السؤال
الإخوة الكرام في موقع "المسلم" <BR>السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... وبعد:-<BR>في شهر رمضان من كل عام أجتهد في العبادات، بأقصى درجة؛ فأحرص على الصلوات، وأواظب على الورد القرآني، وأكثر من التصدق؛ طاعة لله و رغبة في الأجر الوفير الذي خص الله به هذا الشهر الكريم، ولكن للأسف فإنه بمجرد انتهاء هذا الشهر يصيبني الفتور، وأعود كما كنت قبل رمضان، بل وربما أزداد تقصيراً، فتكثر ذنوبي وتزداد غفلتي !!<BR>فكيف يمكنني الاستعداد لمواجهة هذا الشعور قبل أن ينتهي رمضان؟... أريد أن أستثمر الطاقة الإيمانية التي اكتسبتها من هذا الشهر في التخلص من هذه الحالة وهذا الشعور... و جزاكم الله خيراً.<BR>
الجواب
الأخ الكريم: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته: وأهلاً ومرحبا بكم، وشكر الله لكم ثقتك بإخوانك في موقع المسلم، ونسأل الله _عز وجل_ أن يجعلنا أهلاً لهذه الثقة.. اللهم آمين. أخي الحبيب: سؤالك هذا يدل على كونك بخير وإيمان ، نعم .. فإن المؤمن هو الذي يشغله أمر دينه.ورصدُكَ لهذا الشعور الذي ينتابك، واهتمامُكَ به، وسعيُكَ للبحث عن حل له، دليلٌ على قلب يقظ، ونفس تواقة للطاعة، وكلها مشاعر طيبة، ونوايا صالحة، أسأل الله _عز وجل_ أن يجزيك عنها خيراً. وصدق رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ إذ يقول فيما رواه عنه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رَضيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: سمعت رسول اللَّه _صلى الله عليه وسلم_ يقول: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى. فمَنْ كانت هجرته إِلَى اللَّه ورسوله فهجرته إِلَى اللَّه ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إِلَى ما هاجر إليه". (متفق عَلَيه). ونية المرء – أخي الحبيب – خير من عمله، كما قال _صلى الله عليه وسلم_. هذه مقدمة، أردت أن أستهل بها كلامي، أما عن سؤالك، فاعلم أخي – فقهك الله- أن العبد يمر في حياته، بمراحل مختلفة، من الضعف والقوة، ومن الغنى والفقر، ومن الصحة والمرض، فلا يدوم حالٌ بإنسان، فمن كان اليوم قويا فهو إلى ضعف، ومن كان اليوم صغيراً فهو إلى كبر، ومن كان اليوم صحيحاً فهو إلى مرض، تلك سنة الله في خلقه، ولله في خلقه شئون. كما أود أن أذكرك بأن الفتور في العبادات أمر قد ينتاب العبد المسلم، فتراه مستعداً متهيئاً لاستقبال شهر رمضان، فإذا جاء رمضان كان أكثر نشاطاً، يصوم نهاره، ويقوم ليله، ويستثمر فراغه بقراءة القرآن، وتدبر معانيه، وترى لسانه رطباً بذكر الله، وهو خلال الشهر مقبل على ربه، راغب في طلب العلم، مكثر من التبتل، دائم الاستغفار، ما تمر به ساعة إلا ويرفع يديه إلى السماء، مقراً بفضله، معترفاً بذنبه، طالباً رحمته، مرتجفاً من عذابه، يسأله قبول الأعمال، وتحقيق الآمال، ومنتهى أمله أن يعتق رقبته من النار. فإذا ما انتهى رمضان؛ ربما يعود سيرته الأولى، فيصبح مقصراً في العبادات، مقلاً في الطاعات، يملؤه الكسل عن أداء الفرائض، ناهيك عن السنن والنوافل، ما يكاد يُمَتِعُ عينه بالنظر في آيات القرآن ، ممسكاً عن الصدقات، لا يمسح بيده على رأس يتيم، ولا يربت بكفه على كتف مسكين، لا يغيث ملهوفاً، ولا يعطي محروماً، ولا يصل رحماً مقطوعة، .....إلخ. أخي الحبيب: أذكر نفسي وإياك بقول رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "إن لكل عمل شرة ولكل شرة فترة؛ فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك"أخرجه البيهقي عن عبد الله بن عمرو ، فكل إنسان يمر بحالة من الفتور وحالة من اليقظة، فمن استشعر اليقظة في نفسه فليغرف من الطاعات، ولينهل من النوافل، ومن استشعر من نفسه فتورا، فليمسك عن اقتراف المعاصي، ولينصرف عن فعل الذنوب والآفات. قال الشيخ محمد مختار الشنقيطي تعليقا على هذا الحديث : " هذه الفترة لله فيها حكم، من الحكم: أنه يظهر فيها صدق الصادق، بعض الناس إذا جاءته الفترة استمسك، وأصبح في ابتهال