الدهس الأمريكي الرحيم!
25 ذو القعدة 1438
أمير سعيد

دعونا نعيد تعريف الإرهاب من جديد؛ فلابد من أن تنحت عبارة ملائمة لترسم ملامح الإرهاب وتحدد تصوره؛ فلربما كان الأليق بالإرهاب أن يعرف كالتالي: "ارتكاب جرائم وأعمال عنف أو التحريض عليها أو التنويه إليها، يهدف مقترفها المسلم إلى تحقيق غايات سياسية"، إذ لا يجوز إخراج عنصر من عناصر التعريف منها، وإلا صار عملاً من أعمال العنف دون "ترهيب".

 

 

"أعتقد أن هناك أخطاء من كلا الجانبين، أي أنصار اليمين المتطرف الذين يؤمنون بنظرية تفوق العرق الأبيض على الأسود وأولئك الذين تظاهروا ضدهم (...) عندما أدلي بتصريح أحب أن أكون دقيقًا، أريد الوقائع، الحوادث كانت قد حصلت لتوها (...) اتضح لي لاحقًا أن كلا الطرفين كان عنيفًا جدًا". هذا النعت الذي ارتضاه زعيم البيت الأبيض، حاكم الدولة العظمى، دونالد ترامب لتوصيف الجريمة الإرهابية (وفقاً للتعريف القديم للإرهاب) التي حدثت في مدينة شارلوتسفيل بولاية فيرجينيا، جنوب شرقي الولايات المتحدة الأمريكية، والتي قام فيها يميني متطرف (وفقاً للتعريف العتيق أيضاً للتطرف) بدهس مجموعة من المتظاهرين المناوئين لمظاهرة حاشدة ضمت آلافاً من المؤيدين للجماعات العنصرية البيضاء بينها "كوكلكس كلان" و"النازيون الجدد" في المدينة، ما أسفر عن مقتل امرأة وإصابة 19 آخرين بجراح بعضها بليغ.

 

 

للأمانة؛ امتعضت قطاعات واسعة من الشعب الأمريكي، وكثير من ساسة الولايات المتحدة من الحزبين الكبيرين من امتناع الرئيس الأمريكي عن وصف العملية الإجرامية في المدينة الهادئة بالإرهابية، للأمانة أيضاً؛ فقد امتد الامتعاض إلى الدولة الأم، حيث شددت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي على ضرورة إدانة المسؤولين في أي بلد المواقف اليمينية المتطرفة، مضيفة أنه لا يمكن المساواة بين أنصار الفاشية ومن يناهضهم.

 

 

لكن لا تسعدوا كثيراً من "صحوة الضمير" هذه؛ فكثير من المحتجين على موقف ترامب، حد المطالبة بعزله، اندفعوا غاضبين بسبب خلفيتهم الرافضة للنازية التي حاربتها الصهيونية العالمية – ولم تزل – بكل قواها التقليدية وغير التقليدية.

 

 

ترامب متطرف، لا بأس، لكنه بأي حال رئيس الولايات المتحدة الأمريكية التي تنصاع لها معظم دول العالم، وتذعن لتعريفاتها وتصوراتها عن الإرهاب وغيره، وستذعن لتعريفاتها الجديدة، وتوجهاتها القادمة. وإن تناخر الغرب رافضاً لأفكار الرئيس الأقوى في العالم؛ فإنه لن يتجاسر على رفض تصوره بشكل كامل، لا لكونه مذعن فقط له ولدولته، وإنما أهم من هذا بكثير: لأنه يشاطر ترامب في كثير من أفكاره وإن غلفها بقشرة دبلوماسية رقيقة.

 

 

ترامب لم يصف الجريمة النكراء هناك بالإرهاب، لكن هل وصفها إعلام أوروبا بذلك؟ هل صنفتها بأكثر من أنها "عملية دهس"، أو عمل من أعمال "العنف"؟ أو من نجا من هذا المنزلق ووصفها بالإرهاب، هل ساواه بـ"إرهاب الفلسطينيين" إن صح التعبير؟! هل أفرد له تحليلات غزيرة، وأخرج لمناهضته توصيات كثيرة تتسلل إلى "دور العبادات" ومدارس الأطفال، لتغسل بذلك الأدمغة باسم "تجفيف منابع الإرهاب"؟! هل عقدت له مؤتمرات دولية، هل بادرت إلى تصديره في واجهة أجنداتها كبريات الدول لتجعله محل نقاش دول العشرين والاتحاد الأوروبي والمجلس الأوروبي والناتو ومجلس الأمن والأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية..

 

الخ؟! قطعاً إن شيئاً من هذا لم يحدث ولن يحدث، لا لأن إرهاب جيمس اليكس فيلدز بسيارته الأنيقة يمثل "حالة فردية" أو لأنه "يعاني اضطراباً نفسياً" أو لأن والده قد دهسه سكير في طفولته البائسة! فكل ما تقدم محض ترهات تخفي تعاظم النفس النازي واليميني المتطرف وتصاعد لهيب الكراهية والعنصرية في قلب الولايات المتحدة وأوروبا. الحق أن الجميع مدرك حجم قوة اليمين المتطرف التي جلبت ترامب للسلطة في الولايات المتحدة الأمريكية، وتقدر بنحو 25% من القوة التصويتية الصاعدة في مختلف دول أوروبا بحسب تقديرات أوروبية دقيقة إلى حد بعيد.

 

 

إن تلك النازية والفاشية التي تكرهها ماي لأسباب صهيونية، يتعاطف معها الغرب نفسه لأسباب تتعلق بالخطر الذي يتحد فيه "الصقور اليمينيون" والحمائم.. أو بالأحرى يتحد الصقور فيها من الجانبين ضد الحمائم المستضعفين في ديارنا.