يُعرّف التفاوض على أنه حالة الحوار التي تنشأ بين طرفين متنازعين بغية الوصول إلى تسوية للموضوع المتنازع حوله، نتيجة عدم قدرة أي طرفٍ على حسم النزاع الدائر لصالحه.
وبناء على ذلك فإن التفاوض يمثل في كثيرٍ من الحالات شكلاً آخر للنزاع الدائر على الأرض بين طرفين، إذ يمكن اعتبار المفاوضات ساحة مواجهة بين قوتين وينطبق عليها ما ينطبق على استراتيجيات وتكتيكات العمليات العسكرية والحروب.
في المشهد السوري؛ يشير التحليل المبدئي إلى محاولة للجمعٍ بين متناقضين، فالتفاوض ينتج عنه عادةً مكاسب لكلا الطرفين، بينما يؤسس مفهوم الثورة لسلطة بديلةٍ تطيح بمقومات السلطة السابقة شكلاً ومضموناً، فدخول المعارضة في مفاوضاتٍ مع النظام للتوصل إلى تسوية يناقض مفهوم الثورة الهادفة إلى إسقاطه من حيث المبدأ، ولذلك فإنه كان من المتوجب منذ جنيف (1) إدراك أن الهدف الفعلي من المفوضات هو استخدامها كحلقة من حلقات الصراع، بحيث تكسب الثورة مزيداً من الوقت أو الدعم أو التأييد الداخلي والخارجي، أو أن تحاول قوى الثورة فرض أمرٍ واقعٍ يقلل من مصادر الدعم الخارجي للنظام وإظهار ضعفه لدى الشرائح المؤيدة له من خلال العمليةالتفاوضية نفسها، وإفقاده أية مكاسب يمكن أن يحققها على الأرض.
ونظراً لإدراكه استحالة التوصل إلى تسوية تفاوضية ضمن صراع صفري؛ اتبع النظام تكتيك "مفاوضات الخداع"، وهي: المفاوضات التي يدخلها أحد الأطراف بنية عدم الالتزام بما سينتج عن العملية التفاوضية وعرقلة جهود الوصول إلى أي اتفاق، وذلك من خلال استخدام تقنيات الخداع وألاعيب التفاوض، ومنها: التهرب من التفاوض بحجة عدم شرعية أو صلاحية الطرف الآخر لإبرام تسوية، والعمل على إحراج الطرف الآخر وإظهاره بصورة المعرقل والمسؤول عن أعمال العنف والدمار من خلال اتهامه بالإرهاب. وفي هذه الأثناء يستفيد الطرف المخادع (النظام) من التغطية الإعلامية الدولية لتوجيه خطاب إعلامي مدروس لتشويه سمعة الطرف الآخر، ويوظف العملية التفاوضية كأداة تسويفية لتحقيق أقصى مدى من التوسع على الأرض، وتحييد عناصر القوة لدى خصمه وإضعاف صورته أمام حاضنته الشعبية ومؤيديه.
وفي ظل احتباس الدبلوماسية الدولية إزاء سوريا، وعمق المتغيرات الإقليمية، واستعار الخلاف الأوروبي-الأمريكي حول مستقبل "ناتو" والموقف من التعاون الروسي-التركي؛ استهل العديد من المسؤولين الغربيين جنيف (4) بالتقليل من فرص التوصل إلى نتائج ملموسة، بما فيهم المبعوث الأممي لسوريا ستافان دي مستورا الذي قلل من سقف توقعاته من النسخة الرابعة من جنيف قبل بدايتها.
لكن المشهد كان مخالفاً للتوقعات؛ حيث وقف النظام في موقف المتفرج، في حين أصبح دي مستورا هو المفاوض نفسه، حيث ارتكز على مخرجات "أستانة" كرافعة، واستند إلى الطرح الروسي فيما يتعلق بمفاهيم: العمل من خلال شرعية النظام، والاحتكام إلى صناديق الانتخابات لتقرير مصير بشار الأسد، واقتراح دستور يقر علمانية الدولة ويستحدث هوية فيدرالية جديدة.
المثير للاهتمام أن دي مستورا بدا ثابتاً على إستراتيجيته التفاوضية السابقة، والتي تتمثل أهم ملامحها فيما يلي:
- الطعن بمفهوم تمثيل الهيئة العليا للمفاوضات لقوى المعارضة، والعمل على إدخال أكبر قدر من "المعارضة الرديفة" التي تلتقي مع النظام في مسائل كثيرة أبرزها بقاء بشار الأسد، بينما تختلف مع الهيئة في معظم مبادئها.
