الجندي بنسبتي 77% و 70% على الترتيب, ووفقاً لهذا الاكتساح الشعبي في تأييد عملية الأسر والإفادة منها بل وتكرارها؛ فأمام الجندي الأسير سيناريوهان لمصيره بين المبادلة أو القتل, أما الكيان الصهيوني فقد وقع في مأزق خطير لاسيما مع أول تجربة سياسية لرئيس وزرائه أولمرت الذي وجد نفسه محشوراً في الزاوية, حين قال خالد مشعل أن قرار الإفراج عن الجندي الأسير في يد "إسرائيل", ومن ثم فهو أمام استحقاقات صعبة, تتمثل في أن قبوله يعني شرعنة لهذا الفعل الفلسطيني وتشجيعاً على تكراره, واعترافاً ضمنياً بطرف فلسطيني وبحكومة فلسطينية اعتبرتها "إسرائيل" منذ شهور حكومة إرهابية, وتأريخاً لأول مبادلة بين أسرى صهاينة وفلسطينيين داخل حدود فلسطين ومنذ الانتفاضة الأولى, ونجاح لأول مفاوضات تجري بين طرف "سني" وآخر صهيوني بعدما اقتصرت المبادلة بين طرفي "شيعي" ممثلاً في حزب الله والكيان الصهيوني خلال العقدين الماضيين, وأخيراً قلباً للهدف الذي قامت من أجله "أمطار الصيف" وهو إسقاط حكومة حماس, إذ أتت التصرفات الصهيونية الرعناء لتعزز من حظوظها في قيادة الشعب الفلسطيني؛ لأن مثل هذه العملية إذا ما أسقطت الحكومة ستنهار معها السلطة الفلسطينية كلية بالتبعية, وهذا ربما ما ترجوه حماس في تلك المرحلة. <BR> وأما خيار أولمرت بالانتظار وحرق الوقت تمهيداً لنجاح أجهزة استخباراته سواء بمعاونة جيش العملاء الفلسطينيين والذي نجح في الضفة الغربية في تحديد مكان المستوطن الأسير ما حدا بآسريه إلى قتله ومن ثم ألقى جهاز الأمن الوقائي القبض عليهم ثم سلمهم لـ"إسرائيل" على حد ما جاء في بيان ألوية الناصر صلاح الدين قبل نحو أسبوع, وفي هذا الخصوص يتأمل أولمرت في تحديد مكان الجندي الأسير ومن ثم تنفيذ عملية لتحريره ولخروج من هذه الأزمة وإن أسفرت العملية عن مقتله وفقاً لما هو متوقع ومتكرر من ذي قبل في عمليات مشابهة.. هذا الخيار أيضاً يصادمه تصريح خالد مشعل الآنف ذكر, ويصادمه ما يتوقع من مقتل العديد من عناصر الكوماندوز الصهيوني في هذه العملية طبقاً لمعطيات تاريخية وميدانية, وهو ما لا يتوقع أن يغفره الصهاينة هذه المرة لرئيس وزرائهم, لاسيما وأن المعطيات اليوم مختلفة عن أي وقت مضى, فالآسر يتبع حكومة منتخبة ولها شعبيتها القوية, والإعلام حاضر أكثر من ذي قبل, كما وأن طول مدة الأسر ضاغطة بقوة على دوائر صنع القرار الصهيوني, وكل يوم يمر بها هو دليل فشل لأجهزة الاستخبارات الصهيونية ودبلوماسيتها على حد سواء, والأسير الذي أصيب بما بين رصاصة إلى ثلاثة قد يكون متعافياً أو لا, ومن ثم فإن بقائه دون رعاية صحية مناسبة قد يؤثر على صحته, كما أن عدم تسرب أي معلومة عن مكان الأسير لحد الآن دافع إلى اعتقاد الأجهزة الأمنية الصهيونية بأن "شريكها الفلسطيني" المتعاون معها غير ذي منفعة في مثل تلك العمليات, لاسيما وأنه قد فشل خلال 4 أشهر ونيف هي عمر بدء عملية الوهم المتبدد (بدء تجهيز النفق والحفر) والتي لم تنته لحد اللحظة في استقصاء أي معلومة مفيدة يمكنها أن تقود إلى تحديد مكان الأسير بعد أن فشل في إجهاض هذه العملية من الأساس في قطاع غزة الضيق. <BR><BR>والحق أن هذا المأزق الصهيوني, مرده حال من الهزيمة النفسية والمعنوية القتالية المنهارة إذا ما اصطدمت بصخرة غزة التي تبقى لها رهبتها وإن لفتها المجازر, أوليس أولمرت قد صرح قبل العملية بأنه لن يلقي 15 ألف جندي في "جحيم غزة", أوليس قد قال وزير استيعاب المهاجرين الجدد زئيف بويم للإذاعة العامة العبرية أمس : " إن ميدان العمليات في قطاع غزة لا يتيح تحقيق نصر سريع (..) سيضطرنا الأمر لإطالة مدة العمليات ويجب التحلي بالصبر؛ لأننا لا نريد إعادة احتلال هذه المنطقة (..) فإسرائيل لا تملك في هذه المرحلة حلاً سحريًا لوقف إطلاق الصواريخ الفلسطينية, لكن بإمكاننا خفض عددها وهدفنا على المدى الطويل هو وقف إطلاقها بالكامل". أوليست قد قالت هآرتس، نقلاً عن مصادر صهيونية، أن جيش الاحتلال سيوسع عملياته العسكرية في الفترة القادمة داخل قطاع غزة، حيث قدرت مصادر بهيئة الأركان الصهيونية أن تستمر عملية أمطار الصيف طيلة شهرين قادمين.. أليس يعني هذا كله أن الصهاينة تأخذهم رهبة غزة فتزيدهم جبناً إلى جبن ورهقاً إلى رهق, فيما بدأ المقاومون الأشراف معركتهم في حال نفسية عالية جداً عكستها الفضائيات على لسان جميع قادة الأجنحة العسكرية منذ أول يوم تهطل فيه أمطار الصيف, غير مأخوذين بعمليات الغدر الصهيونية الجبانة التي حصدت 50 شهيداً وأكثر من 200 جريح بأسلحة محرمة دولياً حتى صباح اليوم, إن رهبة غزة التي جعلت (الزعيم الصهيوني) شيمون بيريز يتمنى أن يصحو من النوم فيجدها وقد غرقت في البحر, ما زالت هي هي التي تجعل جنود أولمرت يقدمون قدماً ويؤخرون أخرى, رجاء أن تنحل الأزمة قبل أن يصطادهم المقاومون.<BR><br>