لا أقصد أن التخلي عن النقاب أو عدم إلفه أو قبوله عُري، وإنما التخلي عن الأخلاق هو العري القيمي؛ فحين يجعل العالم من النقاب مشكلة دولية، وتتنافس الدول "الحرة" في حظره وتقييد حق المرأة في ارتدائه؛ فهو العري الحقيقي في أخلاق العالم الغربي، وهو التنمر السافر على المرأة، والتعدي على خصوصيتها وفق القيم الغربية الليبرالية.
عاشت أوروبا فترة طويلة تستعبد المرأة، وتعاملها كمخلوق أقل شأناً من الرجال، حتى بدأت من قريب تطور نظرتها المجحفة إليها بعد اعتناق أفكار ليبرالية تمنح المرأة ما يُتصور أوروبيا أنه يمنحها "حق المساواة" مع الرجل، لكنها سرعان ما عادت ضنينة على المرأة أن تحتفظ بهذا الحق؛ فعمدت إلى استلاب هذا الحق من مضمونه.
سلب المرأة حقها في تغطية وجهها هو ارتداد واضح عن الليبرالية الغربية مهما حاول أن يكتسي بمبررات واهنة، ومهما كان نطاق استهدافه قاصراً على المرأة المسلمة وحدها لاعتبارها واقعياً هي من تعمد إلى تغطية وجهها أحياناً استناداً إلى قناعة دينية لا تشاطرها إياها الأخريات، لأن الحريات لا ينبغي – وفق المنظومة الليبرالية – أن تتجزأ أو تستهدف عملياً قطاعاً دون آخر من المواطنين بتقييد حرياتهم المشروعة عليهم.
أوائل هذا الشهر دخل حظر على النقاب في النمسا حيز التنفيذ، لتصبح الدولة الأوروبية العاشرة التي تحظر النقاب، ومعه استدعيت إلى الذاكرة هذه الخريطة المرفقة، التي تجسد هذا العري الذي يتمدد ليشمل دولاً عديدة في العالم "المتحضر"!، فأن تكون المرأة، نقابها، مشكلة إلى هذا الحد، الذي يجعل الدول تتداعى إلى تحديد ما ترتديه المرأة إلى هذا الحد في العالم الذي يدعي منحها حريتها؛ فذاك أمر مخجل لكل غربي ومتغرب يدرك معنى مفهوم الحريات العامة والحقوق الإنسانية الشخصية، أو هكذا ينبغي أن يكون.
هذه الخريطة جد مؤسفة، فاضحة لحالة الاستبداد التي تمارس تدريجياً تجاه المرأة المسلمة، والمرأة بوجه عام، ربما نحن لا نشعر كثيراً بها، أو نتوقف طويلاً عندها لأسباب؛ فبعضنا يعتبر النقاب مسألة فقهية خلافية فهو لا يبالي كثيراً بسن مثل هذه القوانين، وبعضنا يعتبر أن من حق الغرب أن يفرض أجندته وتصوراته عن الحرية وفق ما يشاء، والبعض يعتبر أن المسألة لا علاقة لها سوى بـ"الإرهاب" وزيادة الاحتراز منه، وهو واجب أمني "مشروع".
وللأولين يقال إن الغرب يتسلل بنعومة الأفاعي لمنع الحجاب ذاته وليس النقاب أو البرقع فقط، وحين يمرر حظراً للنقاب بذريعة ضرورة الاندماج والتفاعل والتخاطب، سيجد ألف مبرر تالٍ لحظر الحجاب وغطاء الشعر، وتالياً ربما يتدخل أكثر في شكل الملابس التي ترتديها المرأة مثلما تواقحت فرنسا من قريب فمنعت "البوركيني" على الشواطئ ثم تراجعت تكتيكياً بعد أن تمرغت "عاصمة النور" المدعاة في الوحل أوروبياً بسبب هذا الإجراء الغريب.
وللتاليين، اقرؤوا إن شئتم نص القرار الذي تم تفصيله ليمس حق المرأة المسلمة وحدها، ويستهدفها قانونياً ويمنع أي محاولة للتماهي مع وإيجاد حلول وسط تحتفظ للمرأة بأدنى حق في تغطية جزء من وجهها؛ فالقانون علاوة على منعه النقاب والبرقع يحظر أيضاً ارتداء أقنعة التزلج على الجليد في غير مناطق التزلج، كذلك ارتداء الأقنعة الجراحية خارج المستشفيات، وأقنعة الحفلات التنكرية في الأماكن العامة!
مدوا الخط إن شئتم على "استقامته" بل على اعوجاجه؛ فلن ترون في نهاية الخط سوى محاكم التفتيش تعاود بناء جدرانها على مهل!
للأخيرين، تحمل نشرات الأخبار العالمية لهم تلك المفارقة؛ فبالتزامن مع سريان القرار النمساوي كان "جزار لاس فيغاس"، ستيفن بادوك يطلق مئات الرصاصات على أجساد متجمعين في حفل موسيقي في لاس فيغاس الأمريكي، مردياً ما يزيد عن خمسين ومصيباً ما يزيد عن خمسمائة آخرين، مستخدماً ترسانة أسلحة جلبها إلى غرفته بالفندق، من دون أن يطرف للغرب جفن عن فوضى سلاح فردي يفوق 270 مليون قطعة سلاح في الولايات المتحدة وحدها تتوافر في أيدي الملايين من الأمريكيين.
نقاب النمسا خطير لاحتمال أن ترتديه إرهابية تضلل به كاميرات المراقبة، لكن ملايين الأسلحة تلك في أيدي المراهقين والمجانين لا تشكل تهديداً محتملاً.. إنه الغرب حين يتعرى أكثر، والمؤسف أننا لا نستطيع أن نعيره بهذا؛ فهو لم يعد يرى في التعري ما يخجله حين أصبحت العفة - والستر - لديه مستقذرة مجرّمة!