فيما لا تزيد نسبة الكاثوليك في مصر في أعلى التقديرات عن 0.03% من تعداد سكان مصر؛ فإن بابا الفاتيكان قد حظي بحالة احتفائية استثنائية لا يطمح شيخ الأزهر نفسه في التطلع لا لمثلها بل لأدنى من ذلك بكثير، فقط أن يعفى والأزهر من حملة دعائية مسمومة غير مسبوقة في مصر تستهدف التعليم الديني برمته لاعتباره المتسبب الأوحد في "التطرف والإرهاب" على حد تفسيرات أرباب هذه الحملة.
استقبل البابا فرانسيس رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم استقبالاً سياسياً ودينياً رسمياً في مصر لم يسبق له مثيل، وأتيح له إلقاء كلماته "التبشيرية" "وصلواته" في فندق الماسة واستاد الدفاع الجوي. حيث احتشد الآلاف من النصارى من جميع الملل في الاستاد، وأقيمت الدعايات والزينات في طريق المطار والطرق المؤدية لأماكن فعاليات الزيارة.
وإذا كانت مشاهد من قبيل عناق شيخ الأزهر والبابا، وركوع وزيرة الهجرة عند السلام عليه وتصريحها بأن زيارته "ستجلب البركة لمصر"، وخلو شوارع القاهرة أثناء زيارته، وتحول الأماكن التي مر بها البابا في العاصمة المصرية إلى ثكنة، والمظاهر "المسيحية" التي طغت على تلك المناطق في بلد يمثل المسلمون فيه نحو 95% وفقاً لتقديرات رسمية سابقة، وتقديرات مركز بيو الأمريكي الإحصائي البارز، جميعها قد لاقت انتقاداً من قطاعات شعبية مصرية، إلا أن هذا كله لم يكن هو أول ما يسترعي انتباه متابعي هذا الحدث المهم. إذ ثمة ما يتعلق بأسباب تلك الزيارة ونتائجها يكتسي أهمية أكبر بكثير من أجوائها.
أبرز ما يُلتفت إليه هو التقارب اللافت بين الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية الذي توج في الزيارة بتوقيع البابا فرانسيس والبابا تواضروس "بيانًا تاريخياً مشتركاً لدعم وحدة الكنيستين وترابطهما، وإعادة الاعتراف المشترك بسر المعمودية."، وهو يعني عملياً "إنهاء الخلاف التاريخي بين الكنيستين لأول مرة منذ أكثر من 1500 عام، عبر الاعتراف بسر المعمودية لكليهما وهو أحد الأسرار الـ7 للكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية" – بحسب موقع "هافينغتون بوست عربى".. وهو ما يعني بدوره تقليص مسافة الخلاف بين الكنيستين من أجل وحدتهما، وهو اتفاق له بعده السياسي الكبير عالمياً، ومنه السماح بزيادة النفوذ الكاثوليكي في "حل مشكلات" مسيحيي الشرق، ومساندة الكنيسة الكاثوليكية لنظيرتها الأرثوذوكسية في مشاريعها السياسية في بعض البلدان الإسلامية. وفي هذا الصدد يلحظ اكتساء هذه الزيارة زخماً في أعقاب تفجيري الكنيستين وتهجير بعض الأسر "المسيحية" من سيناء، ما منح الزيارة بعداً سياسياً يتعلق باهتمام الكنيسة الكاثوليكية بالأقلية الأرثوذكسية بمصر، وبمشاريعها الخاصة.
تالياً، هناك السياق الذي جاءت فيه الزيارة في أعقاب تنامي الدور السياسي للبابا فرانسيس، والذي انهمك في الخطاب السياسي وانخرط في لعب دور أكبر داخل الاتحاد الأوروبي، ظهرت إحدى ملامحه في احتفال قادة أوروبا بالذكري الستين لاتفاقية روما، والتفافهم حول بابا الفاتيكان في الصورة الشهيرة التي التزم فيها جميع قادة أوروبا بارتداء ملابس سوداء بمن فيهن النساء (المحتشمات أيضاً) والتي تقدمهم فيها بابا الفاتيكان بملابسه البيضاء المميزة، وكذا اضطلاعه بدور أكبر في التأكيد على هوية أوروبا التي تعاني من نزعات التفكيك والانقسام على خلفية تراجع الاقتصاد، تلك الهوية التي أريد لها أن تكون لاصقاً لفسيفساء أوروبا القومية والوطنية في ظل تراجع النزعة الوحدوية فيها، وكذا في الاحتشاد الظاهر تحت المظلة "الدينية" في مقابل تحديات نمو القوة التركية على الأصعدة المختلفة خصوصاً بعد اتجاه تركيا إلى جمهورية جديدة بعد تجاوز رئيسها عتبة الاستفتاء على تعديلات دستورية وضعت من أجل تركيا قوية ومستقلة. وكذا، مع تنامي الدور السياسي الخارجي للفاتيكان والذي كان آخره طرحه لتصوره حول الخلاف الأمريكي الكوري.
مرت الزيارة على كل حالٍ، ولمّا يتضح أثرها الكامل بعد، لكنها خلفت عدداً من الشجون حولها من مثل التزامن بينها ومطالبات إعلامية مصرية عديدة بتقليص دور الأزهر وإلغاء جامعته، وتعديل قانونه، وإتاحة محاسبة وعزل شيخ الأزهر، لاسيما أن الزيارة توافقت مع الحكم بدعوى ضد د.أحمد الطيب تهدف لعزله.. ومن مثل المقارنة بين الاحتفاء ببابا الفاتيكان وتعرض العلماء والدعاة المصريين عموماً، أزهريين وغير أزهريين لحملات إعلامية مسمومة من أجل وضع ضوابط صارمة على خطابهم، وتحميلهم مسؤولية كل تطرف أو إرهاب تمر به البلاد.
والذي يستنفر شجون الألم أكثر، لا في مصر، بل في أوروبا ذاتها: تلك المفارقة المستفزة بين هذا الاحتفاء وإفساح المجال لرأس كنيسة خارجية أن يخاطب 10% من تعداد طائفته (27 ألفاً من 270 ألفاً هم عدد كاثوليك مصر في أقصى التقديرات جوداً!) في ساحة رياضية فيما يمنع من ذلك أي داعية مسلم في أوروبا ذاتها، إذ لم تعد أوروبا تطيق أن يخطب حتى شيخ الأزهر الموصوم دوماً بالاعتدال في تقدير عواصم أوروبا في حشد إسلامي في أوروبا في استاد كرة أو غيره (جل بخيالك حول 7 ملايين مسلم في فرنسا أو 3 بكل من بريطانيا وألمانيا).. هذا التضييق المستتر على الدعوة الإسلامية في بلاد الحرية ألا يدعو المسلمين البسطاء للتفكير فيما يراد بدينهم، وفي مساحات "الحرية الدينية" التي يراد لها أن تكون بمصر "مسيحياً" أكثر بكثير جداً من كبريات الدول الليبرالية الديمقراطية الأوروبية..
أوليس مجحفاً أن يوصم كبير أساقفة روما في قلب مصر بـ"بابا السلام"، وتعجز أوروبا – كل أوروبا – عن وصف شيخ واحد فقط يزورها – إن سُمح له – بأنه "شيخ السلام".. أكلنا صرنا صقور الإرهاب وهم قد غدوا حمامات السلام؟!