قائد الأمة.. ورمز عنفوانها
4 صفر 1425

دماء الشهداء كانت دائماً وقوداً لحركات المقاومة، ونوراً يضيء الطريق في غياهب الظلمات، لكن عندما يكون الشهيد هو القائد المؤسس نفسه، هو المربي والقدوة وصاحب الموقف الحاسم. وعندما يكون الشهيد هو أحمد ياسين، الرجل المقعد المريض المشلول الذي قارب السبعين من عمره، وعندما تكون المعركة التي استشهد فيها تدور بين شعب مستضعف لا يملك من عناصر القوة شيئاً، وقد حرم من مناصرة إخوانه العرب والمسلمين، وبين أعتى قوة عسكرية واقتصادية في المنطقة مدعومة بأشرس قوة عالمية هي الولايات المتحدة.<BR><BR>وعندما يكون الوقت بعد أداء صلاة الفجر، وبعد استكمال الدعاء المأثور، حيث يكون الإنسان قد تطهر تماماً من كلّ أنواع الذنوب، وأصبح مستعداً للقاء الله بنفس صافية وقلب ودود.. هنا تشمخ الشهادة بالشهيد، وتتنزل الملائكة من كل حدب وصوب لاصطحاب الروح الطيبة العملاقة في معراجها من قمة الأرض إلى قمة السماء.<BR><BR>منذ السادسة عشرة من عمره المبارك أصيب بالشلل الكامل، ولم يمنعه ذلك من العمل والبذل والتصدي لقيادة شعبه في أحلك الظروف وأدق المراحل. لكأني بهذا الشعب المجاهد الصابر وقد انتزعت منه كل عناصر القوة، ولم يبق له إلا صلته بالله وتوكله عليه. كأني به يحتاج إلى قائد افتقد كل أسباب القوة المادية في جسده النحيل، ولم يعد يجد فيه ما يعتمد عليه، فتوجه بصدق وإخلاص، إلى صاحب القوة والجبروت، الذي له الخلق والأمر، وهو نور السماوات والأرض، فإذا به إنساناً من نوع آخر، يواجه بالكلمة والإرادة والموقف الإرهاب الصهيوني المدجج بالسلاح، يتخاذل الجميع وهو صامد لا يلين، يتحدث على كرسيه المتحرك فتهفو إليه قلوب الملايين؛لأنه يتكلم بما تجيش به مشاعرها، ويعبر عن آمالها. حتى عندما استشهد وارتفعت روحه الطاهرة، اختبأ الصهاينة في جحورهم وتركوا الشوارع مقفرة، إنهم يخافونه حياً، وهم اليوم أشد خوفاً؛ لأنهم يعلمون أنهم لا يواجهون إنساناً عادياً، إنما يواجهون القدر الغالب، قدر الله الكبير المتعال يجري على يد الرجال الأشاوس، رهبان الليل فرسان النهار، الذين تربوا في مدرسة النبوة على يد عملاق الحركة الإسلامية الشهيد أحمد ياسين.<BR><BR>لقد فاز العالم القائد الشهيد بالحسنيين معاً: الشهادة، وهي ما كان يتمناه ويدعو الله أن يرزقه إياها، وشعاره منذ شبابه "الموت في سبيل الله أسمى أمانينا". إنها أمنية رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فهو القائل: "والذي نفسي بيده، لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل" رواه الشيخان.<BR>أما النصر فهو آت لا محالة، ولقد فاز به أحمد ياسين أعظم ما يكون الفوز. مئات الألوف يشيعون جنازته في غزة، ومئات الملايين في كل بلاد العالم يبكونه ويشهدون للمقاومة التي ساهم في إطلاقها وحافظ على استقامة خطها، إنها المقاومة الإسلامية البطلة تسجل في ملاحمها اليومية انتصار الدم على السيف، انتصار الصمود على الاستسلام. إنه وعد الله الذي لا يتخلف: "يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم"، "إن ينصركم الله فلا غالب لكم"، "وكان حقاً علينا نصر المؤمنين"، ولئن فاتت شهيدنا مظاهر النصر النهائي، فلقد عاش بشائر النصر وعلاماته كأنه يراه أمامه رأي العين، وهو لم يغب عنه لحظة واحدة.<BR><BR>من حق الشعب الفلسطيني أن يفخر بانتفاضته وبشيخها، وبمقاومته وبقائدها، ومن حق العرب جميعاً والمسلمين قاطبة أن يفخروا بقيادة تاريخية نقلت الأمة من حالة اليأس والإحباط والهزيمة، إلى آفاق الصمود والأمل والنصر القريب _بإذن الله_.<BR>لكن من حقنا أيضاً على حكوماتنا أن تكون معنا لا علينا، وأن تعبر عن آمالنا وليس عن رغبات أعدائنا، وأن تقف صفاً واحداً أمام الهجمة الصهيونية الأمريكية التي تريد ابتزازنا وإذلالنا جميعا، من حقنا أن نطالب بوقف كل أنواع التطبيع مع العدو الصهيوني، وإغلاق سفاراته ومكاتبه التجارية، وطرد سفرائه وممثليه، ووقف كل أنواع الاتصال به والتعاون معه، وعدم التباكي على السلام كلما نحره شارون، من العيب أن تستقبل بعض بلادنا الصهاينة المعتدين، وأن تطرد أو تحاصر أبناء الشعب الفلسطيني البطل، من العيب أن يجوع شعبنا الصامد المجاهد، ونحن نتفرج عليه، تهدم بيوته، وتحرق مزروعاته، وتصادر أراضيه، ويقتل رجاله ونساؤه وأطفاله، ونحن عاجزون عن نصرته والدفاع عنه، بل نحن ممنوعون حتى من المساعدة المالية نخفف بها عنه ضيق العيش. <BR><BR>من حقنا أن نطالب القمة العربية القادمة في تونس بوقفة عز، تسحب فيها مبادرة السلام التي أقرتها في القمة السابقة، بعد أن تأكد بوضوح أن العدو الصهيوني لا يريد السلام، وتعلن بدلاً منها موقفاً سياسياً موحداً يؤيد جهاد الشعب الفلسطيني للحصول على الاستقلال، وممارسة حقه في تقرير مصيره على أرضه.<BR>لقد كان أحمد ياسين شيخاً لحماس، وقائداً للانتفاضة، ورمزاً للمقاومة، لكنه اليوم باستشهاده تحول إلى روح هادرة تسري في عروق العرب والمسلمين وكل أحرار العالم، فتشعل الأرض تحت أقدام المحتلين.<BR>أحمد ياسين هو اليوم قائد الأمة كلها ورمز عنفوانها.<BR><BR>كلّ التهنئة لشيخنا الحبيب الشهيد وإخوانه الشهداء، ونسأل الله _تعالى_ أن يجمعنا بهم في جنان الخلد مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.<BR>وكلّ التهنئة لشعبنا الفلسطيني الذي أكّد بإيمانه وصموده الأسطوري وأرتال شهدائه أنه يستحق الحياة الكريمة، وإنه جدير بالانتماء لهذه الأمة المباركة "خير أمة أخرجت للناس".<BR><BR>* الأمين العام للجماعة الإسلامية في لبنان.<BR><br>