أسالت نتائج الانتخابات الرئاسية الفرنسية الكثير من الأحبار في تحليل نتائجها، وتوقعات الجولة الثانية فيها بعد نجاح كلٍ من مرشح حركة "إلى الأمام" إيمانويل ماكرون، في تصدر نتائج الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية، إلى جانب مرشحة "الجبهة الوطنية" مارين لوبان في الوصول للجولة الثانية من الانتخابات، بعد صراع تنافسي استطاع فيها الاثنان الإطاحة بمرشح اليمين المحافظ فرانسوا فيون وزعيم الحزب الراديكالي اليساري، جان لوك ميلونشون، والمرشح الاشتراكي بونوا آمون، لكن عاملاً مهماً لم يزل بعيداً دائرة النقاش في مثل هذه الانتخابات، وهو الخاص بمواقف واختيارات الأقلية المسلمة في التصويت.
ورغم أن ثمة من يعالج هذه القضية في وسائل الإعلام المختلفة، الفرنسية والأوروبية، إلا أن زوايا المعالجة بطبيعة الحال لا تمس التأصيل الشرعي ولا فكرة الانطلاق من خلفية دينية في الترشح أو التصويت في الانتخابات عموماً، تلك التي تحصل في بلدان غير إسلامية، تحكمها نظم ديمقراطية غربية بكل مفردات هذه الديمقراطية، ولا يكون فيها المسلمون أغلبية، ومن ثم لا يمكنهم حسم نتائجها، وإنما يكون أقصى إمكاناتهم هو مجرد التأثير في الاختيار بين السيء والأسوأ فيها.
ومن هنا كان مهماً الالتفات إلى دراسة قيمة فريدة تعالج "جدل الديمقراطية والمشاركة السياسية" – طبقاً لعنوانها - لفضيلة الشيخ الدكتور ناصر العمر، تتناول مستويات وظروف المشاركة السياسية في النظم الديمقراطية المختلفة، وأوجه المسموح والممنوع في تلك المشاركة، وحدود الترشح والتصويت ضمن أطر النظم الديمقراطية الغربية وغير الغربية.
وينضاف إلى تلك الأهمية ما قد استجد على تلك الممارسة الديمقراطية في الغرب من عدة جهات، منها
- صعود اليمين المتطرف في أوروبا، الذي بات يحمل على عاتقه مهمة إزاحة المسلمين من أوروبا، مدفوعاً بعدة محفزات، أبرزها الازدياد الكبير في نسب المسلمين في أوروبا عموماً، والهجرات الاضطرارية لمسلمي سوريا والعراق وأفغانستان وإرتريا وغيرها لدول أوروبا، والاضطرابات الهائلة في منطقتنا العربية التي ضاعفت من مخاوف الأوروبيين من الوجود الإسلامي في أوروبا، وعمليات العنف والإرهاب المتزايدة الموجهة في أوروبا، المنسوبة لمسلمين.
- القوانين والإجراءات المتناسلة من رحم الأنظمة الأوروبية، الهادفة إلى التضييق على المسلمين في شعائرهم وتعليمهم وحتى وجودهم وبقاءهم.
وفي قلب هذا، تكتسي الانتخابات الفرنسية أهمية مضاعفة، كونها الدولة الأكثر حضوراً للمسلمين المهاجرين والأصليين في الغرب الأوروبي، بنسبة تتراوح ما بين 10-12%، بما يعني أن للانتخابات الفرنسية، وللتصويت فيها أهمية تمس المسلمين كثيراً، لا في فرنسا وحدها وإنما في كامل الغرب الأوروبي، وفي مستقبل القارة برمتها. حيث تنزع الأقليات بصفة عامة نحو التكتل حال الاضطهاد والتضييق والمعاناة، والمسلمون ليسوا بدعاً من هذا السلوك الطبيعي.
أيضاً، كان الخيار على الدوام في فرنسا وغيرها بين متنافسين قريبين في برنامجهما فيما يخص سياسة فرنسا تجاه مسلميها. اختلف الوضع الآن، إذ صارت إحدى المرشحتين تنطلق من خلفية يمينية شديدة التطرف تتوعد بها المسلمين بإجراءات قاسية، وتحد من حرياتهم الدينية وغيرها.
كتلة كهذه، وظروف كتلك، تجعل من دراسة موجزة، استخدم كاتبها مبضع جراح في التفريق بين مدارس "أسلمة الديمقراطية"، و"دقرطة الإسلام" لدى المفكرين الإسلاميين والغربيين، وتبيان أوجه الخلاف في فهم تعامل المسلم مع الديمقراطية كمفهوم وإجراءات وآليات، والخلوص إلى وضع مبادئ عامة دقيقة يتعين الالتزام بها عند التعامل مع استحقاقاتها الانتخابية ونحوها، أهمية كبيرة.
تلك الأهمية تتعزز مع بروز أهمية صدور المسلمين في الغرب عن آراء موحدة فيما يتعلق بالانتخابات الرئاسية والبرلمانية والاستفتاءات حينما يكون لصوتهم تأثيراً في دفع أكبر المفسدتين بفعل أدناهما. وهو ما عالجته الدراسة بإتقان في مسألة "التصويت لمرشح أقل انحرافاً إذا علم أن ترك ذلك يسبب التصويت لمن هو أعظم انحرافاً"، والتي أجاد فيها المصنف في تأصيل ذلك شرعياً على نحو عميق، يرد فيه على شبهات القائلين بالتحريم في وقت لا يترك الأمر فيها سبهللاً لأهواء الناخبين.
الدراسة تضع معياراً ينبغي لمسلمي فرنسا ولغير فرنسا أن يضعوه نصب أعينهم، وهم يصوتون على انتخاب هذا المرشح أو ذاك، ولو لم يكن مسلماً بالأساس، ويعيد القاطرة على السكة الصحيحة، إذ لا ينبغي أن نستسلم لصدور الناس عن أهوائهم وابتعادهم عن الجادة في كثير من الأحيان لننزوي عن تبيان الحق لمن يريد، ذاك أن القول بأن معظم مسلمي فرنسا وغيرهم لا يقفون طويلاً أمام تأصيل كهذا، وكثير منهم يبلغون من التقصير حدوداً مزرية بحيث لا يضعون مثل هذه الأحكام في اعتبارهم لا يبرر للعلماء الانسحاب من حياتهم وترك مهمتهم الموكلة إليهم.. وهي رد المسلمين إلى جادتهم، وتبصيرهم بعقيدتهم وأحكام دينهم، أو بالجملة: إعلام الناس بدين رب العالمين.
للاطلاع على الكتاب وتحميله اضغط هنا