- الطعن في رؤية الهيئة لعملية الانتقال السياسي، وخاصة فيما يتعلق بمغادرة بشار الأسد وإنشاء هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات التنفيذية.
- فرض تعدد المسارات وتوازيها، بهدف إرجاء القضايا الخلافية، وتحقيق منجزات على الأرض يمكن الارتكاز عليها مستقبلاً في جنيف (5) و(6) و(7) و.... ريثما تحقق القاذفات الروسية من الجو والميلشيات الإيرانية على الأرض ما لا يمكن تحقيقه في جنيف.
وفي الوقت نفسه؛ بدا النظام ثابتاً على مواقفه التفاوضية كذلك، والتي تمثلت في:
- الاستمرار بالتصعيد الميداني وتكثيف عمليات القصف الجوي والمدفعي وارتكاب المجازر بحق المدنيين.
- الإصرار على تكتيك: "مناقشة الإرهاب أولاً" كمبرر للتصعيد.
- رفض الحديث عن الانتقال السياسي بشتى صوره.
- الطعن في شرعية المعارضة وتمثيلها، وعدم الاعتراف بها كطرف مفاوض.
أما الوفد التفاوضي الذي عينته الهيئة العليا للمفاوضات فحمل في جعبته الكثير من المفاجئات، أبرزها:
- القبول بتعدد المنصات ابتداء من الجلسة الافتتاحية، مما يعد تغيراً في الموقف السابق للهيئة في جنيف (3)
- التنازل عن مطالب الهيئة السابقة بضرورة وجود أجندة تفاوضية واضحة، وجدول زمني ملزم لمنع النظام من التسويف والمماطلة.
- التنازل عن مطالب الهيئة بتحقيق البنود الإنسانية 12 و13 و14 من قرار مجلس الأمن 2254/2015، وعن المطالبة بإجراءات حسن النية، والتغاضي عما صدر عن الفصائل من بيانات سابقة بضرورة تفعيل الهدنة قبل أية عملية تفاوضية، والإصرار على عدم النية بالانسحاب رغم الخروق الواسعة للهدنة، وسقوط أكثر من 500 قتيل أثناء المفاوضات.
- التنازل عن المطالبة بلزوم التراتبية في تنفيذ بنود القرار 2254/2015، والقبول بدلاً من ذلك بتعدد المسارات وتزامنها، وذلك بعد أن رفض الوفد هذين المبدأين في وثيقة سابقة.
- التجاهل الكامل لرؤية الانتقال السياسي التي أصدرتها الهيئة العليا للمفاوضات، والاستماع المطول لمحاضرات "السيد مارك"، عن رؤية دي مستورا المتماهية مع الرؤية الروسية لعملية الانتقال السياسي والإنصات لقائمة "الأخطاء الفادحة" التي ارتكبتها الهيئة في وثيقتها، دون أي اعتراض.
- القبول بترحيل التفاصيل الميدانية وما يترتب عليها من انتهاكات إنسانية جسيمة إلى أستانة، وبذلك استطاع دي مستورا أن يستحدث مساراً خامساً (سلة تفاوضية خامسة لترضية روسيا بالإضافة إلى إضافة سلة الإرهاب قبلها لترضية للنظام) تناقش فيه خروقات الهدنة والانتهاكات الإنسانية الملحة في أستانة، مما يرفع عن كاهله إشكالية الفشل في توفير إجراءات حسن النية وفق القرارات الأممية الملزمة، ويكفيه مؤونة التغاضي عن جرائم استمرار الحصار والتجويع والتهجير القسري والقصف الجوي والمدفعي والاعتقال التعسفي وغيرها منه الإجراءات البربرية التي تعكر صفو جنيف.
- ارتكاب مخالفة بروتوكولية فادحة من خلال الجلوس مع نائب وزير الخارجية الروسي غينادي غاتيلوف، وعقد جلسات موازية للفصائل مع جنرالات روس في دهاليز الفندق، مباشرة بعد استخدام روسيا حق النقض "الفيتو" ضد مشروع قرار لمجلس الأمن الدولي بفرض عقوبات على النظام السوري لاستخدام السلاح الكيميائي، حيث اختار الوفد توقيتاً غير ملائم لتنفيذ إستراتيجية "الضغط على النظام عبر حلفائه الروس" في ظل موجة الشجب الدولي للتغطية الروسية على جرائم النظام، واستمرارهم في انتهاك هدنتهم عبر قصف المناطق الآهلة بالسكان.