ودعاء وإنابة إلى الله _عز وجل_، وخوف أن يسلب منه ذلك العمل الصالح، وهؤلاء هم الأخيار، وهم أعلى الناس مقاماً في العمل الصالح، وتجده يتألم، يكون محافظاً على قيام الليل والنوافل والطاعات، حتى إذا أصبح منه -ولو شيئاً يسيراً- من التقصير في أمور ليست بالواجبة يتألم ويضجر، ويحس أنه قد فقد حياته؛ لأنه من حياة قلبه يحس أن مصيبته كل المصيبة دينه، وأنه إذا أصيب بنقص في دينه أنها هي الخسارة، عبد طائع منيب لله يحس أنه ينبغي أن تستغل الحركات والسكنات والأوقات في محبة الله. هذه الحلاوة إذا جاءت في بداية العمل لا بد من وجود ضعف بعدها؛ لأنه لو كان الإنسان دائماً في طاعة واستقامة فإنه قد يخرج عن الحد المألوف، وقد يتجاوز إلى مقام التنطع والغلو في الدين، ولكن الله يبتلي العبد بنوع من الضعف، ويكون لهذا الضعف حكمة بحيث يشوق بعد ذلك إلى الخير أكثر " ويحكي أبو ربعي، حنظلة بن الربيع الأسيدي، أحد كتاب رَسُول اللَّهِ _صلى الله عليه وسلم_، يقول: لقيني أبو بكر رَضِيِ اللَّهُ عَنْهُ فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة! قال: سبحان اللَّه! ما تقول؟ قلت: نكون عند رَسُول اللَّهِ _صلى الله عليه وسلم_ يذكرنا بالجنة والنار كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عند رَسُول اللَّهِ _صلى الله عليه وسلم_ عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً. قال أبو بكر رَضِيِ اللَّهُ عَنْهُ: فو الله إنا لنلقى مثل هذا. فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رَسُول اللَّهِ _صلى الله عليه وسلم_ فقلت: نافق حنظلة يا رَسُول اللَّهِ! فقال رَسُول اللَّهِ _صلى الله عليه وسلم_: وما ذاك؟قلت: يا رَسُول اللَّهِ نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً. فقال رَسُول اللَّهِ _صلى الله عليه وسلم_: والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة في فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وأحذر نفسي وإياك- أخي الحبيب- بقوله _تعالى_:{ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً}. (النحل 92). وأذكر نفسي وإياك بما نهانا رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ عنه، من النكوص عن الطاعات بعد البدء فيها؛ فعن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رَضِيِ اللَّهُ عَنْهُ قال، قال لي رَسُول اللَّهِ _صلى الله عليه وسلم_: "يا عبد اللَّه لا تكن مثل فلان كان يقوم من الليل فترك قيام الليل" (متفق عَلَيْهِ). فكيف يطيب لعاقل أن يمكث شهراً كاملاً، يغزل في الطاعات، والقربات، ثم ينقلب على نفسه، يفك ما نسج، وينقض ما غزل. أما ما يجب عليك عمله، للحفاظ على الطاقة الإيمانية التي اكتسبتها من شهر رمضان، وحتى نكون قوماً عمليين، فإنني أضع النصائح التالية بين يديك، لعل الله ينفعني وإياك بها:- 1- الجأ إلى الله، وتوسل إليه أن يعينك على مواصلة طاعته، وأن يصرف عنك الشيطان، والكسل، والفتور، وأن يمدك بطاقة إيمانية تدفعك للأمام، فتجعلك من أهل طاعته، وهناك الكثير من الأدعية المأثورة عن حبيبنا _صلى الله عليه وسلم_ في هذا المجال ومنها على سبيل المثال: (اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)وهي وصية النبي _صلى الله عليه وسلم_ لمعاذ _رضي الله عنه_ . 2- اعلم أن هناك حد أدنى وحد أعلى، في علاقة العبد بربه، فإن ضاع منك الحد الأعلى بعد رمضان، وهو الاستمرار بنفس الطاقة الإيمانية، وعلى نفس الحال الذي كنت عليه خلال رمضان، فلا أقل من أن تحرص على الحد الأدنى، ألا وهو المحافظة على أداء العبادات، والبعد عن المحرمات، فإن لم يزد إيمانك عما كنت عليه قبل رمضان، فلا يينبغي أن يقل عنه. 3- اعلم أن رمضان شهر له خصوصيته في العبادات، وهو أشبه ما يكون بمعسكر سنوي، أو دورة تدريبية إيمانية، فيها يفرغ المرء نفسه أو يكاد للطاعة، وقليل هم الذين يستمرون بعد رمضان بنفس الدرجة التي كانوا عليها في رمضان، وإنما المطلوب من العبد أن ينظر إلى نفسه كيف كان حاله قبل رمضان، وهل استفاد حقاً من هذه الدورة التدريبية المكثفة في الإيمان، والتي استمرت شهراً كاملاً، فإن كان منحنى حاله مع الله بعد رمضان في ارتفاع فليحمد الله وليحافظ على مستواه الإيماني وليسعى ما استطاع لزيادة هذا المستوى وارتفاع هذا المنحنى. 