لماذا يرفض الغرب العلمانية في سوريا؟
21 ربيع الأول 1439
منذر الأسعد

أعي جيداً أن هناك حواجب سترتفع، وشفاهاً ستُقْلَبُ، اعتراضاً على عنوان مقالي ونفياً جذرياً لمحتواه.

 

هذا الإنكار الشديد سيأتيني من طرفين متناقضين، فذوو التوجهات الإسلامية مقتنعون إلى حد اليقين بأن الغرب يسعى بكل قوته لفرض العلمنة على النظم السياسية في ديارنا. والعلمانيون يبرِّئون الغرب من تهمة النفاق والازدواجية، ويُلْقون باللوم على "تعصب" الأمة الذي يجعلها ترفض "منحة" التغريب التي يجود بها السادة على عبيدهم!

 

العراق الحاضر/ المنسيّ
لا أدري كيف يتجاهل الطرفان تجربة مؤلمة مستمرة في العراق منذ الغزو الأنغلوأمريكي سنة 2003م حتى اليوم.

فقد نقض المحتلون بنيان الدولة العراقية كله، بما فيه الجيش العراقي والوزارات والمؤسسات العامة.. وأقاموا فوق أنقاض هدمهم نظاماً طائفياً/عرقياً لم يعرف العراقيون لم مثيلاً في تاريخهم من قبل. وكان المغفلون يتوقعون تأسيس نظام علماني صارم، لا مكان فيه لانتماءات ما قبل الدولة بمفهومها الغربي المعاصر.
ومن رغب في التثبت من أن الأمر كان مبرمجاً مسبقاً، فعليه الرجوع إلى مذكرات كل من الحاكم الأمريكي للعراق بول بريمر ووزير الدفاع الأمريكي يومئذ دونالد رامسفيلد؛ فقد كانا ينسجان نظام المحاصصة البغيض بالتنسيق المستمر مع المرجع الشيعي علي السيستاني،لأن واشنطن أرادت نظاماً شيعياً يتبع إيران ويحظى فيه الكرد بنوع من الاستقلال الذاتي الموسع، لكي يصبح أهل السنة هشيماً تذروه رياح الحقد الطائفي الكامن، والذي ستؤججه دولة ملالي قم لإعادة تشكيل العراق بما يلائم أطماع العنصريين الفرس التي تحنُّ إلى إمبراطورية عُبَّاد النار ما قبل " الاحتلال العربي" – والمقصود هو : الفتح الإسلامي الذي يمقتونه أشد المقت-!

 

"شعوب" سوريا
إن من يتتبع الممارسات الروسية القبيحة في سوريا،-باعتبار الروس وكلاء الغرب لإخضاع الشعب السوري-، تذهله الصراحة التي تقترب من الوقاحة، حتى في الكلام العلني الذي يُفترض فيه أن يتسم بالمراوغة واللعب بالمصطلحات والحرص على التسميات المنمقة والشعارات التزويقية.

 

منذ الشهور الأولى للثورة السورية، تطوع وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف بالنيابة عن الغرب ونتنياهو، بالقول : لا يمكن السماح لأهل السنة بحكم سوريا!!

وكل ما جرى بعد ذلك من سياسات فعلية من الغرب والشرق، كان يصب في هذه الطاحونة البشعة. واتخذ القوم من التمسك بنيرون العصر وسيلةً لتنفيذ هذا الشعار الحقود، الذي يتناقض مع العلمانية جذرياً!

 

وفي الشهور الأخيرة، أخذ بوتن يدعو إلى مؤتمر لحوار سوري تحت رعاية مخابراته، أطلق عليه اسم: مؤتمر شعوب سوريا!!

واضطر لتغيير الاسم بعد تصاعد الاحتجاجات عليه، لكنه ظل يكرر التسمية الأثيرة لديه، بين فترة وأخرى.

كما تجلى مبدأ التقسيم العرقي/الطائفي في مشروعه الاستعماري لفرض دستور على السوريين من الغزاة الجدد، بقبول ضمني من المصفقين من سائر الدول الكبرى بلا استثناء!

 

وأما أصحاب ذاكرة الأسماك القصيرة، فينبغي لنا تذكيرهم بأن التآمر العالمي على الثورة السورية بدا جلياً منذ أيامها الأولى، عندما كانت سلمية وترفع شعارات "مدنية" "وطنية" شبه علمانية: الشعب السوري واحد- لا سنية ولا علوية- لا سلفية ولا إخوان....!! لكن هذه الهتافات العفوية لم تشفع لها عند الغرب الذي تقاسم الأدوار، فادعى بعضه أنه يؤيدها زوراً وكذباً، بدليل إبقائه الاعتراف الرسمي بعصابة بشار في سفاراته لدى العواصم الغربية نفسها، وفي المنظمات والهيئات الدولية!!

