في نور آية كريمة.. "وإن هذه أمتكم أمة واحدة"
19 رمضان 1440
أمير سعيد

"وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ" (52) المؤمنون

 

هذه الأمة، بمفهومها الواسع، أمة العقيدة، أمة الإسلام الممتدة عبر الزمن، يركز القرآن الكريم، وبأكثر من آية على وحدتها وتماسكها وامتدادها، يقول أبو الحسن الماوردي في تفسيره: "قوله: وإن هذه أمتكم أمة واحدة فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: دينكم دين واحد، قاله الحسن.
الثاني: جماعتكم جماعة واحدة، حكاه ابن عيسى.
الثالث: خلقكم خلق واحد".   
وتتبع الشنقيطي في سورة هود استعمال لفظ الأمة في القرآن فوجده على أربعة استعمالات:
الأول: المدة من الزمن، ومنه " وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة"
الثاني: استعمالها في الجماعة من الناس، وهو الاستعمال الغالب، كقوله "وجد عليه أمة من الناس يسقون".
الثالث: الرجل المقتدى به، كقوله "إن إبراهيم كان أمة".
الرابع: الشريعة والطريقة، كقوله "إن هذه أمتكم أمة واحدة".

وهي المراد هنا، والمعنى: وأن هذه شريعتكم شريعة واحدة، وهي توحيد الله على الوجه الأكمل من جميع الجهات، وامتثال أمره، واجتناب نهيه بإخلاص في ذلك، على حسب ما شرعه لخلقه"، وقال الرازي: "المعنى أنه كما يجب اتفاقهم على أكل الحلال والأعمال الصالحة فكذلك هم متفقون على التوحيد وعلى الاتقاء من معصية الله تعالى. فإن قيل: لما كانت شرائعهم مختلفة فكيف يكون دينهم واحدا؟ قلنا: المراد من الدين ما لا يختلفون فيه من معرفة ذات الله تعالى وصفاته، وأما الشرائع فإن الاختلاف فيها لا يسمى اختلافا في الدين، فكما يقال في الحائض والطاهر من النساء: إن دينهن واحد، وإن افترق تكليفهما".

"وأنا ربكم فاتقون"، قال الطبري: "يقول: وأنا مولاكم فاتقون بطاعتي تأمنوا عقابي، ونصبت أمة واحدة على الحال".  وقال النسفي في تفسيره: "والمعنى: وإن الدين دين واحد وهو الإسلام ومثله "إن الدين عند الله الإسلام" وأنا ربكم وحدي فاتقون فخافوا عقابي في مخالفتكم أمري"، ويقول القرطبي أنه عند سيبويه فإن "إن" متعلقة بـ"فاتقون"، "والتقدير فاتقون لأن أمتكم واحدة . وهذا كقوله تعالى: وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا؛ أي لأن المساجد لله فلا تدعوا معه غيره."

 

وبالعودة إلى قوله تعالى، "إن هذه أمتكم أمة واحدة"، فإن "أمة واحدة" تقع، ويقول عنها الزجاج إنها من "لطيف النحو وغامضه إذ لا تجوز إلا حيث يعرف الخبر". أي أن قول الله عز وجل "وإن هذه أمتكم أمة واحدة"، أمتكم خبر إن، وأمة حال، لابد للمخاطب أن يكون قد علم هذه الأمة حتى يخاطب بحالها، كقوله تعالى: "وهذا بعلي شيخاً" فلا يجوز أنها تشير لبعلها لتعريفه!

 

ومن لطيف اللغة يأتي لطيف المعنى، حيث هذه الأمة معلومة للمسلمين بهذا الامتداد التاريخي، حيث أمتنا الإسلامية تمتد جغرافياً وتاريخياً على هذا النحو، وهذا الامتداد التاريخي منذ آدم عليه السلام ينبغي أن يكون معلوماً لنا جيداً، ومع هذا العلم يأتي الترابط الذي لا يعرف غيرها إلا تالية لها كالقومية والقبلية والوطنية والجغرافية.  

 

إن هذا الالتفات إلى ترابط هذه الأمة بأنبيائها ومؤمنيها على مر العصور، وإلى وحدة طريقها، يحيل المؤمنين دوماً إلى معانٍ عديدة تتعلق بالإيمان، بالخطاب، بطرق التعامل مع المكذبين، بوحدة المؤمنين، بالولاء لهم والبراء ممن سواهم، بالإفادة من قصص الأنبياء ومعالجتهم لتحديات أقوامهم على اختلافها وتنوعها، حتى صار لشدة هذا الترابط جزء من قصص أنبياء هذه الأمة الممتدة محفورة في ذاكرة الشعائر الدينية؛ فلعاشوراء ارتباط بانتصاري نوح وموسى عليهما السلام، والمسار الذي اتخذاه مع قوميهما، وللحج ارتباط بآل إبراهيم عليهم السلام، وهكذا. وإن هذا الترابط الذي يشد آخر هذه الأمة بأولها، يجعل مدارك المسلمين أكثر اتساعاً في معالجة واقعهم. أيضاً يزيد من إيمانهم بصحة طريقهم، ويبين لهم فيه رفقاء الطريق الصالحين بل رواده الذين يتعين عليهم أن يقتفوا آثارهم وينحوا مناحيهم. وكذلك، يظهر وعورة هذا الطريق وتحدياته الهائلة التي تهدئ من روع كل مبتلى قد رأى من صبر الأنبياء وابتلاءاتهم ما يفوق قدرته هو على التحمل. وإن هذا الامتداد الزمني الطويل جداً يشي بأن لحظات الانكسار ظرفية طارئة، وأن العاقبة للمتقين دوماً، وأن الانتصارات لها ألوان شتى لا يمكن اختزالها في لحظات الظلمة والانكسار. هذه الأمة ظلت حية على الدوام، تستقي عزتها وكرامتها من عقيدتها، ثم من سير الأنبياء والصالحين الذين تزخر بهم هذه الأمة العظيمة.