الأمن ثقافة أولاً ودائماً
9 ربيع الثاني 1424

<center>بسم الله الرحمن الرحيم </center><BR>ليس الأمن في أي مجتمع من المهام اليسيرة، والقضايا الصغيرة التي يكفي في حسمها وفرضها بضعة آلاف من العسكر؛ لأن الشرطة تدعم حمى الأمن ولكن لا تخترعه، وتفرضه ولكن لا تصنعه. كما لا يمكن أن يقوم الأمن بالتراضي بين فئة من المجتمع وبين المسؤولين عن أمنه، بحيث يتنازل المسؤولون لهذه الفئة، ولذلك عندما يغضون الطرف عن قيام جزر أمنية لا تطاولها سلطة الدولة.<BR>إن الأمن يكون تاماً وشاملاً أو لا يكون، وتنازل السلطة فيه يبعث على الشك في جدارتها باسم السلطة.<BR>ومما لا شك فيه أن تقاعس أي سلطة سياسية عن أداء دورها التربوي والتنموي والدفاعي تجاه محكوميها يلقي على عاتق الأجهزة الأمنية أعباء ثقيلة ومتزايدة، تنبثق عن غياب جزئي أو كلي للسلطة السياسية إزاء القيام بأداء السياسات المنوطة بها بموجب التعاقد المادي والمعنوي بين الحكام والمحكومين.<BR>وكلما تميز أداء السلطة بالمبادرة المبدعة، وبردم المسافة بين القول والفعل، وتقصيرها قدر الإمكان، واعتماد الصدق مبدأ في القول الذي يمنحه المواطنون التصديق، وتعزيز أجهزة التخطيط، بوصفها مجاهر تعين – بتوفيق الله – على رؤية أدق للمستقبل بحيث تجنب السلطة والمجتمع مفاجآت الانفجارات السكانية وما تطلبه من توسع عمراني وتعليمي ووظائف... إلخ، وكلما نشطت مؤسسات المجتمع المدني لأداء دورها في مراقبة الأداء الحكومي ومنحه النصح والخبرة، وكلما أدت الصحافة دورها في النقد البناء، وأسهمت في مناقشة التحديات في الهواء الطلق، وكلما امتلكت الدولة القدرة على جذب قوى المجتمع إلى المشاركة في مسيرتها، وعملت على اطلاع الناس على الإمكانات المتاحة والمشكلات الملحاحة، وكلما انخرط المواطن أكثر في مشروع الحكومة مشاركاً بكل ممتلكاته المادية والإبداعية في تحصين السلطة التي يعد تحصينها في النهاية الضمان الأفضل له ولأسرته ولقيمه ومعتقداته، وكلما وَجَد الناصحون والخبراء الغيورون مفتحة لهم الأبواب، فلا يكون نقدهم وشوشة أو تشنيعاً على الحكم والحكومة، وكلما تراجعت أسهم المنافقين والمرتزقة، ومُكن للمخلصين والخبراء، ما كان إخلاصهم وخبرتهم موضوعيين وعمليين، وليسا هشّين أو مرتجلين، وكلما كانت وحدة الأمة سلطة وأرضاً وشعباً محل المتابعة الدؤوب، وكلما كانت العلاقات الإقليمية والدولية تخضع لرؤى تكون مصلحة البلاد والعباد لحمتها وسداها، وكلما شعر الجميع – قاعدة وقيادة – أن الفتنة واللعب بورقة الوحدة السياسية والقيمية ستنعكس على الجميع مشكلات سياسية واقتصادية وبالتالي قتامة في المستقبل، وكلما راعت السلطة مشاعر الناس في عمليات التحديث بحيث تتعدد الرؤى في إطار الوحدة، كلما تحققت الأمور السابقة، وتفاعل المواطنون معها تفاعلاً إيجابياً نعم الجميع بهذا التآزر والتوازن، أداء وعطاء، ازدهاراً ونماء.<BR>قد يكون من المستحيل إرضاء الناس.. كل الناس وتلبية حاجات الناس كلها، في الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أحدٌ أصبرُ على أذى سمعه من الله، يدّعون له الولد ثم يعافيهم ويرزقهم" [فتح الباري 13/360 رقم الحديث 7378] .<BR>إن هذا الحديث يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن إرضاء الناس – كل الناس – قد لا يكون وارداً، ولكن إذا كان المجتمع من خلال النخب المثقفة الملتزمة أخلاقيات المسؤولية راضياً عن الأداء الرسمي فهذا وسام على صدر السلطة.<BR>وتستطيع أي سلطة أن تصمّ أذنيها عن نقدها وتوصد أبوابها في وجه نقادها، كما تستطيع النخبة المثقفة الملتزمة أن تنأى بنفسها عن الحكم، وقد تستطيع إزعاجه، وإذا ما بدأ خط الإزعاج المتبادل ينحو منحى تصعيدياً، فسيكون ذلك خطراً على مساحة الحرية التي لا بد منها لتدور الحياة دورة كاملة في شرايين المجتمع والسلطة معاً.<BR>إن الانفصام بين الثقافة والأمن مؤذن بالانفصال بين القيادة والقاعدة، وبِغَضّ النظر عن نسبة تحمل كل الأطراف مسؤولية ذلك، فإن هذا الانفصال أخطر ما يكون عندما يصبح العنصر الأساس في تشكل نظرة الطرفين أحدهما إلى الآخر.<BR>إن اقتراب السلطة في – عالمنا الإسلامي – من أحاسيس الناس وحنوها عليهم ورحمتها بهم، إن ذلك يؤذن – بفضل الله – بالتمكين لها في القلوب أكثر وأعمق مما تمكنه لها آلاف الجنود.<BR>إن الحكومة إذا استطاعت أن تصل إلى مرحلة تعتقد معها أن القوات المسلحة هم جنودها غير المباشرين والشعب هم جنودها المباشرون، وإذا أوجدت مواطناً يدفع التنقص كما يدفع عن شخصه، ويحمي مقدراتها حمايته ممتلكاته الخاصة، إن مثل هذه الدولة من حقها أن تزهو بهذه الشرعية التي لا تعلوها شرعية، وأن تحمد الله على هذا التوحد بينها وبين شعبها.<BR>ولكن هل إلى خروج من سبيل إلى هذه الآفاق الرحبة دون أن تتدفق في قلوب الجميع ثقافة الحب والحياة والعمل؟<BR><br>