 

شهادة مهمة
في سنة 1965 أرسل قنصل دولة أوربية رسالة فائقة الأهمية في موضوعنا.. أوجز فيها رؤيته لسوريا بعد سنتين من انقلاب البعث الأسود في 8 آذار/مارس 1963..

 

"المجتمع السني السوري ليس شديد التدين ومتسامح مع الاديان والإلحاد الشيوعي .. رجال الدين ينتسبون الى طرق الصوفية التي تمارس طقوس الذكر والانشاد والمهرجانات الدينية... عدد المدارس الدينية يعد على الاصابع .. معظم المساجد والوظائف الدينية تحت سيطرة وزارة الاوقاف البعثية .. التحدث في المساجد بالسياسة ممنوع ويعاقب عليه ... الناشئة لا يرتادون المساجد .. ويوجد بعض الكتاتيب في الارياف .. النساء المتوسطات السن والمسنات يرتدين ثوبا مخففا من الزي القديم (الملايا) والفتيات اكثرهن سافرات بالمدن وبعضهن يلبسن التنانير القصيرة ويتبرجن .. الشباب يلهون بالمقاهي والاسواق وبالحدائق العامة ومتابعة فرق كرة القدم ويرتادون قاعات السينما المزدحمة دائما ويتابعون اخبار نجوم السينما والغناء المصريين بالاخص .. الفنانون والفنانات والممثلون يشكلون الانموذج لهؤلاء الشباب والفتيات .. ابرزهم على الاطلاق المطرب الممثل عبدالحليم حافظ وفريد الاطرش وام كلثوم وشادية ونجاة والراقصات المصريات الشهيرات .. وتجد صورهم في المحلات والصالونات والاسواق ... المجتمع السوري اقل تدينا من غيره .. وينتشر بينهم سب الدين والرب والسماء ,,, وتنتشر فيهم الشتائم الجنسية الغليظة ..كما تنتشر الخمارات في عدد من احياء المدن وبيوت الدعارة .. ويوجد في كل فنادق المدن (قوادين) يدللون على العاهرات ويرسلوهن الى الفنادق والبيوت ،واغلبهن فتيات علويات ونوريات وفيهن من الارياف الفقيرة ويعملن مخبرات لاجهزة الامن مقابل تسهيلات .. ومهنة الدعارة غير منظمة ولا معترف بها .. الاختلاط مازال غير مشتهر ولكن الاسر المتوسطة والارستقراطية تمارس الاختلاط واللبرالية الاجتماعية ... المجتمع السني السوري قابل للتحرير من الاسلام والاندماج بالعصرنة والعلمانية فهو اقل عصبية من تعصب الاقليات المسيحية والدرزية والعلوية بينها ..

 

لا يوجد للسنة كيان سياسي مميز وأما الدولة فيسطر عليها الاقليات من الضباط والعسكريين من العلويين والدروز ويوجد تنافس شديد قد ينتهي بصراع بينهم ، والضباط العلويين اكثر نفوذا وامتدادا في الجيش والمجتمع .. القضية الفلسطينية تستعمل في الاستهلاك الاعلامي وفي قمع الحريات تحت حجة انه (لا يعلو صوت على صوت المعركة) .. مستقبل سوريا يتجه نحو الشيوعية المخففة مثل يوغسلافيا الاشتراكية ... الاسواق يديرها تجار معظمهم من السنة ويوجد نسبة من المسيحيين واليهود الذين يسيطرون على سوق الذهب والصرافة .. الدمشقي والحلبي السني يحب التجارة والعمل الحر ولا يرغب الوظائف الحكومية ."

 

ديكتاتورية الأقليات
إن الغرب أراد منذ عشرات السنين إنشاء ديكتاتورية للأقليات تسيطر على الأكثرية السنية .. وها هو يدوس على مبادئه وشعاراته ويعيد تأهيل طاغية البراميل بشار الكيماوي بعد كل جرائمه التي لا سابقة لها في وحشيتها ودمويتها وحجمها. وترك لقطعان القتلة الطائفيين أن يتدفقوا على الشام للمشاركة في ذبح السوريين وتشريدهم من وطنهم.. مع أنه يتشدق بالعداء لنظام خامنئي الكهنوتي القروسطي!

وهنا يثور سؤال منطقي: أليس في المنحدرين من أهل السنة علمانيون يثق الغرب بهم فيقبل بأن يحكموا دمشق؟

الحقيقة أن فيها زنادقة وملاحدة ... لكن ضمانة الغرب لحماية الكيان الغاصب تكمن في قبول وكيله الصفوي للطبقة الحاكمة .. كما أن الغرب يخشى من تقلبات هؤلاء –يستشهد الخبراء بنموذج ضياء الحق الذي بدأ حياته ذيلاً لأمريكا وانتهى عدواً شرساً لها-!!