- الوقوع في فخ الخوض بتفاصيل المسارات، بدلاً من التركيز على حزمة المبادئ التي ترغب الهيئة العليا للمفاوضات بتثبيتها، والمواقف التي يتعين تسجيلها أمام المشهد الإعلامي الدولي، حث آثر الوفد الظهور بمظهر المتعاون مع دي مستورا والمستمع لتعليمات فريقه الفني الجيد، مؤثراً التغاضي عن حزمة المبادئ التي تبنتها الهيئة من قبل.
- الاستثمار في تخطئ مواقف الهيئة السابقة في جنيف (3)، والتعريض بها علناً في التصريحات الإعلامية وفي الاجتماعات الهامشية مع ممثلي الدول والبعثات الرسمية، مما دفع النظام والروس لتعميق الشرخ عبر الطعن في الهيئة والإشادة بتعاون "رئيس الوفد"، في حين دأبت وسائل إعلام النظام على تسريب تفاصيل الخلافات بين الهيئة ووفدها خلال جنيف (4).
انعكس المشهد المزري لوفد الهيئة في وضاعة مخرجات جنيف (4)، والتي وصفتها بعض المصادر الإعلامية العالمية بأنها "وصفة الفشل"، في حين كان المشهد الاحتفالي للوفد بـ:"منجزات لا يمكن رؤيتها الآن" مثيراً للشفقة، في ظل الأداء التفاوضي المتردي وحزمة التنازلات التي تم تقديمها على حساب مبادئ وأسس العملية التفاوضية.
بشار الجعفري بدأ مباشرة في استثمار منجزاته هو، عندما حظي بموافقة دي مستورا على إدماج "سلة الإرهاب" في المفاوضات المقبلة، وطالب بمفاوضات مباشرة مع وفد موحد للمعارضة، إذ إنه يعلم أن الخلافات بين المعارضات الهجينة ووفد الهيئة (الذي قبل بتعدد المنصات) هي قنبلة موقوتة يمكن أن تنسف ثوابت الثورة برمتها، وويدرك كذلك أن مسودات دي مستورا تعزز سلطة نظام دمشق، وتمنحه الشرعية التي فقدها من خلال موافقة المعارضة على تشكيل: "حكومة" انتقالية تحت رئاسة بشار الأسد، وتبني دستور روسي، وإجراء انتخابات "نزيهة" تشرف عليها مخابرات بشار الأسد.
لا يمكن التغاضي عن الدور الذي مارسته بعض العناصر "المكبوتة" في الوفد الجديد من التشدد الذي أبدته الهيئة في جنيف (3)، ورغبة هذه العناصر في أداء دور أكثر مرونة، وذلك عبر التنازل عن حزمة الثوابت التي وضعتها الهيئة، مدعين أنهم لم يحددوا مواقف مسابقة، وإنما اقتصروا على دور المستمع، و"أحرجوا نظام بشار المتعنت" أمام الرأي العام الدولي.
ومن الصعب التغطية على خلافات الكواليس -التي كان النظام أكثر المطلعين عليها- بين أعضاء الوفد من جهة ومكونات الهيئة من جهة أخرى، مما يدعونا لتقديم جملة من التوصيات لتحسين الأداء الدبلوماسي للهيئة فيما يلي:
1-الانطلاق من تحولات المشهد الدولي، المتمثل في هيمنة التوافقات التركية-الروسية، وتوتر العلاقات الأوروبية-الأمريكية، وتسرب تفاصيل الخطط التي تتم صياغتها بشأن نوايا التصعيد العسكري في مختلف الجبهات، وعزوف بعض القوى الإقليمية الفاعلة عن المشهد ريثما تتضح ملامح المرحلة.
2- الإدراك بأن المؤتمرات التفاوضية لا تعدو أن تكون عمليات استعراضية يقوم بها كل طرف دولي فاعل بالضغط على الجماعات السورية المحسوبة عليه لتقديم تنازلات كبادرة حسن نية لنظرائه من اللاعبين الدوليين، بعيداً عن أية أجندة سورية، وهي الظاهرة التي تحدثت عنها صحيفة "الخليج" الإماراتية عندما أشارت إلى وجود: "مفاوضات جانبية أكثر أهمية تدور في كواليس الفندق الذي تنزل فيه الوفود، مع مبعوثي وسفراء الدول الداعمة لها"، ومن الخطأ الفادح أن يُغلّب بعض أعضاء الوفد نزعتهم لإرضاء الأطراف المتنازعة على الحاجة الملحة لتحقيق التوافق بين فريقهم التفاوضي، إذ إن هذا التكتكيك البدائي لا ينتج عنه في العادة إلا سخط جميع الأطراف.