4- أما إن كان منحى حاله مع الله بعد رمضان في ثبات، بحيث أنه لم يتقدم خطوة واحدة عما كان عليه قبل رمضان، فمعنى هذا انه لم يستفد من هذه الدورة التدريبية، وأنه أضاع وقته دون فائدة حقيقية، فليبذل جهدا، وليراجع ما كان من تمارين وتدريبات إيمانية كان يؤديها خلال هذه الدورة – رمضان – في محاولة منه لرفع مستواه، فمما أثر عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه (من استوى يوماه فهو مغبون). 5- وأما إن كان منحى حاله مع الله بعد رمضان في نزول، وتناقص، فإنه يجب عليه أن يكون صادقاً مع نفسه، وان يستشعر الخطر، وأن يعلن حالة الطوارئ، وان يقف مع نفسه وقفة مصارحة ومكاشفة، وان يسأل نفسه: ما أعددت للقاء الله؟، وماذا تفعل لو مت على هذه الحال؟، ألا تستحي من ربك؟. 6- أكثر من النوافل فإنه باب الوصول لمحبة الله _عز وجل_، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : { إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ } [رواه البخاري]. 7- اجتهد أن تأخذ من شهر رمضان لما بعده من الشهور، ومن أيامه لما بعده من الأيام، ومن لياليه لما بعده من الليالي، فتحافظ على الصلوات الخمس في المسجد في الجماعة الأولى، واحذر ان تتكاسل عن أدائها، فإنها عماد الدين من أقامها فقد أقام الدين ومن تركها فقد هدم الدين. 8- اجتهد أن تقوم الليل مثلما كنت تقومه في رمضان، فإن شق عليك فليس أقل من ركعات قبل أن تنام وإياك أن تكون ممن حذرهم النبي _صلى الله عليه وسلم_ فقال في نصيحته لعبد الله " يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم من الليل فترك قيام الليل " رواه مسلم 9- وكذا تحرص على الصدقة، وتكثر من إخراجها، تربية لنفسك على الإنفاق، وتدريباً لقلبك على البذل، فإن تيسر لك الأمر فلتكفل يتيما تنفق عليه، وتجعله واحدا من أولادك، فإن شق عليك فتتصدق بصدقة ثابتة كل يوم، فإن شق عليك فلتكن في الأسبوع مرة، وإياك أن يمر بك شهر كامل دون أن تتصدق فيه ولو بشق تمرة. 10- أحرص على قراءة القرآن بعد رمضان، فاختم القرآن كل أسبوع، فإن شق عليك فاختمه مرتين في الشهر، فإن شق عليك ففي الشهر مرة، اجعل لك ورداً ثابتاً، جزءاً في كل يوم، وإياك أن تهجر القرآن، فلا تقرأه إلا في رمضان. 11- كن حريصاً على صلة رحمك، وفي الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه سمع رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يقول: عن الله _عز وجل_: (أنا الله وأنا الرحمن خلقت الرحم، وشققت لها اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته). ويقول _صلى الله عليه وسلم_: "من أحب أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه". 12- انتق أصدقاءك، وصف أصحابك، واعتبر رمضان فاصلاً في حياتك، ونقطة بداية لحياة جديدة، مع الله، فاختر لك من أصحابك صديقاً صالحاً، تزيدك صحبته بالله معرفة، وعلامته أن تذكرك بالله رؤيته. 13- تنفل بالصوم مثلما كنت تصوم في رمضان، وقد علمنا رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أن هناك أياما فاضلة سن فيها الصوم، وجعل أجره كبيراً، وختاماً؛أسأل الله تعالى أن يوفقك لما يحب ويرضى، وأن يفقهك في دينك، وأن يعينك على طاعته، وأن يصرف عنك معصيته، وأن يرزقك رضاه و الجنة، وأن يعيذك من سخطه والنار، وأن يهدينا وإياك إلى الخير، وأن يصرف عنا وعنك شياطين الإنس والجن، إنه سبحانه خير مأمول.. وتابعنا بأخبارك وأخبار إيمانك بعد رمضان لنطمئن عليك... وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ... <DIV align=center> <TABLE width=100% align=center border=0 cellPadding=0 cellSpacing=0> <TBODY></TBODY> </TABLE> </DIV>