مجزرة إفريقيا الوسطى.. العودة إلى مربع المسجد
25 محرم 1439
أمير سعيد

أضحى اعتيادياً أن تمر مذبحة تنفذ ضد مسلمين آمنين بلا ضجيج أو مبالاة تذكر، والمجزرة التي حصلت لرواد مسجد بقرية دمبي  جنوب شرق جمهورية إفريقيا الوسطى، ليست بدعاً من تلك المذابح، حيث لم يُثر ذبح إمام المسجد ونائبه وأكثر من عشرين مصلياً شهية وسائل الإعلام العالمية لإبرازه والحديث عنه، أو الساسة في المحافل الدولية للتنديد به، والبحث عن حل يوقف نزيف الدم المسلم في هذا البلد الذي يعيش فيه مسلمون يشكلون ما بين ربع إلى نصف سكان البلاد وفقاً لمعطيات متعارضة، تحت تهديد المذابح والمحارق منذ أن جردتهم فرنسا من السلاح، واستبقته بيد ميليشات الأنتي بالاكا "المسيحية"، التي تعيث في البلاد فساداً وتمارس عمليات تهجير قسري ضد المسلمين في العاصمة بانغي وبعض مدن وقرى البلاد.

 

السلوك الدولي- كما تقدم – ليس جديداً، فمن المعلوم من السياسة بالضرورة أن فرنسا التي تحكم كثيراً من دول إفريقيا من وراء ستار أو من أمامه تبغض الإسلام وتحاربه، ولديها تاريخ طويل من العداء للمسلمين ممتد منذ الحروب الصليبية التي كانت قلب جيوشها وحملاتها المستمرة، وكذا معلوم تواطؤ الدول الغربية مع فرنسا في هذا الصدد. غير أن ما يسترعي الانتباه أكثر في الجريمة هو استمرار وضع المساجد كهدف حيوي لحملات ميليشيات الأنتي بالاكا "المسيحية"، والتي تشكلت بقيادة جنرالات سابقين في نظام الرئيسة الأسبق القس الجنرال بوزيزي، وعبر الكنيسة الإفريقية، بدعم من فرنسا، والتي تقصدت فيما تقصدته من أهداف للمسلمين أكثر من 350 مسجداً منذ أن بدأت حملتها الفاشية لتهجير المسلمين من إفريقيا الوسطى، وفقاً لتصريح محمد سعيد إسماعيل أحد قادة المسلمين والمستشار السابق لرئيس جمهورية أفريقيا الوسطى، والتي كانت إحدى حلقاتها المهمة قد أعقبت ما أثاره الإعلام الفرنسي في إفريقيا الوسطى من مخاوف صليبية حينما تولى الرئيس ذو الجذور المسلمة محمد ضحية أو (ميشال ديجودوتيا) الحكم كأول رئيس "مسلم" للبلاد ضمن 8 "مسيحيين" حكموا إفريقيا الوسطى منذ ما سُمي بالاستقلال أوائل ستينات القرن الماضي، واستهل فيها حكمه بزيارة المسجد الجامع في العاصمة بانغي، وكبّر المصلون أثناء دخوله المسجد في العام 2013، إذ لم تلبث فرنسا أن جيشت الأنتي بالاكا وتدخلت حينها لنزع سلاح المسلمين وتركهم فريسة لسواطير الميليشيات ومناجلهم ومحارقهم، ومن ثم الإطاحة بالرئيس ضحية في أوائل العام التالي.

 

بالجريمة، تنكأ جراح مساجد إفريقيا الوسطى مجدداً، حيث يحقق ذبح المصلين في المساجد أكثر من هدف لفرنسا: تحطيم الروح المعنوية للمسلمين باستهداف مساجدهم المقدسة، وإشاعة الخوف بينهم، والأخطر هو جعل المساجد محلاً للخوف لا الأمن، حيث سيعمد من يبقى في البلاد من المسلمين إلى الابتعاد عن المساجد خشية تعرضه للهجمات الإرهابية؛ فيقل الرباط الإسلامي الذي يمكن أن يجمع المسلمون كجسد واحد متآخٍ متحد. فليست جدران المساجد هي المقصود بالأساس، بقدر هدم هذا السقف الإسلامي الذي يلتئم المسلمون تحته، وتجهيلهم دينياً، وتمزيق رباط الأخوة المتين الذي يجمعهم.

 

مجزرة مسجد بقرية دمبي تحقق شيئاً من هذا، تماماً مثلما تحققه الهجمات "الأنيقة" ضد المساجد في "عاصمة النور" باريس نفسها (أو هكذا يدعونها)، والاعتداءات المتكررة على المساجد في بلدان أوروبا المختلفة، والتضييق على المساجد ومراقبتها وتفتيشها وروادها في معظم دول العالم الإسلامي؛ فالمقصد واحد لا ينحرف عن مساره سواء نفذه "همجي يرتدي أسماله في بلد متخلف كإفريقيا الوسطى" أو قام به "يميني يرتدي الملابس العصرية في بلد متحضر كفرنسا"، طبقاً للتصنيفات الحداثية الجائرة.  

 

إن الوسائل تكاد تتطابق، والأهداف واحدة، والحملات يقوم بها الآخرون كافة، ولا يردها المسلمون كافة في المقابل، إن عالمية الصراع تتطلب مشروعاً جامعاً للمسلمين يوقف هذا العبث والتفريط بحاضر المسلمين ومستقبلهم، وإلا صارت إفريقيا الوسطى التي أصبح يعاني نصف سكانها من الجوع والفقر والإرهاب نموذج يتكرر في كل البلدان، لا في بلاد الاستبداد وحدها، وإنما حتى في قلب "العالم المتحضر"..