بعد لندن.. الهدف التالي ليس سراً
25 جمادى الثانية 1438
أمير سعيد

الهجوم الذي وقع بالقرب من البرلمان البريطاني حقق على ما يبدو هدفه المرسوم بعد ساعات قليلة من وقوعه؛ فلقد أريد له أن يثير غباراً، ولقد أثاره.

 

لندن، كانت هدفاً متوقعاً لمثل هذه الضربات الخفيفة التي لا هي تستند على مسوغ شرعي ولا تحمل هدفاً سياسياً سوى منح نار اليمين المتطرف الوقود الذي يلزمه لمزيد من الاضطرام.

 

استهداف لندن لا يحمل مفاجأة؛ فجملة العمليات العنيفة عموماً في أوروبا سارت على خط مدروس يمر بأكثر العواصم كثافة إسلامية في القارة العجوز، ويشيح بوجهها عن فكرة "القبول والتسامح والتعايش" مع المسلمين، وهي الفكرة التي انتعشت في أعقاب انفتاح أوروبا على المهاجرين نسبياً بعد الحرب العالمية الثانية رغبة في إعادة البناء بتكاليف قليلة نسبياً مع استقدام عمالة أجنبية رخيصة الأجر تتولى إعمار ما هدمته الحروب.

 

أوروبا التي أفاقت من "سكرة التعايش" وانتبهت إلى هذه "القنبلة الديموغرافية الإسلامية" التي انفجرت في أهم عواصمها ومدنها الكبرى أراد يمينها المتطرف أو أريد لها خارجياً العودة بعكس السهم في الاتجاه الآخر، اتجاه لفظ المسلمين وإخراجهم بالتدريج من دول أوروبا، لاسيما الغربية ذات الكثافة الإسلامية العالية، مثل فرنسا، بريطانيا، ألمانيا..

 

للتذكير بالتاريخ: قد كان منطق القساوسة الذين ابتدعوا فكرة "محاكم التفتيش" هو أن المسلمين الذين تنصروا قهراً في الأندلس قد باتوا في دائرة الشك باعتبارهم قد تنصروا في الظاهر وبقوا على دينهم في الباطن، وأنهم بالتالي "لم يندمجوا كلية في المجتمع الجديد"، وعليه؛ فإنه يتعين على السلطات السياسية، وأداتها الدينية أن تراقبهم جيداً، وتفتش عليهم حتى داخل بيوتهم لتضمن ولاءهم التام للكنيسة، و"اندماجهم في المجتمع الأوروبي". وقد أخذت السلطات الأوروبية سواء في شبه الجزيرة الإيبرية (إسبانيا والبرتغال)، أو في الامتداد اللاحق بفرنسا وغيرها من وقوع بعض الحوادث التي تدل على بقاء بعض المسلمين على دينهم مبرراً لشيطنة الجميع ووضعهم تحت عدسة المفتشين الذين فرضوا على هؤلاء المتنصرين إجراءات مجحفة منها فتح أبواب منازلهم دوماً لضمان سهولة التفتيش المفاجئ عليهم!

 

أوروبا تحتاج للعودة إلى هذا الطريق – بحسب يمينها المحافظ – ولو بغير هذه الفجاجة، ولو بعودة تدريجية طويلة الأمد تضمن عدم التحول المفاجئ من الحالة الانفتاحية الليبرالية إلى الانغلاقية الاستبدادية. ولكي تعود، أو يعود بها الصهاينة إلى هذا تدريجياً وعلى مدى طويل تحتاج لدعم اليمين المتطرف بمثل هذه الأعمال العنيفة المتدحرجة وصولاً إلى شيطنة سائر المسلمين في أوروبا وتهيئة الرأي العام لاتخاذ إجراءات تعسفية ضدهم شيئاً فشيئاً.

 

زراعة الخوف هي الطريق الأقصر لفرض قوانين وظروف استثنائية، وتهيئة المناخ للاستبداد، ولو اقتصر على أقلية دون الأكثرية، الأقلية التي يُرى على نطاق يتسع يوماً بعد يوماً أنها قد تجاوزت حدودها السكانية وأصبحت تمثل تهديداً حقيقياً دعا إلى التشديد في الخطاب الأوروبي، السياسي والإعلامي بكثرة على فكرة "الاندماج" والقبول بنمط الحياة الغربي شرطاً أساسياً لاستمرار بقاء "الأجانب" بشقيهم الأصلي والمهاجر في بلاد أوروبا.

 

بريطانيا هي واحدة من أكثر الدول التي تتعامل بشكل معتدل نسبياً مع المسلمين من مواطنيها ومقيميها وزائريها، وهذا الاعتدال النسبي مستهدف بشكل مباشر. إن تشريحاً دقيقاً لحالة مسلمي بريطانيا منذ عقود وحتى الآن يوضح أن هذا الاعتدال آخذ في الذوبان لكن ببطء. لا يمكن مقارنة فعاليات المسلمين وتظاهراتهم ومؤتمراتهم واستضافاتهم للأئمة والدعاة اليوم في بريطانيا بما كان قبل سنين، لكن مع هذا لا يمكن لمنصف أن يسلب بريطانيا تميزها في معاملة المسلمين مقارنة بدول أوروبية أخرى كفرنسا مثلاً، صاحبة أكبر كتلة مسلمة سكانية مسلمة في أوروبا الغربية.

 

رد فعل رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي لم يكن متشنجاً حين صرحت فور وقوع عملية الدهس والطعن التي أوقعت 45 شخصاً ما بين قتيل وجريح بأن "الإرهابي اختار الهجوم في قلب العاصمة حيث يأتي الناس من كل الجنسيات والديانات والثقافات للاحتفاء بقيم الحرية والديمقراطية وحرية التعبير(...) وأن أي محاولة لضرب هذه القيم عبر العنف أو الإرهاب سيكون مصيرها الفشل"، لكن هذه النبرة لن تحد من تطلعات اليمين في تحويل مسار النظم البريطانية الليبرالية التي أفاد منها المسلمون طويلاً هناك، كما أن العمل الذي قام به مسلم على الأرجح سيعزز من مناخ الكراهية في بريطانيا، لكن كما تقدم ببطء، بطء يفي لبرنامج شيطنة المسلمين بالقدر المرحلي الملائم في الوقت الراهن.

 

أوروبا تتجه لليمين برمتها، حتى في هولندا التي لم يحقق اليمين المتطرف فوزاً بانتخاباتها الأخيرة لكنه تحرك خطوة للأمام، وكذا في كثير من دول أوروبا الغربية التي ارتفعت فيه حظوظ اليمين لما يتردد ما بين 15-25% في الانتخابات القادمة، هذا الرقم يتقدم رويداً ضمن برنامج صهيوني ناجح حتى الآن. بالنظر إليه، يمكننا توقع التالي، في واحدة من عواصم أوروبا ذات الكثافة المسلمة نسبياً.