3- العمل على معالجة الخلاف المستحكم بين مكونات الهيئة من جهة، وبين الهيئة وأعضاء وفدها التفاوضي من جهة أخرى، وعدم السماح لبعض الدول "الصديقة" بممارسة دور الوصاية على حساب التوافقات السورية، وعدم إتاحة المجال لفريق المبعوث الأممي أن يتفاوض سراً مع بعض الفصائل على تشكيل وفود منفصلة أو استحداث منصات جديدة.
4- إعادة تشكيل الوفد التفاوضي على أسس من الخبرة والكفاءة، وتحديد مبادئ يتعين الالتزام بها لتفادي الأخطاء السابقة، واتخاذ الإجراءات اللازمة لتحقيق التجانس بين أعضاء الوفد ومكونات الهيئة، وإتاحة الوقت الكافي لإعداد آلية عمل تحترم الخصوصية وتحدد نمط التراتبية وآلية عمل الفرق المشاركة.
5- العمل على تعزيز الاحترافية في الأداء التفاوضي، والارتكاز على مبادئ وإستراتيجيات تنطلق من إدراك طبيعة الصراع الصفري بين: نظام يصر على البقاء ومعارضة تصر على مغادرته، وبالتالي فإن الهدف الأسمى من العملية السياسية في مثل هذه الحالة هي تخفيف معاناة السوريين ووقف الانتهاكات ضدهم، والإصرار على تحقيقها وفق القرارات الأممية واجبة التنفيذ الفوري وغير المشروط، وليس ترحيل هذه المسائل الأساسية إلى "وقت آخر" أو إحالتها إلى منصات تفاوضية مغايرة في دائرة مفرغة لم يعد يرى الشعب من خلالها بصيص أمل.
6- امتلاك أدوات اللعب مع الكبار، بعيداً عن بعض أدوار القوى الخارجية التي تقزّم الكرامة السورية وتنتهك هيبة المعارضة، وعدم الاستجابة للضغوط الجانبية من الممولين أو الداعمين فيما يتعارض مع المبادئ المتوافق عليها، آخذين في الاعتبار أن الدبلوماسية الأممية وجلسات المفاوضات في جنيف 1-4، وأستانة 1-2، لا تعدو أن تكون واجهة لتوافقات إقليمية ودولية أكثر من كونها عملية تفاوضية بين طرفي نزاع.
7- عدم الاحتفاء بأية تنازلات يضغط بها الراعي الروسي على وصيه في دمشق، فالمشهد القتالي الدائر أعقد من تنازلات تفصيلية يقدمها الجعفري في إحدى سلات دي مستورا، بل يجب الإدراك أن النظام ما هو إلا طرف هامشي في صراع دولي لا يملك فيه نظام بشار المتهالك الشرعية ولا السيادة على الأرض ولا السيطرة على القوة النارية التي تتولاها نيابة عنه موسكو وطهران ومرتزقة الميلشيات اللبنانية والعراقية والباكستانية والأفغانية التي لا تخضع للقانون الدولي ولا تتأثر عاطفياً بتنازلات المعارضة في أروقة جنيف.
إن الأداء السياسي للمعارضة السورية يجب أن ينطلق من أسس مدروسة في معادلات إدارة الصراع، ويتعين الأخذ بعين الاعتبار أن القوى الدولية الفاعلة تمارس دبلوماسية رديفة خارج المظلة الأممية للتوصل إلى توافقات حول الملف السوري، مما يضعف فرص التوصل إلى حل سياسي عبر جنيف أو أستانة، خاصة وأن القوى الكبرى تنظر إلى سيناريوها الحسم من خلال تعزيز فرص التوافق بينها لاقتسام مناطق النفوذ ونشر القواعد الجوية والبحرية كوسائل لحسم النزاع.
لعل الخطأ الأكبر في مفاوضات جنيف (4) هي أن وفد الهيئة لم يكن يدرك أن المفاوضات مع النظام لم تبدأ بعد وأنه دوره كان يقتصر على التفاوض مع دي مستورا ضمن حزمة مبادئه ورؤيته لحكومة انتقالية...تحت مظلة النظام.