من وحي اللحظة: التفاتة جديدة لكتاب "مائة مشروع لتقسيم تركيا"
16 جمادى الثانية 1438
أمير سعيد

مع اشتداد الأزمات بين الأتراك والأوروبيين، على خلفية رفض الأوروبيين لانبعاث الدولة التركية على أسس حضارية، حيث خلصت أوروبا إلى قراءة "صليبية" لنهضة "عثمانية" متمثلة في الدولة التركية الحديثة برئاسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وانسياب دلائل هذه المقاربة الأوروبية في العديد من الخطابات والتحليلات والتقارير والسياسات التي ما فتئت تتحدث عن تلك الدولة كوريث باعث للدولة العثمانية القديمة متطلعاً إلى قوتها ونفوذها وأملاكها القديمة وأسسها الإسلامية العريقة، تظهر الحاجة للخوض في جذور هذه العلاقة العدائية الممتدة عبر القرون بين "الدولة العثمانية"، وأوروبا بتنوعاتها الإمبراطورية والملكية والجمهورية. تلك العلاقة التي اتسمت بعداء مستمر لم تفتر جذوة ناره يوماً واحداً على النحو الذي رصده الوزير الروماني ت. ج. دجوفارا، المبعوث فوق العادة إلى الآستانة في كتابه الرائع "100 مشروع لتقسيم تركيا"، والذي صدر قبل مائة عام تقريباً، وصدره مختصراً إلى العربية، ومعلقاً عليه، الأمير شكيب أرسلان في كتابه "التعصب الأوروبي أم التعصب الإسلامي"، واعتنى به تهذيباً وتعليقاً وتقديماً المفكر البارز الدكتور محمد العبدة.

 

 

الكتاب يمتاز برصده الدقيق لمائة مشروع حقيقي – لا مجازي – خلال تلك الفترة الممتدة ما بين عامي 1381 و 1913م أي بمعدل مشروع تقسيم أو حرب أو صراع حقيقي كل خمس سنوات تقريباً، وهي مدة قصيرة جداً تبرهن على معانٍ عديدة، أهمها:

 

- هذا الجلد والإصرار الذي اتسم به الأوروبيون في مساعيهم خلال خمسة قرون ونيف لإزالة أو هزيمة أو تقسيم الدولة العثمانية، الحامية الأولى للمسلمين على مدى تلك القرون، وهو الذي أشار إليه الصحابي الخبير عمرو بن العاص رضي الله عنه حين وصف الروم بقوله: " إن فيهم لخصالاً أربعاً: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة..." [رواه مسلم]، جلد ومثابرة لافتين على نحو يقول عنه د.العبدة في مقدمته أنه من خلال تلك المشاريع المائة التي رصدها الكتاب يظهر "مكنون العقل الغربي، وكيف يُفكِّر ويُدبِّر، وكيف يُتابِع مشاريعَه الكَرَّة بعد الكرة؛ حتى يَصِل إلى أهدافه، فإن أوربا ما فتئت تُخطِّط لتقسيم العالم الإسلامي، وكانت الدولة العثمانية في المواجهة"، ويضيف في موضع آخر: إن "وأول ما يَلفت النظر في هذه المشاريع هذا الدأب الذي لا يَمَل ولا يَكِلُّ، وهذا الإصرار رغم الفشل الذي أصاب الكثير منها، أو إهمال الحكومات لبعضها، وهذه مَيزة تُحسَب لهم، وإن كانت سيئة بالنسبة لنا"

 

-  وهذا التوافق والتساند والتعاون الذي جعل مهمة إسقاط دولة الإسلام في هذا العصر وظيفة عامة يتشارك فيها الساسة والمفكرون والقساوسة على النحو الذي أشار إليه د.العبدة في تعليقه، تتولى كبرها مرة بريطانيا وأخرى فرنسا وثالثة روسيا ورابعة بروسيا (المملكة الألمانية القديمة)، وهكذا، كل يؤدي دوره "التاريخي" في وأد الوحدة الإسلامية وتدمير دولتها الرائدة وتقطيع أوصالها.

 

- وتلك الكراهية التي حفزت هذه الشعوب، وحكامها، وكنائسها؛ فغدت تلعن كل تركي وتعادي كل مسلم، وينقل د.العبدة عن أحد الباحثين في كتابه قوله: "آثار حملات (الكراهية الأوروبية للإسلام متجسداً لديهم في الأتراك) يمكن العثور عليها في الحضارة الأوروبية الحالية، مثلاً في الاستعمال المهين لكلمة (تركي) بمعنى (غبي) في اللغة الهولندية".

 

 

الكتاب أيضاً يكتسي أهمية مضاعفة، لا من كونه الوحيد تقريباً الذي رصد هذا الكم الهائل من المؤامرات (التي أسماها مشاريع)، على الدولة العثمانية (التي أسماها تركيا)، وجمعها بين دفتي كتاب واحد فحسب، إنما أيضاً لصدوره عن وزير مرموق يوثق جيداً ما يقول، ومن أوروبي تنتفي عنه تهمة المبالغة والمجاملة، ومن فريق يعد منتصراً من تلك الجولات المتتابعة المتقادمة، فليس في كلامه شبه مجاملة لطرف كان في توقيت صدور هذا الكتاب (1914م بطبعته الأولى الفرنسية بباريس) يعد "رجلاً مريضاً" أو في تقدير تلك اللحظة ميتاً إكلينيكياً.

 

 

غير أن ما يسترعي الانتباه في الكتاب الآن، ليس هذا الاستعراض المطول، ولا سلاسل المؤامرات، وإنما تكرارها الآن، وبمعانيها الثلاثة آنفة الذكر، الإصرار والإفاقة بعد الإخفاق، التساند الأوروبي، الكراهية. في أزمتنا الحالية تتجلى هذه بوضوح، إذ لو كان ت. ج. دجوفارا حياً اليوم، لأكمل مهمته في رصد استمرار هذه المؤامرات (المشاريع)، حينما التفتت أوروبا إلى "تركيا" فوجدتها قد استحالت في عينها "عثمانية"، لكن ربما بتسارع مذهل، يفوق فوارق السنوات الخمس الفاصلة بين مشروع وآخر كمعدلات تقديرية، إذا إنه بوسعنا أن نرصد عشرات المؤامرات المتلاحقة في هذا المدى القصير وحده: خمس سنوات، لكن بلغة عصرية، من حملات دعائية تسعى لإسقاط حزب الحكومة في الانتخابات، أو إفقاده الغالبية، أو تقييده قضائياً، أو ملاحقته أوروبياً، أو استنزافه سوريا وعراقياً، أو حصاره إقليمياً ودولياً، أو تدابير متلاحقة لأكثر من انقلاب فاشل لم يطفئ حماسة مدبريه من تكراره، ومن بث الخلايا الإرهابية ودعمها في أراضي دولته، ومن تأييد النزعات الانفصالية في إقاليمه، ومن العمل على مصادرة سيادة دولته وإرادته وتوجيه دفة سلطته.

 

إن اللافت فيما تقدم: أنه الإصرار ذاته، والكراهية عينها، والتضامن الأوروبي نفسه، لم يتخلف أي من هذه العناصر، ولا تلك المعاني؛ فلا "المدنية الحديثة" حالت دون العمل على إسقاط نظام ديمقراطي، ولا العلمانية الأوروبية حدت من غلواء تعصبها الصليبي وكراهيتها المتأصلة، ولا المصالح البينية شقت وحدة الأوروبيين في اصطفافهم ضد تركيا.. أو للدقة ضد انبعاث "الدولة العثمانية" من جديد.